مضى عشرون عاماً، كان فيها المخرج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو غائباً عن المكسيك. وكما كان فيلم (Amores perros) عام 2000 السبب في انطلاقته نحو العالمية، وحتى هجرته إلى أمريكا. يعيده فيلم Bardo، False Chronicle of a Handful of Truths)/ باردو، وقائع زائفة لحفنة من الحقائق) لعام 2022 إلى المكسيك. لقد تأسس فيلم أموريس بيروس على مفهوم الصدفة، حيث تتعالق سيرة حياة ثلاثة أشخاص، لكل منهم صيرورة مختلفة، بسبب حادث سيارة يتعرّضون له. كان هذا الفيلم أول حلقات سلسلة ثلاثية، أنهاها بفيلم Babel مروراً بـ 21 Grams الذي يعد نسخة مطورة عن فيلم أموريس بيروس. يناقش إيناريتو في هذه الأفلام فكرة الخبط عشواء، التي تحكم حيوات البشر من الولادة إلى الموت. وكيف أنّ هذه العشوائية العصية على الفهم، تقوم على تواصل خفي يُرجع الأمور إلى نصاب السبب والنتيجة، فالكون لا يلعب بالنرد.
لقد مرّت غيوم كثيرة في سماء إيناريتو وأشرقت شموس أيضاً، منحته جائزتي أوسكار عن فيلميه: Birdmanالعام 2014 وThe Revenant العام 2015 وأصبح من كبار مخرجي هوليوود، فهل حان الوقت لتقديم سيرة ذاتية يناقش فيها تلك الغيوم السوداء والبيضاء التي ملأت حياته، فأبعدتها تارة عن الصفاء، وتارة أخرى ملأتها بالرعود والرياح العاصفة، وذلك من خلال علاقته بالوطن والهجرة، والعلاقة المحتدمة تاريخياً بين المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية، والأسرة والهوية، والحب والموت من خلاله شخصياً؟ يعرض الفيلم سيرة حياة سيلفيريو جاما، الذي يلعب شخصيته الممثل دانييل خيمينس كاتشو. سيلفيريو صحفي ومخرج أفلام وثائقية، ولد في المكسيك، وذاع صيته بعد هجرته إلى أمريكا، يرجع إلى المكسيك كي يكرّم عن فيلم له ذات عنوان فيلم إيناريتو! لم يخاتل إيناريتو كثيراً، كي يوهم المشاهد بأنّ سيلفيريو هو شخصية أخرى، لا تمثله، بل أراد أن يكون هذا التماثل بينه وبين شخصية سيلفيريو شبه محسوم، حتى نتعرف على زيف الحقائق في بعض الوقائع عبر مزج الواقع بالخيال. كان إيناريتو عبر أفلامه، سواء في بابل، أو الرجل الطائر، وحتى فيلمه العائد، الكلاسيكي الحبكة، يستند دوماً على ثنائيات تضادية يجلو بها زيف انعدام ائتلافها عبر الخيال. فالخيال لدى إيناريتو يعتبر كحاسة، لا تختلف عن النظر واللمس، فعبره يتم اكتشاف علاقات الواقع الذي لا يمكن الإحاطة به من دون التخييل، فالعقل السببي قاصر عن فهم لعبة النرد الكونية من دون الخيال.
Bardo
تعني كلمة باردو بالبوذية التيبتية، الحالة البرزخية التي يعيشها الإنسان في الغيبوبة التي تسبق موته، أو هي الفاصل بين حياته التي عاشها، والحياة التي سينتقل إليها إثر موته. هذه الازدواجية التي تعنيها كلمة باردو تقدّم انعكاساً لحياة سيلفيريو. فهو من جهة مواطن أمريكي يجادل بعنف موظف المطار عن أحقيته بأن يقول عن أمريكا، أنّها وطنه، رغم المفارقة بأنّ الموظف، هو الآخر، ليس من أصول أمريكية. ومن جهة أخرى يدخل مع ابنه في نقاش حاد، لأن الابن قد سئم من ازدواجية أبيه، فمن ناحية يدافع سيلفيريو عن المكسيك، ويطلب من ابنه أن يتكلّم المكسيكية مادام في بلده الأم. ومن ناحية ثانية لا يرى المكسيك بلداً صالحاً للحياة! هذا التناقض يرفضه الابن الذي حسم أمره، بأنّ يصبح أمريكياً. على العكس من ذلك كانت الابنة تريد الانتقال للعيش في المكسيك، فقد وصلت إلى سن يحق لها أن تختار بها حياتها كما تريد.
إنّ معضلة التضاد التي يحياها سيلفيريو يدفعها قدماً إيناريتو، إذ تتجلّى من أول مشهد في الفيلم، حيث نرى ظل رجل يجري في صحراء، ليكتسب العزم كي يطير. وما إن يحلق الظل عن الأرض حتى يعاود الهبوط. ليدخلنا بعد ذلك إلى ولادة ابنه ماتيو الذي همس للطبيب بعد خروجه من بطن أمه بأن يعيده إليه، فالعالم الذي جاء إليه قاس جداً. يخبر الطبيب الأم برغبة الوليد ويدفعه إلى بطنها من جديد. يمشي سيلفيريو وقربه زوجته، التي تجر الحبل السريّ لطفلها وراءها صابغة أرضية الممشى بالدم.
عبر الواقع والخيال يمضي إيناريتو، أو سيلفيريو في تقديم الباردو، فالتكريم الذي أقيم على شرف سيلفيريو يهرب منه إلى أحد الحمامات، وهناك يلتقي بأبيه الميت ويعود صغيراً وكأن تكريمه الحقيقي يكمن برضى أبيه عنه بعد هجرته من وطنه. لكن سيلفيريو متّهم من قبل المجتمع بخيانة مكسيكيته لصالح أمريكا، حيث يستجوبه المذيع المشهور لويس أمام جمهور يضحك من صمت سيلفيرو. يبدو الاستجواب من قبل لويس مقحماً، لولا مشهد نرى فيه سيلفيريو يمتثل لطلب السفير الأمريكي، بأن يخفّف من حدّة انتقاداته لسياسة أمريكا الرافضة للهجرة المكسيكية، لكن في المقابل كان ما يهم لويس هو إذكاء النار في متابعيه مستخدماً الهجوم على سيلفيريو كحصان طروادة. وهنا يأتي السؤال: من يحدّد الانتماء؟ الذي تكمن إجابته في نقاش بين سيلفيريو وهيرنان كورتيس القائد الإسباني الذي قوض مملكة الأزتيك عام 1521 ولولاه لم تكن هناك من مكسيك. كان كورتيس يجلس على هرم من الأجساد البشرية، وهناك أخبره سيلفيريو، أنّه قائد وحشي، وأنّه مكروه في إسبانيا والمكسيك، فيرد عليه كورتيس، بأنّه لو لم يكن موجوداً لم يكن هناك من مكسيك. وبالتالي ليس من سيلفيرو، ولا قضية الانتماء الشائكة التي يقع تحت تبعاتها. لا يكتفي إيناريتو بتهكّمه على الحدود، وقصة الانتماء، والأوطان، والهجرة من خلال استحضار القائد الهمجي كورتيس، بل يبرز الواقعية السحرية التي اشتهرت بها أمريكا اللاتينية وذلك بأن يقذف سيلفيريو عقب سيجارته، فتقع على إحدى الجثث، وهنا يثور أحد الكومبارس لأنّ السيجارة أحرقته، فتتبعه الجثث الأخرى التي صنع منها كورتيس هرمه، رافضة إكمال التمثيل على الرغم من صياح المخرج الذي يرمز إلى إيناريتو، بأنّ هناك مشهداً آخر. لقد كان المشهد الآخر واقعيّا جداً، فنرى فيه سيلفيريو يحمل كاميراه مصوّراً اللاجئين المكسيكيين الذين يحاولون عبور الحدود بين المكسيك وأمريكا.
ما بين الواقع والخيال على جسر من الرموز تمضي سردية إيناريتو السينمائية، لنكتشف بأنّ سيلفيريو كان قد أصيب بجلطة دماغية، تركته فاقداً للوعي، وهو عائد في الميترو يحمل كيساً فيه أسماك السلمندر لابنه تعويضاً له عن تلك الأسماك التي ماتت في حقيبته، عندما هاجروا إلى أمريكا. حيث تأتي دلالة سمك السلمندر من قدرته على تجديد أعضائه إن قطعت. تتجمع العائلة حول سيلفيريو الفاقد للوعي، أو في حالة الباردو، لينتهي الفيلم كما بدأ في صحراء يغذّ سيلفيريو الخطى فيها، تتبعه عائلته، لكنّه يخبرهم أنه ذاهب إلى مكان لا يستطيعون القدوم إليه.
الأقنعة سيرة ذاتية
لعب القناع دوراً مهماً في المسرح اليوناني، فعبر تغيير قناع بقناع، كان المؤدّي يتلبّس شخصية جديدة. وهنا هل ارتدى إيناريتو قناع سيلفيريو حتى لا يقدّم حياته بشكل واقعي مبتذل؟ لكنّه مضاعف بالخيال، فلا يتم اختزالها، ويسمح له بأن يواجه توثيقية السيرة الذاتية، وما ستقوده إليه من الوقوف على تناقضات حياته، ومن ثم الاعتراف أن محاولته جلب سمك السلمندر باءت بالفشل، فلا إمكانية لإعادة إنماء ووصل ما قطع من حياته، وما ترتب عليه من تناقضات لا حلّ لها، لكن من الممكن فهمها. إنّ الوقائع الزائفة لحفنة من حقائق السيرة الذاتية لإيناريتو من الممكن توضيحها بأحد مشاهد الفيلم كمثال، فالفيلم مليء بها. كان سيلفيريو يصوّر معاناة المهاجرين عبر الحدود الصحراوية إلى أمريكا ومن جانب ثان، اكتفى بالاعتراض على المسؤول عن الشاطئ الذي منع خادمة عائلته المكسيكية ذات الأصول الهندية من الدخول. تقف زوجته في صف الخادمة ويغادرا الشاطئ في حين يدخل سيلفيريو للاستمتاع بالرمال الذهبية والمياه المنعشة.
هذه المفارقات التي تقوم عليها أكثر مشهديات الفيلم، نستطيع أن نستوعب أحد جوانبها كهجوم مضاد من قبل إيناريتو تجاه النقّاد والمشاهدين، سواء في بلد المهجر/ أمريكا، أو في بلده الأم/ المكسيك، فهناك من سيصنفه مبدعاً أو مدعياً. وهناك من سيصنفه مرائياً، أو مرآة للواقع، وهو يريد أن يقول، بأنّه لا هذا، ولا ذاك، فالفنّ ليس كالسياسة والدين حتى يكون تأثيره شمولياً بإيجابياته وسلبياته، فما بين أنا الفنان وإنتاجه، وضمناً حياته الشخصية، هناك الكثير من الحدود يجب أن تُقطع بشكل قانوني، أو غير قانوني، كأن يأتي اتصال يخبر جماعة المهاجرين، أن مريم العذراء، قد ظهرت لمن سبقهم، وهي تبارك مسيرهم نحو الحدود!
بين الباردو والسيرة الذاتية لإيناريتو علاقة زائفة، فهو لا يقدّم بالمعنى الحقيقي سيرة ذاتية والتي عادة ما تكتب على حواف نهايات العمر، بل يريد القول، إنّ السير الذاتية تتعدّد، حتى من قبل صاحبها، كما التاريخ حسب من يكتبه، والحدود وفق من يضعها، والانتماء على هوى القناعة، والهوية ليست إلا قضية إدارية، والوطن مجرد جذر مخاتل، والمهجر هروب مفضوح، فلا شيء نهائي في تلك القيم، فالحقائق زائفة بقدر ما تدعي واقعيتها.
فيلم باردو، وقائع زائفة لحفنة من الحقائق، من إخراج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو، وتصوير داريوس خوندجي، وسيناريو إيناريتو ونيكولاس جياكوبون.