يعد المفكر المغربي عبدالله العروي صاحب الكتاب الشهير (الأيديولوجية العربية المعاصرة) من أهم المفكرين العرب المعاصرين الذين يثيرون الجدل حول العديد من القضايا الراهنة في المغرب وفي كافة الوطن العربي، خصوصاً أنه يتخذ في انتقاداته للأوضاع الثقافية والسياسية والاجتماعية موقف المحايد والناقد المحلل الذي يمارس نوعاً من التأويل للمفاهيم المعاصرة في كل المجالات. كما يعد العروي من الكتاب المبدعين في مجال الأدب والمتفوقين فيه، وبخاصة في مجال الرواية التي أصدر فيها العديد من النصوص الروائية المتميزة المثيرة للجدل نذكر منها سيرته الذاتية (أوراق)، ورواية (الغربة)، ورواية (اليتيم)، ورواية (غيلة). وإن دلَّ هذا على شيء إنما يدل على أنه مبدع في حقل الرواية كما هو مبدع في مجال الكتابة الفكرية بكل أشكالها. فهو يتميز بنظرة المفكر الأديب الذي يدرك أهمية اللغة الأدبية في خدمة اللغة والكتابة الفكرية والفلسفية، كما هو الشأن في (العرب والفكر التاريخي)، وكتاب (ثقافتنا من منظور التاريخ)، وكتاب (من ديوان السياسة)، وكتاب (بين الفلسفة والتاريخ)، وغيرها من الكتب الفكرية والأدبية الأخرى.
ويرتبط مشروع العروي الفكري بما هو حداثي جدلي، سواء كان أدباً أم كان فكراً وفلسفة، فكتاباته الأدبية والفكرية مرتبطة بمدى قناعاته الفكرية والثقافية والسياسية حول قضايا المجتمع العربي عامة، فهو كاتب متعدد وموسوعي يهدف من خلال ما يكتبه إلى توجيه قارئه والتأثير فيه بشكل أو بآخر من أجل إثارة انتباهه حول القضايا الثقافية والاجتماعية والسياسية. فموسوعيته تتجلى في كل ما يكتبه وما يقرأه من إنتاجات الآخر الغربي وما يصدر عربياً في كل المجالات حتى تسعفه في تكوين فكرة عن قضية معينة أو في تبني موقف منها. ولقد اعتنق عبدالله العروي نظرياً وفكرياً فكرة الحداثة في مفهومها الشامل، من خلال ما جاءت به الثقافة الحداثية الغربية، والتي حاول استحضار أفكار ماركس المتعلقة بالحداثة وما تقدمه من معرفة موضوعية واعية، حيث يقول العروي في أحد حواراته حول موضوع الحداثة عند ماركس: (كان الكثيرون يستشهدون بماركس، ولكن لأهداف سياسية فقط، فقلت إن ماركس النافع هو ملخّص ومؤول ومنظَّر الفكر الأوروبي العام، الذي يمثل الحداثة بكل مظاهرها. الأفضل لنا، نحن العرب، في وضعنا الثقافي الحالي، أن نأخذ من ماركس معلماً ومرشداً نحو العلم والثقافة من أن نأخذه كزعيم سياسي).
تتأسس رؤية المفكر المغربي عبدالله العروي وفق نظرة متجددة للثقافة العربية عموماً، حيث عمل على جعل نظرته لما أوجدته النهضة العربية من فكر وإبداع وثقافة وما حققه الفكر العربي بعدها من إنتاجات وإبداعات مرتبطة أساساً بنقد الفكر المستمد من التراث العربي عامة وفهم فكر الحداثة بشكل مختلف. وفي هذا الصدد كان تركيزه الكبير على التاريخ وإشكالاته وقضاياه المتعددة المرتبطة بفكر الرواد والمؤرخين والباحثين الحقيقيين الذين يعتمدون على مناهج حديثة في البحث والدراسة. أهم ما تميز به كمفكر عربي حداثي يهدف من ذلك وضع لبنات أساسية لفكر جديد ومختلف من حيث المنهج والموضوع والإشكالية.
ولقد كان اهتمام العروي بالمجتمع المغربي خاصة، والعربي عامة، من أولوياته على مستوى الفكر والسياسة والأدب، حيث وضع نصب عينيه مسألة غاية في الأهمية تتعلق بالضرورة في الحوار السياسي والثقافي الدائر على المستوى الوطني والعربي، فلم يأل جهداً في المساهمة في كل القضايا الجدالية التي طُرِحت للنقاش، وأهم هذه القضايا: قضية استعمال اللغة الدارجة المغربية في التعليم المغربي، إضافة إلى ما أنتجت عنه ثورات الربيع العربي وموقفه السياسي والفكري منها، دون نسيان مواقفه الفكرية من قضايا المجتمع العربي والشباب العربي والتاريخ العربي، والوطنية والأيديولوجيا السياسية، وغيرها من القضايا المثيرة للجدل.
ولقد اهتم العروي بالظاهرة الحديثة التي تتعلق بالإرهاب الذي صار الشغل الشاغل للعديد من الباحثين والمفكرين في الغرب وفي الوطن العربي، حيث يعتقد أن الإرهاب يرتبط وليد وضع ثقافي الذي يحتاج منا إلى تغييره منذ عقود مضت، انطلاقاً من تجاوز مقولة فريضة الجهاد والحديث المستفيض عنها وإعادة تعريفها وفق القانون الحديث والسوسيولوجيا والعلوم الحديثة والتاريخ، ومسألة ظهورها وبروزها بالمفهوم التقليدي لتجاوزه إلى مفهوم حديث وفق النظرة المشكلة من رؤية الفقهاء والمفكرين واللغويين والمؤرخين وغيرهم. إن تطبيق القديم على الحديث عند العروي هو مسألة فيها تجاوز معرفي وخطأ إبستيمولوجي واضح المعالم، لأن التفكير في الواقع والمستقبل يحتاج إلى تبني فكر متجدد يأخذ من القديم ما يتوافق مع الحديث والواقع الذي نعيشه وإلا صار الوضع خطيراً ونتج عنه ما لا يحمد عقباه.
ارتبطت كتابات العروي الفكرية بالتأمل في قضايا الوطن العربي السياسية والاجتماعية، حيث تبرز نظرته إلى التعليم والديمقراطية واللغة والفلسفة والبحث العلمي والجامعة، دون أن تكون انتقاداته للأوضاع السياسية والاجتماعية العربية محط الذاتية أو عرضة للتفكير النرجسي لديه كما هو الحال عند العديد من المفكرين العرب. ولقد شغلته الديمقراطية العربية كثيراً نظراً لما لها من أهمية في بناء المجتمع العربي السليم والمتطور بعيداً عن التدخلات الأجنبية والتوجيه التحكمي من طرف القوى العالمية المهيمنة. هذه الديمقراطية التي تحتاج إلى تجددي القيادات والمتحكمين في دواليب السلطة الحزبية والحكومية، إضافة إلى تغيير حقيقة المعارضة وطرق اشتغالها في معظم البلدان العربية وتعاطيها مع السلطات الحكومية وانشغالها بحقوق الشعوب المستضعفة والمظلومة، ناهيك عن رؤيتها الفكرية والسياسية لقضايا الوطن والعروبة والإنسانية.
وعندما يتحدث العروي عن نفسه وعن مسألة تصنيفه ككاتب ومبدع فيقول: (لا أرى نفسي فيلسوفاً. من يستطيع أن يقول إنه فيلسوف؟ ولا أرى نفسي متكلماً ولا حتى مؤرخاً همّه الوحيد استحضار الواقعة كما وقعت في زمن معين ومكان محدد. لم أرفع أبداً راية الفلسفة ولا الدين ولا التاريخ، بل رفعت راية التاريخانية في وقت لم يعد أحد يقبل إضافة اسمه إلى هذه المدرسة الفكرية لكثرة ما فندت وسفهت. لماذا؟ فعلت ذلك بدافع الواقعية والقناعة. وأعني بالقناعة الكفاف. ولم أتوصل إلى موقفي دفعة واحدة، بل مررت بمراحل عدة. كنت أميل إلى التجريد فلم أنفلت منه إلا بمعانقة التاريخ، عندما قررت، في لحظة ماء، الاندماج الكلي في المجموعة البشرية التي أنتمي إليها وأن أربط نهائياً مآلي بمآلها. الخروج من الدائرة الخاصة، التعالي، عن أنانية الشباب، يعني اكتشاف الواقع المجتمعي الذي لا يدرك حقّاً إلا في منظور التاريخ. مرّ علي وقت طويل قبل أن أفهم أن ما يحرك المجتمع ليس الحق بقدر ما هو المنفعة). (الإصلاح والسنة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ص. 6)
يرى العروي أن الواقع الراهن يمتد إلى الجذور العميقة والمتشعبة في التاريخ العربي، فمنذ أكثر من ثلاثة عقود وهو يكتب ويحلل الوقائع والأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية، يحتاج (واقعنا الراهن) إلى الإصلاح السياسي والإصلاح الثقافي، وأن هذا الأخير لن يتحقق إلا بما صلُح سياسياً على مستوى النتائج والظروف المساعدة، مع مواجهة التدخلات الأجنبية التي تضع العراقيل أمام أي تطور عربي في هذا البلد أو ذاك. فدور المثقف العربي في هذه المسألة أساسي ينبغي أن يتخطى التقاعس والتخوف من الرقابة بكل أشكالها من أجل تحقيق أهداف كبرى لمجابهة التخلف والتشرذم والضعف والفشل الاقتصادي والسياسي.
أما عن فلسفة الحداثة فإنه يرى أن أطروحات الفيلسوف كارل ماركس المرجعية التي يهتم بها العروي ويستقي منها تصوراته باعتباره منظراً أولاً للحداثة بالدرجة الأولى وناقداً لمشكلاتها وقضاياها بالدرجة الثانية، حيث يقول في كتابه (الأيديولوجية العربية المعاصرة): (لا مبرر لهذه الدعوة إلا فرضية واحدة، مستخرجة من واقع التاريخ ذاته، وهي أن الدور التاريخي الغربي الممتد من عصر النهضة إلى الثورة الصناعية هو المرجع الوحيد للمفاهيم التي تشيد على ضوئها السياسات الثورية الرامية إلى إخراج البلاد غير الأوروبية من أوضاع وسطوية مترهلة إلى أوضاع صناعية حديثة. ليست هذه الفرضية فكرة مسبقة بل نتيجة استطلاع التاريخ الواقع. وهي المبرر الوحيد لحكمنا على السلفية والليبرالية والتقنوقراطية بالسطحية وعلى الماركسية بأنها النظرية النقدية للغرب الحديث، النظرية المعقولة الواضحة النافعة لنا في الدور التاريخي الذي نحياه).
ترى الباحثة الجزائرية نصيرة بوطغان أن نقد العروي يبدأ من نقد المفاهيم المستعارة لمعرفة بنيتها والفضاء الذي تتشكل فيه باعتبارها لا تنتمي إلى الفضاء الأصلي لها، لأن الأمر قد يكون له أثر سلبي قد يتحول في مرحلة معينة إلى مؤشر للحكم، حيث يطلق العروي مثلاً مصطلح (الأيديولوجية) أو (الأدلوجة) على ثلاثة أشياء، بداية بما ينعكس في الذهن من أحوال الواقع انعكاساً محرفاً بتأثير لا واعٍ من المفاهيم المستعملة. إضافة إلى إيجاد نسق فكري يستهدف حجب واقعٍ يصعب وأحياناً يمتنع تحليله. ثم نظرية مستعارة لم تتجسد بعد بشكل كلي في المجتمع الذي استعارها لكنها تتغلغل فيه كل يوم أكثر فأكثر. فصعوبة تجاوز ظاهرة التخلف الحضاري إلى بناء نهضة دون المرور عبر مشروع يعكس جوانب الحياة من أجل تقليص الفوارق بين الآخر المتقدم وبيننا، حيث يبدأ المدخل بإنجاز ثورة ثقافية تساعد في تأسيس حضاري ينطلق من إحداث القطيعة مع كل الممارسات التقليدية باعتبارها عائقاً يمنع إحداث وعي حضاري حقيقي، وتجاوز الأسئلة المطروحة على الفكر العربي عامة.