مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

الصورة النمطية جزء طبيعي من الإدراك البشري

نحن -البشر- ننمّط العالم، ونصنّف الموجودات فيه، حتى نتمكن من إدراكه والتعامل معه. واللغات البشرية من ثم ذات طبيعة تصنيفية، والعلاقة بين اللغة والتصنيف علاقة متبادلة، اللغة تكشف عن الأصناف الإدراكية في أذهاننا وتساهم في تشكيلها، وتتأثر كذلك في تعبيراتها ومدلولاتها بتلك الأصناف.
على سبيل المثال كل متحدثي اللغة العربية يعرفون معنى كلمة (ماء) أو (موية) أو (مَيَّة). على حسب اللهجة، لكن هل كل فرد من هذه الجماعة اللغوية (متحدثي العربية) يعرف كل ما تعرفه البشرية عن الماء وخصائصه الفيزيائية والكيميائية؟ هل يعرفون كلهم -على سبيل المثال- كباراً وصغاراً متعلمين وغير متعلمين معلومة بسيطة مثل أن الماء يتألف من ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأكسجين؟! ما يتشارك متحدثو اللغة معرفته عن الماء هو الحد الأدنى من المعلومات، يعرفون مثلاً أنه سائل شفاف يروي العطش. هناك نموذج أولي في أذهان الناس للماء، يحكمون من خلاله على سائل ما بأنه ماء أو بأنه ليس ماء. النموذج الأولي (Prototype) يُطلق أيضاً على النموذج الذي يصنعه المخترع أو المصمم ليجسد به التصور المبدئي لاختراعه أو تصميمه دون أن يحتوي على كافة خصائصه وتفاصيله. فالمعاني اللغوية للمفردات تأخذ في كثير من الأحيان شكل النموذج الأولي الذي لا يحتوي على كافة الخصائص والجوانب والتفاصيل، ولكنه يحتوي على الحد الأدنى منها.
والصور النمطية (Stereotypes) نماذج أولية ذات طبيعة اجتماعية، لأنها تمثيلات ذهنية عن مجتمعات أو جماعات، تراكمت عبر التاريخ الاجتماعي، فهي صور مجتمع عن مجتمع. وتتضمن هذه التمثيلات حداً أدنى من التفاصيل الكافية لمعرفة كيف يبدو أفراد المجتمع الذي تمثله الصورة النمطية دون الحاجة للالتقاء بأي فرد منهم. لذلك تُعرَّف الصورة النمطية بأنها: خطاطات إدراكية يستخدمها المتلقي الاجتماعي لمعالجة معلومات عن الآخرين، وتعكس معتقدات عن خصائص مجموعة وسماتها، أو عن أدوار اجتماعية معينة، وتؤثر على ردات الفعل الشعورية تجاه أفراد المجموعة المنمَّطة (Dovidio et al، 2010). فالصور النمطية جزء من النظام الإدراكي، متمثلة في الأذهان، حتى لو لم يُعبّر عنها علناً، فهي متجذّرة في العقل الجمعي، وتقاوم التغيير.
الصور النمطية إيجابية
ربما سبق أن لاحظتَ أيها القارئ الكريم ارتباط مفهوم الصورة النمطية بسياقات سلبية تربط بين هذا المفهوم والتحيز والإجحاف، أو الجهل، فالتعميم لغة الجهلاء، وما الصورة النمطية إلا شكل من أشكال التعميم. لكن الصور النمطية ذات إيجابيات كثيرة. ومن إيجابيات الصور النمطية تبسيط العالم من حولنا ليسهل إدراكه وليسهل إصدار أحكام أولية عن الأفراد الذين يعيشون فيه، فكم عدد الأشخاص في العالم؟ كثير جداً جداً كثرةً تجعل تكوين حكم عن كل واحد منهم أمراً يفوق قدرات البشر، لكن يمكن أن نصنف أولئك الأفراد في أصناف كبرى، ونربط كلّاً منها بصورة (نموذج)، فتعطي تلك الصورة تصوراً عن المنتمين لهذا الصنف، مما يمكّننا من تكوين انطباع عن شخص ما من خلال الصورة الذهنية المرتبطة بالمجتمع الذي ينتمي إليه دون جهد يُذكر، مقتصدة في العمليات الإدراكية، وموفرة الوقت مع الجهد. والصور النمطية تبسّط البيئات المعقدة، وتحوِّل الاختلافات غير الواضحة بين المجتمعات إلى فروق واضحة، فتسهّل التعامل واتخاذ القرارات والمواقف بشأن الجماعات والأفراد المنتمين إليها، حيث تسمح بتكوين تصوّر عن أفراد مجتمع ما دون الالتقاء بأي أحد منهم، تماماً كما أن لدينا تصورات عن أشياء ونباتات وموجودات وحيوانات لم نرها في حياتنا، فلا يُشترط أن تكون قد رأيت في حياتك أسداً مثلاً لتعرف ما هو الأسد (Augistinos، 2001).
أيضاً الصورة النمطية ليست مرتبطة دائماً بحكم سلبي، فقد تكون صورة محايدة، أو صورة إيجابية، كالصورة النمطية عن الشعب السعودي لدى بعض المجتمعات بأنه شعب وطني وملتفٌّ حول قيادته، أو عن الشعب الصيني بأنه قادر على تصنيع أي شيء.. إلخ.
الصور النمطية سلبية
مع أن تشكيل الصور النمطية عملية طبيعية لها وظائف أساسية في البنية الإدراكية، فإنّها ترتبط بسلبيات عدة، إذ يمكن أن تقود الصور النمطية إلى فهم خاطئ وعدم دقة عند تطبيقها على الأفراد، هذا إذا افترضنا أنها قائمة في الأصل على أساس صحيح، لأن الصورة النمطية باعتبارها نموذجاً منتخباً لتمثيل سمات مجتمع ما تواجه تحدّيين كبيرين:
- تحديد السمات التي ستُنتخب لتمثّل الصورة النمطية، وتحت هذا التحدي إشكالات عدة.
- عدم تكوّن المجتمع -أي مجتمع- من أفراد متطابقين في سماتهم، فيصعب أن تجد سمةً يمكن أن تصدق على كل الأفراد في مجتمع ما.
لذلك فإن الصورة النمطية قد لا تنطبق على الفرد الذي أُصدِر عنه حكم مستمد من الصورة النمطية عن مجتمعه، فعندما تُلصَق بالفرد خصائص الصورة النمطية -التي قد لا تكون فيه- قد يقود ذلك إلى الحكم عليه بأنه مناسب أو غير مناسب لأدوار ووظائف معينة (Brown، 2011)، كذلك تجعل الصورة النمطية ذلك الفرد يُقيَّم أحياناً تقييماً مجحفاً.
والصور النمطية أيضاً تؤثر في تفسير السلوك، فالتصرفات غير الواضحة التي يمكن أن تُفسَّر بأكثر من تفسير، تتوجَّه إلى تفسير أحادي يستبعد بقية الاحتمالات بناءً على الصورة النمطية المربوطة بالمجتمع الذي ينتمي إليه الفرد الذي صدر عنه السلوك (Hogg، 2007). بل قد تُوجِّه الصورة النمطية السلوك، فيما يُسمى (ملء التوقع المسبق)، وذلك حينما تدفع الصورة النمطية المرء للتصرف على النحو الذي توقعته الصورة النمطية، في تفاعل معقّد تقود فيه الصورة النمطية إلى حلقة مفرغة بين الفكرة والفعل (Sedikides، 2013)، ذلك التوجيه قد يكون إيجابياً إذا كانت الصورة النمطية ذات محتوى إيجابي، لكنه سلبي بلا شك إذا كانت الصورة النمطية ذات محتوى سلبي.
كلنا ننمط
يذكر (ديفاين- Devine) أننا نتعلم الصور النمطية مبكراً (1989)، ولأن الصور النمطية ذات خصائص إدراكية طبيعية وظيفية تجدها معروفة للجميع (داخل المجتمع الذي يستخدمها) ومستخدمة بشكل متكرر، فمن الصعب أن تجد أحداً لا يعرف الصور النمطية الكبرى في مجتمعه. ونتيجة للتعليم طويل المدى -المقصود وغير المقصود- نفعّل جميعناً -بحسب ديفاين- الصورة النمطية عندما نقابل أحد أفراد المجموعة المنمَّطة، أو عندما يحضر أحد الرموز المعبرة عنها. تتفعّل هذه الصورة النمطية في ذهن الشخص بشكل غير واع بغض النظر عن معتقداته الشخصية وأفكاره الذاتية.
تفعيل الصورة النمطية أمر، وبناء حكم عليها أمر آخر، فمع أننا جميعنا نفعّل الصور النمطية، لكنّ بيننا فروقاً فردية في الاعتقاد بدقة الصورة النمطية المفعَّلة. والتحيز ضد مجموعة ما ينتج فقط عندما تكون المعتقدات الفردية عن تلك المجموعة متماشية مع محتوى الصورة النمطية عنها. فالصورة النمطية وحدها لا تقود بالضرورة إلى التحيز، وإلى ما يترتب عليه أحياناً من سلوك عنصري. هذا الفصل بين الصورة النمطية والسلوك المتحيز، والفصل بين المعرفة الجمعية والاعتقاد الفردي عن مجتمع ما منبنٍ بشكل كبير على تفرقة علم النفس الإدراكي بين العمليات اللاواعية المؤتمتة والعمليات الواعية المتحكَّم بها. فالعمليات المؤتمتة تفعيل سريع تلقائي لبعض من المتلازمات دون جهد أو انتباه، بينما العمليات المتحكَّم بها على العكس من ذلك تكون بطيئة نسبياً ومتأثرة بالقصد الواعي. ويرى ديفاين أننا عندما نصدر حكماً عن مجتمع ما نمرُّ كلُّنا بتفعيل الصورة النمطية الموجودة في وعينا الجمعي عن ذلك المجتمع، بغض النظر عن مستوى التحيز الشخصي عند كل فرد، وهذا يعكس حقيقة أن المعرفة بهذه الصورة النمطية موجودة عندنا جميعاً بشكل متساو، بسبب تاريخها الطويل في الاستخدام. هذا التفعيل يكون تلقائياً، ولا تمنع وجوده معتقدات الفرد الشخصية. ولكنّ الاختلافات الفردية ستحدد أيستمر تفعيل الصورة النمطية أم يخمد، وذلك يعتمد على قصد الفرد وإرادته الواعية في مرحلة إستراتيجية من مراحل المعالجة الذهنية. فالأشخاص منخفضو التحيز يثبّطون عادة الصورة النمطية بعد تفعيلها بعكس الأشخاص عالي التحيز، ولذلك إذا كان تفعيل الصورة النمطية لا يمكن تجنبه على الرغم من معتقدات الفرد الشخصية فإن وعي الفرد المنبني على معتقداته الشخصية سيحدّد ما إذا كانت الصورة النمطية ستظلّ مفعّلة لتقود عملية الحكم أم لا.
هل يمكن تغيير الصور النمطية؟
الصور النمطية متجذرة في الوعي الجمعي وفي البنى الإدراكية لأفراد المجتمع الذي يستخدمها، وهي تقاوم التغيير، لذلك تغييرها صعب، لكنه ليس مستحيلا. ولتغيير الصورة النمطية من الضروري فهم العوامل المختلفة التي أسهمت في صياغتها وانتشارها. وثمة إستراتيجيات لتغيير الصورة النمطية يمكن أن تتوجه للمستويات الفردية والجماعية على السواء، من هذه الإستراتيجيات التعليم والتعرض لوجهات نظر مختلفة، وانتهاج التفهم والتعاطف. ومن المهم معرفة الوظائف الاجتماعية والإدراكية للصور النمطية لوضعها في الحسبان أثناء تقديم جهود لتعزيز فهم التنوع واحترامه وتقديره.
ومن طرق التغيير اتباع الإستراتيجيات التعليمية لتعزيز المعرفة بالآخرين والتعامل معهم باحترام، واستخدام التقنيات الموجهة بشكل غير مباشر لتغيير السلوك، ومن ذلك الإعلام الذي يمكن أن يوجِّه -بشكل مباشر وغير مباشر- معلومات مضادة للصورة النمطية، وتقديم هذا النوع من المعلومات المضادة يمكن أن يكون مفيداً إذا استُمِدّ من مجموعة واسعة من الأفراد الممثِّلين للمجتمع الذي رُبِط بالصورة النمطية، فذلك يكون أكثر تأثيراً مما لو صدرت تلك المعلومات المضادة من فرد واحد مثلاً، أو من أفراد لا يشكّلون نماذج (تقليدية) للمجموعة. هذا التعرّض لمعلومات مخالفة ومناقضة للصورة النمطية يمكن أن يساعد في تحدي الصورة النمطية وإضعافها (Oscamp، 2013).
وفي الختام على سبيل تغيير الصورة النمطية عن (الصورة النمطية) أقول الصور النمطية جزء طبيعي من إدراكنا البشري، ولها وظائف إدراكية واجتماعية ولغوية ضرورية.

ذو صلة