مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

جدلية المؤلف..النص.. المتلقي وتأويلات المعنى

أكدت جميع الدراسات الرصينة والبحوث الغنية التي تتعلق بنظرية التلقي على أن أي عمل إبداعي سرداً كان أم شعراً لا تكتمل أطواره إلّا عبر تلقيه، وتكاد تكون هذه هي المسلمة الأولى والشائعة في جدلية العلاقة العضوية التي تربط ثلاثية الإبداع الأزلية (المؤلف، النص، المتلقي)، وقد باتت بديهة من بديهيات أي عمل أدبي، ومحوراً مركزياً لجميع النظريات والفرضيات التي دارت في فلك هذه الموضوعة، كما أن هذه الآصرة الجدلية المركبة أو المعقدة يمكن اعتبارها الكيمياء التي تجمع المؤلف أو الكاتب مع النص من جهة وبين النص والمتلقي سواء كان قارئاً أم مستمعاً من جهة أخرى، وقد توصل البعض إلى أن هذه الآصرة هي الركن الأساس في أركان العمل الأدبي، لأن عملية الكتابة تتمحور حولها منذ مراحلها الجنينية وبواعثها الأولية مروراً بجميع الأطوار، وصولاً إلى لحظة تحققها من خلال فعل القراءة والتلقي الذي يسبغ عليها بدوره مشروعية وجودها وجدواها.
أما المسلمة الثانية هي أن طرق فهم النص وتأويله باتت متعددة ومتنوعة في تبايناتها واختلافاتها، وذلك لوجود تباين في تعاطي المتلقي نفسه مع النص واختلاف آفاق التلقي، وتعد هذه جزيئية محورية، لأن أفق التلقي يحدد لنا معنى النص وإن أي تغيير يطرأ على هذا الأفق يساهم في تغيير معنى النص كذلك، وفي هذه الحالة فإن أي تأويل أو تفسير للنص لا يعطينا الصورة الحسية للنص فحسب، بل يعكس بصورة معينة أيدلوجية وأفكار متلقيه أيضاً، ومن هنا فإن (والد جماليات التلقي) المفكر والناقد الألماني هانز روبرت ياوس (1921م-1997م) توصل من خلال بحوثه ومحاضراته وكتبه إلى أن تاريخ الأدب هو عين تاريخ تلقيه، وبهذا استطاع إرساء صيغة جديدة لدراسة التاريخ الأدبي بشكل عام.
يتضح من هذا أن جدلية العلاقة العضوية بين ثلاثية الإبداع التي ذكرناها تنفصم بدورها إلى ثنائيتين، الأولى ثنائية (المؤلف- النص)، والثانية هي ثنائية (النص- المتلقي)، وقد ركزت جل الممارسات النقدية المعاصرة على الثنائية الثانية، وأفضى ذلك بدوره إلى ولوج الدراسات النقدية الحديثة إلى فضاءات أكثر اتساعاً ساهمت بشكل فاعل بتنشيط حركة الأدب وتفعيل سياقاته وتوسيع زاويا النظر إليه وتجديدها، ومن هنا توالت الدراسات وبزغت شموس نظريات جديدة تعمقت في موضوعة التلقي والقراءة والتأويل وبلورة المعنى النهائي للنص الإبداعي، باعتبار أنه كتب للجمهور أساساً، وإن دافع كتابة أي نص هو قراءته، لذلك لا يمكن عزل المتلقي عن النص في الوقت الذي يمكن عزل المؤلف عن النص، بل يمكن إعلان موته كما في بعض النظريات.
إن جل النظريات الحديثة اتفقت على أن ثنائية (النص- المتلقي) أهم وأخصب من ثنائية (المؤلف- النص)، لأنها حقل خصب للأفكار والرؤى الحداثوية، ومجال ينبسط على آفاق دلالية واسعة ومتجددة للنص قد تكون لا متناهية، لكن المغالاة في فرض إرادة تلقف النص وتلقيه وعدم الاهتمام بالكيفية أو البواعث والخلفيات التي نسج النص على منوالها، قد تكون سبباً في بعض الإشكاليات والعوائق التي تقلل من لذة اتصال المتلقي بالنص، وهذا ما دعا الكثير من النظريات الحديثة أن تقوم بإعادة النظر في بعض الممارسات النقدية والتروي في إعطاء الأحكام النهائية، وحاولت في الوقت ذاته أن تساعد القارئ أو المتلقي عموماً على تفكيك النص من خلال تهيئة الأدوات التحليلية التي تعينه على إيجاد صيرورة جديدة لفهم النص، وبالتالي تشد عضده في عملية إنتاج معنى النص الحقيقي.
يقيناً إن الإمعان في تركيز الدراسات النقدية على دور التلقي في صياغة معاني النصوص قد فتح أبواب التأويل على مصراعيها، وهذا بحد ذاته أسدى خدمة جليلة للنص، إلّا أن هذا التوجه لم يخل من مطبات وعقبات كثيرة يقف في مقدمتها تأثر المتلقي بالمرجعيات الثقافية واللغوية والنفسية التي ينتمي إليها أو التي يستبطنها، وبالتالي برزت للسطح فكرة كيفية توجيه هذه المرجعيات في تأويل النص أو إنتاج معانٍ متكاثرة له، وهذا يقودنا إلى سؤال مهم هو: هل الأبعاد الجوهرية والقيم الجمالية للتلقي تقف عند حدود العتبة الخارجية للنص؟ وهي بالتأكيد تفضي إلى باب واحد، أم من الممكن أن نصل إلى المعنى من خلال طرق عديدة وأبواب متفرقة؟ وهذا السؤال بدوره يقودنا إلى سؤال آخر هو: هل تعاطي التلقي مع النص يمثل مرحلة واحدة؟ أم أنه يمر بمراحل عديدة؟ وبتعبير آخر هل التلقي ينحسر في مرحلة التفسير التي تكتفي بمداعبة ماء النص عند الشاطئ الذي هو السطح الخارجي المنظور؟ أم لابد من الولوج بجرأة وإرادة واثقة إلى عباب البحر المتلاطم الأمواج والغوص إلى نقاط قراره وقاعه العميق؟ لاسيما أن (ما ينفع الناس) يمكث في القاع، وهذه العملية تأتي عبر التأويل المتعنقد الذي يولد لنا عوالم متعددة ومتجددة، وهذا كله يقودنا إلى سؤال مركزي هو: هل المعنى الذي ينتجه القارئ عند تعاطيه لنص معين يماثل ما ينتجه بقية القراء من معانٍ لنفس النص؟ أم أن ذلك يعود إلى طبيعة زاوية نظر كل قارئ على حدة ونوعية أدواته ومكتسباته؟
هذه الأسئلة وغيرها تفرض علينا أن نكون أكثر تأنياً ودقة في صياغة المفاهيم، لأنه لا يمكن الركون إلى طرف واحد في عملية إعادة إنتاج النص، وأعني به المتلقي، وبالتالي لا يمكن ترك المتلقي وحده يسبر أعماق نص معين مهما كان ذلك المتلقي متبصراً وكفؤاً في استخدام أدوات الاستقبال أو حاذقاً في التلقي، خصوصاً إذا كان النص متقناً في بنائه اللغوي، عزيزاً في مضمونه، محصناً بمغاليق مستحكمة، وهنا يتوجب علينا مساعدته في فتح بعض الشبابيك التي تطل على الفناء الداخلي للنص أو على الأقل نشعل شيئاً من الأنوار التي تضيء بعض المسالك الخفية فيه.
وخلاصة القول إن أي متلقٍ لا يمكن أن يصل بقراءته المجردة إلى مرحلة إعادة إنتاج النص، أو قطف الثمار اليانعة لفعل الكتابة الذي مارسه الكاتب، إلّا عبر خبرات مساعدة أو معطيات جانبية تساعده على الوصول لهذه المرحلة المتقدمة، ويمكننا تقسيم هذه المعطيات إلى أربعة مستويات، الأول معطيات مكتسبة مثل الدراسات النقدية التي اعتنت بالنص الذي بين يدي المتلقي وبعض الآراء التي دارت حوله، والثاني معطيات ذاتية تتمثل بخلفية المتلقي الثقافية وقراءاته السابقة، والثالث معطيات آنية تفرضها عملية التلقي وما يصدر عنها من تأويلات في الذهن، والرابع إملاءات النص المقروء التي تحيل المتلقي من حيث لا يدري إلى مرجعيات الكاتب والظروف الذاتية والموضوعية لكتابة النص.

ذو صلة