يقول الله سبحانه وتعالى:
(وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج: 27).
لو أننا عيّنا الرحلة على أنها تنقل وتحرك حافل بالمعلومات والعبر والمناهج والسبل المتفاعلة لإنتاج هذا البناء المحمل بالدلالات؛ فإننا لا نستطيع أن نفصلها عن الدوافع الدينية التي كانت غرضاً من بين الأخرى، المتمثلة في العلم والتعلم والسياسة والسياحة والثقافة والاقتصاد.. إلخ. إن الغرض الديني، هنا، وبالأساس، كان محوراً مهماً في أدب الرحلة، حيث كان الترحل غاية للتفقه في الدين، أو حج بيت الله؛ ضرورة أملتها الفطرة التي فطر الله عليها عباده، الأمر الذي صير المكان السابق وكل ما يرتبط به، هدفاً للترحل، (تلبية لنداء الرحمن، وتوبة وتطهيراً للنفس من دنس الذنوب، وعهداً للسير على الصراط المستقيم، وأملاً في المغفرة).
وانسجاماً مع المقولة: (يا معشر القراء، سيحوا تطيبوا فإن الماء إذا ساح طاب، وإذا طال مقامه في الموضع تغير)؛ شيد الرحالة لنفسه ملمحاً مغايراً لفكرة الثبات التي تتنافى والحركية التي تميز بها تصوره. أمر يمكننا من طرح العديد من الأسئلة، نذكرها آتياً: ما نوع العلاقة التي تربط الرحلي بالديني؟ وكيف عرف ابن بطوطة بمكة وشخصياتها باعتبارها مكاناً مقدساً؟ على أي أساس قدمت شعائر الحج في هذا الجنس الأدبي؟
الرحلي والديني.. أية علاقة؟
ليس من قبيل المصادفة أن تنفصل الرحلة بأبعادها المتعددة عن الديني (الحج - العمرة)، خصوصاً عند الرحل العرب المسلمين، وبالتحديد ابن بطوطة في كتابه الشهير (تحفة النظار)، الذي يعد موسوعة جامعة لمعارف متنوعة، جاب من خلالها الأرض طولاً وعرضاً، شرقاً وغرباً؛ معرفاً بالحج ومناسكه، وكيفية التضرع إلى الله، منطلقاً بذلك من قصدية فلسفية قوامها العمل على تجسير الروابط والوشائج الدينية الرابطة للشعوب والثقافات على أساس الوحدة الدينية، وهي وجودية لا تعترف بالاختلافات كيفما كانت، تطبيقاً لقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: 13). ووفق هذا التصور تغدو الرحلة (اليد التي تمتد لتقرب شعوباً تناءت عن شعوب، وأقواماً إلى أقوام، تفصل بينها البحار والقفار).
يحيل الحج باعتباره الركن الخامس من أركان الإسلام، على الوعي بفلسفة الوجود الذاتي المجسر لعلاقة الإنسان بخالقه، في سياق يصيّر أداءه ركناً مشروطاً بالاستطاعة، التي تنتفي بمجرد وجود الباءة (المال). وفي إطار التعريف بالحج ومناسكه؛ وجدنا ابن بطوطة كما غيره، يتسابق إلى تلبية دعوة الله عز وجل، مصوراً طرقه وأداءه، عاكساً المثل الأعلى والقدوة في الصبر وتحمل المشاق، ومن ثم فهو (ينفق في سبيله كل مرتخص وغال، وقبل أن يحين موسم الحج بشهور تحرك قلبه منطلقاً إلى البيت الحرام، ثم ركب كباقي الحجيج الدروب الطويلة في اتجاه مكة والمدينة)، مقطع يعبر عن مدى عناية الحجاج الرحل بهذه الفريضة، التي اهتم بها الناس مجتهدين في قراءة ما كتب حولها، هدفاً في تأديتها على الوجه الأكمل، دون زيادة أو نقصان. رؤية تصيّر الرحالة العربي المسلم مقتضياً بمنهج نبينا صلى الله عليه وسلم في التوجيه والإرشاد والتي تمثلت في سلوك الرحالة، معيناً أخاه على العبادة والتنسك، بتيسير الطريق، ومد الرحيق الروحي، المعلن عن علائقية سلسة قوامها التآخي في الدين، ونصرة وخدمة المسلمين. وبمقتضاه، فإن جلال ما كتب في أدب الرحلة معرفاً بالحج؛ معرب عن جوهر ممتد لأعماق الوجود الأول، وخيط ناظم أسهم في تكريس من جاؤوا بعد لمبدأ رسولنا الكريم، إعلاناً بأن حقوق الحجاج على أسلافهم جمة، ولعل أهمها (تبين خير الطرق للوصول إلى الأماكن المقدسة، وشرح له المخاطر ليستعد لها، وعرض ما يمكن أن يلقاه من مصاعب ليتغلب عليها).
الرحلة جنس معرف بالأمكنة والشخصيات
وفي سياق الفلسفات التعريفية التي أبانت عن وعيها بالقدرة على الإيضاح والإفصاح، لا يمكن أن نستثني رحلة ابن بطوطة الشهيرة، التي وصف فيها الأمكنة، وعرف بالشخصيات والعادات والحكايات (...)، مخصصاً حيزاً كبيراً من كتابه لهذا الهدف، ويفتتح الحديث عن كل محور بعنوان فسيح ينتقي لمقدمته (ذكر)، وهذا يعكس رؤيته للوجود والعالم، وموقفه من الآخر الذي أراد أن يبين له طريق الهداية وسبيل التقرب من الله في بيته والأماكن المحيطة به، وهنا نورد أمكنة يحتاج الحاج أن يكون على دراية بها مثل: طيبة، مسجد الرسول وروضته الشريفة، المسجد الكريم، المنبر الكريم، خارج المدينة الشريفة، ومدينة مكة المعظمة ومرافقها، والمسجد الحرام، والكعبة المعظمة، والصفا والمروة، والجبال المحيطة بمكة..
مر بعد ذلك للتعريف بشخصية خير الأنام رسولنا الكريم، والخطيب والإمام بمسجد الرسول، وأمير المدينة الشريفة، وأميري مكة، وأهل مكة وفضائلهم، قبل أن يصف عادات أهل مكة في الخطبة وصلاة الجمعة، وعادتهم في استهلال الشهور، وفي شهر رجب، وعمرة رجب، وفي ليلة النصف من شعبان، ورمضان المعظم، وشوال، ليشكل الوصف والتعريف ديباجة نظرية للحاج قبل أن يحدد مبتغاه، هي أرضية دينية صرفة قوامها نفح طيب فكر أنبياء الأمة في علاقتهم بالأمكنة التي تحظى بقدسية، جعلت عادات المسلمين في استقبال الديني لها من الدلالة ما يعكس جوهراً انتمائياً يطيب له الخاطر قبل تأدية ما يرغب الحاج فيه.
شعائر الحج وأعماله في رحلة ابن بطوطة
خص ابن بطوطة الحج وأعماله بعنوان عريض افتتحه باستهلال الكعبة للإحرام في اليوم السابع والعشرين من شهر ذي القعدة، وذلك بتشمير أستارها في يوم مشهود يسمى بالحرم الشريف، تحضير يأتي بعده الإشعار تهيباً للحج بقرع الطبول أوقات الصلوات في أول يوم من ذي الحجة، التي ما ينفك بعدها الخطيب بتوجيه خطبته إلى الحجاج إخطاراً بالمناسك معرفاً بيوم الوقفة.
وبعد التعريف بيوم الوقفة، تأتي مرحلة تأدية المناسك مرتبة، وصولاً إلى يوم النحر وما يرتبط به من حيثيات تتعلق بالكعبة، وكسوتها والدلالة الدينية لها، قبل الانفصال عن مكة باعتبارها مكاناً مشرفاً؛ تأسيس يعرب عن دور الرحالة والهم الذي كان يحمله، حيث يصف لنا المناسك خطوة خطوة، دون إغفال، وكأنه كلف بهذه المهمة، ولا يريد أن يوصلها للحاج بثغرة، تؤثر على أدائه للفريضة، وهكذا يمسي ابن بطوطة معرفاً بهذه الفريضة وناقلاً لها، وفق طابع تعريفي تاريخي يحمل في دواخله مكنونات إيمانه في التوصيل للآخر.
خاتمة
يمكن أن نؤكد، في هذا المضمار، بأن الرحالة ابن بطوطة قد كان فطناً في إيصال الرسالة، الأمر الذي يجعلنا نقر بأنه لم يشكل موسوعة تاريخية وجغرافية فقط، بل حتى دينية، قدم عبرها تجربته الشخصية مع الحج مؤدياً لمناسكها.