مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

أبو حيان التوحيدي.. حمال الأسرار

المثقف هو شخص يفكر، بصورة أو بأخرى، كما يقر بذلك محمد عابد الجابري مباشرة أو لا مباشرة، انطلاقاً من تفكير مثقف سابق: يستوحيه، يسير على منواله، يكرره، يعارضه، يتجاوزه. ويؤكد الجابري على أنه ليس هناك مثقف يفكر من الصفر. وبالتالي استرعت موسوعية (أبو حيان التوحيدي) اهتمام العديد من الباحثين والمهتمين بالأدب والفكر والتصوف والمناظرة والفلسفة، فانتبهوا إلى غزارة علمه، وفصاحة لسانه، وبلاغة مفرداته، ودقة كلامه. ويمكننا الوقوف عند المنظور الأدبي المركب عند كل من الجاحظ، والتوحيدي، والأصفهاني، ونحن نشهد حضوراً للبعد الحكائي والجمالي، الذي تزخر به ذخائرهم التراثية والعلمية، لدى الأول في كتابيه: (الحيوان والبخلاء)، والثاني في مجمل كتبه وربما دون استثناء (البصائر والذخائر، والإمتاع والمؤانسة، والمقابسات) بصورة خاصة، والثالث في (الأغاني)، وما يمكن استخلاصه من ذهنية هؤلاء وسواهم ممن مزجوا بين السرد الحكائي والمقاربة البحثية الخاصة لموضوعاتهم.
 تأثر أبو حيان بأبي عثمان عمر بن بحر (الجاحظ)
تأثر التوحيدي تأثراً بالغاً، بكتب الجاحظ وتوافره على نسخها وتصحيحها، وخصوصاً كتاب الحيوان، حتى غدت النسخ التي يخطها بقلمه ذات قيمة وأهمية بالغة، وتباع بالأثمان الباهظة. والحق أن هذا الشغف قد كان لإعجاب التوحيدي الشديد بفكر الجاحظ وأسلوبه، ويروى عنه أنه قال: (الجاحظ واحد الدنيا).
ولقد بلغ إعجابه الحد الذي أوقد عزيمته لوضع رسالة في مدحه وتبيان محاسنه، أسماها (رسالة في تقريظ الجاحظ)، وذهب إلى الاعتقاد أنه مهما قرظ ومدح فلن يوفى بعض ما يستحق من ذلك، وهذا ما عبر عنه بقوله: (والذي أقول، وأعتقد، وآخذ به، وأستهم عليه، أني لم أجد في جميع من تقدم وتأخر ثلاثة لو اجتمع الثقلان على تقريظهم، ومدحهم، ونشر فضائلهم، في أخلاقهم، وعلمهم، ومصنفاتهم ورسائلهم، مدى الدنيا إلى أن يأذن الله بزوالها، لما بلغوا آخر ما يستحقه كل واحد منهم، أحدهم هذا الشيخ الذي أنشأنا له هذه الرسالة، وبسببه جشمنا هذه الكلفة، أعني أبا عثمان عمر بن بحر).
تجلت آثار نهم التوحيدي على مطالعة كتب الجاحظ وإعجابه بها، في أفكاره وآرائه وأسلوبه إلى حد جد بعيد، حتى نكاد نجد تطابقاً بين محاسن أسلوبيهما ومعايبهما معاً، وكأن التوحيدي يقتفي خطا أستاذه خطوة بخطوة، (يسلك في تصانيفه مسلكه، ويشتهي أن ينتظم في سلكه)، ولعل (انكباب التوحيدي على كتب الجاحظ في سن مبكرة، هو الذي قاد تفتح ذهنه وإنماء مواهبه الأصلية التي لا نجدها ماثلة في عناصر أسلوبه العامة فحسب، كالمطابقة بين المعنى والمبنى، والوضوح والصفاء، والدقة، والطرافة، والبعد عن التكلف والتزويق المصطنع. بل نجدها في ضروب الصنعة، كاستعمال الازدواج، والمقابلة، والتقسيم، والنفرة من السجع إلا ما جاء عفواً، والتوافر على إيجاد إيقاعات صوتية وموسيقية ناشئة عن نقاء الألفاظ، وإحكام بناء الجمل وتوازنها). وعلى الرغم من نزعة التوحيدي التشاؤمية، وقربه من الكآبة والحزن، خلاف الجاحظ تماماً، فقد انطبع بطبع أستاذه في الميل إلى التهكم والإضحاك.
والمضحك في الأمر أننا نجد تطابقاً بارزاً بين معايب الجاحظ وأبي حيان، كالاستطراد الذي يغلب على الأصل، وخلط الجد بالهزل، وعدم الترتيب والتبويب، وغلبة لغة الأدب وأسلوبه في التعامل مع الموضوعات التي كانت، معظمها، كلامية وفلسفية وعلمية.
 القرن الرابع الهجري.. نبوغ نابغة اسمه أبو حيان التوحيدي
عاش أبو حيان في أوج القرن الرابع الهجري بتقلباته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، عاصر فيها السلاطين وعامة الناس، وكانت مؤلفاته شاهد عيان على عصر من العصور الإسلامية الزاخرة بالفكر والثقافة والفلسفة، وذلك لاتصاله بعدد من الفلاسفة الذين كانوا يعدون السياسة أحد مجالات الفكر الفلسفي، اقتداء بأستاذهم الأكبر أرسطا طاليس، ولهذا اصطبغ الفكر السياسي لديهم ببعض المفهومات الأرسطاطاليسية. ومن جراء ضعف ارتباطهم بالحياة السياسية الواقعية وصلوا السياسة بالمفهومات الميتافيزيقية، وذلك حين ربطوا السياسة بقضايا العقل والنفس والطبيعة، وعندما فسروا تصرفات الحاكم على أساس قوى النفس الثلاث، وأرادوا أن يكون كل ما يصدر عن ذلك الحاكم متمشياً مع القانون الأخلاقي الفلسفي.
وتشير العديد من المصادر إلى أن هذا القرن، شهد ازدهار حركة الفلسفة والنقل في العراق، وعرف وفرة المجالس العلمية التي كانت تنعقد هناك، وأشار إلى الصراعات التي حصلت فيه بين المثقفين والعلماء حول ما استجد في فنون المعرفة أو حول ما يؤاخذ عنه أهل الصوفية أو الفقهاء، فإنه كان أيضاً عصراً مليئاً بالتناقضات التي واجهت الحكم العباسي، خصوصاً بعد موت الخليفة المكتفى سنة 295هـ.
وتفشى في هذا القرن الإرهاب السياسي والاضطهاد المذهبي، وكثر التنكيل بالمسؤولين في السلطة ووصل إلى حد التصفية الجسدية، ومن صور ضعف الدولة المركزية في بغداد، ظهور بوادر الانفصال عنها، ولذلك رأينا حرص أكثر الولاة على أن تكون لهم إمارات مستقلة، فنشأت دول في مصر وخرسان وفارس وفي (ما وراء النهر) و(أفريقية). ونشير هنا إلى مظاهر الفوضى والطبقية والانحلال التي سادت بغداد أيضاً.
كان هذا هو القرن الذي ولد التوحيدي وترعرع فيه. ويبرز محمد كرد في كتابه: (أمراء البيان) إلى أن العصر العباسي هو: العصر العباسي الثالث فسدت فيه عصبية بني العباس، فلم تبق لهم كلمة مسموعة ولا رأي جميع ولا قوة نافذة، ولا كيان يرتجي معه البقاء. تغلغلت الأعاجم في جسم الدولة، وتسلطت على الأمور، وما دخل القرن الرابع حتى رأيت الأمور تلتوي ودولة الخلافة تضؤل وتتراجع، وقد شمل الضعف معظم أوضاعها، وعاث سوس الفساد في ذاك الجسم العظيم، وتناثر عقد الدولة العباسية، وانتقصت من أطرافها، والأهواء مشتتة والنفوس شعاع.
وعايش أبو حيان أحداثاً خطيرة في هذا العصر، كما أدرك الضعف السياسي الذي اعترى الدولة لعباسية، وشاهد حركة الازدهار الفكري التي انتعشت في المجالس والنوادي وفي حلقات التدريس أيضاً.
وفي هذا القرن عرف الوضع الاقتصادي أحوالاً متدهورة كانت تنبئ بخراب السلطة المركزية، الأمر الذي ساهم في تقسيم المجتمع إلى قسمين متمايزين هما: الأثرياء والفقراء.
والحياة الاجتماعية في القرن الرابع الهجري، هي الأخرى، أبرزت أن الطبقة الفقيرة تعيش في الحرمان، وقد صور أبو حيان التوحيدي هذا الحرمان صوراً عدة من قبيل: (خلصني أيها الرجل من التكفف، أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضر، اشترني بالإحسان، اعتبدني بالشكر، استعمل لساني بفنون المدح، اكفني مئونة الغذاء والعشاء. إلى متى الكسيرة اليابسة والبقلية الذاوية، والقميص المرقع وباقلي درب الحاجب، وسذاب درب الرواسين؟ إلى متى التأدم بالخبز والزيتون؟ قد والله بح الحلق، الله الله في أمري! اجبرني فإنني مكسور، اسقني فإنني صد، أغثني فإنني ملهوف، شهرني فإنني غفل، حلني فإنني عاطل).
أما الأغنياء فهم طبقة الملوك والأمراء والوزراء ومن يلوذ بهم، كبعض العلماء، والأدباء، والتجار. ونتيجة لهذه التراتبية الاجتماعية التفاضلية، توفر لدينا نوعان من الأدب:
- أدب الطرف: وأدباؤه صوروا حياة اللهو في قصور الأمراء، وفي مجالس أصحاب المال.
- وأدب الشكوى والحرمان: وأدباؤه عبروا عن أجواء الحرمان والبؤس والشقاء والغبن.
 ملحة الوداع وإحراق الكتب
يتبين لنا في نهاية هذه الدراسة، أن ملحة الوداع التي ودعنا بها أبو حيان في رسالته أسوة بمن سبقوه قائلاً: (وبعد، فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم، ويؤخذ بهديهم، ويعشى إلى نارهم، منهم أبو عمرو بن العلاء ويوسف بن أسباط، وأبو سليمان الداراني).
ولقد أحرق أبو حيان كتبه في آخر عمره لقلة جدواها بزعمه، وضناً بها على من لا يعرف قدرها بعد موته. وكتب إليه القاضي أبو سهل علي بن محمد يعذله على صنيعه، فكتب إليه أبو حيان يعتذر من ذلك، ومما قال في الاعتذار: (إن كان -أيدك الله- قد أنقب خفك ما سمعت، فقد أدمى أظلي ما فعلت، فليهن عليك ذلك، فما انبريت له، ولا اجترأت عليه، حتى استخرت الله عز وجل فيه أياماً وليالي، وحتى أوحي إلي في المنام بما بعث راقد العزم، وأجد فاتر النية، وأحيا ميت الرأي، وحث على تنفيذ ما وقع في الروع، وتربع في الخاطر، وأنا أجود عليك الآن بالحجة في ذلك إن طالبت، أو العذر إن استوضحت، لتثق بي فيما كان مني، وتعرف صنع الله تعالى في ثنيه لي. إن العلم -حاطك الله- يراد للعمل، كما أن العمل يراد للنجاة، فإذا كان العمل قاصراً على العلم، كان العلم كلاً على العالم، وأنا أعوذ بالله من علم عاد كلاً، وأورث ذلاً، وصار في رقبة صاحبه علا.
ثم اعلم -علمك الله الخير- أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سره وعلانيته، فأما ما كان سراً فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالباً، على أني جمعت أكثرها للناس، ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم، ولمد الجاه عندهم، فحرمت ذلك كله ولا شك في حسن ما اختاره الله لي، وناطه بناصيتي، وربطه بأمري، وكرهت مع هذا وغيره، أن تكون حجة علي لا لي).

ذو صلة