مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

الصورة النمطية بين الأدب والسينما.. لعبة الأيديولوجيا

الصورة النمطية Stereotype تمثيل تكراري مبالغ فيه أو متجاوز لفكرة شائعة أو رأي يخص فرداً أو فئة أو جماعة بما لا يطابق الواقع، بل هي عملية اختزال غير بريء (أو (مُؤدلَج)) لذلك الفرد أو تلك الجماعة أو الثقافة أو الديانة أو الشعب أو العرق أو اللغة في صفة بعينها، صفة سلبية في غالب الأحوال، بغية تنميط الآخر والحطّ من شأنه أو على أقل تقدير السخرية منه وجعله موضوعاً للتهكم والتشويه والتحقير. ومصدر الصورة النمطية هو التداول السلبي (الشفاهي غالباً) لحزمة من الاعتقادات الشائعة عن (الآخر) المختلف بالضرورة عن (الأنا)، سواء في الجنس أو العرق أو الديانة أو الطبقة الاجتماعية أو غير ذلك. وفي هذه العملية، يتم (تنميط) البشر، أي يتم تصنيفهم وفق معيار ما، كالجنس أو العِرق أو العمر أو الطبقة الاجتماعية أو الوضع الاقتصادي، وهلمّ جرّا. وتترسَّخ مثل هذه الصور النمطية داخل المؤسسات الاجتماعية والثقافية الأوسع، كما يتم تداولها بين العامّة والحشود. ولذا، يندرج مبحث صناعة الصور النمطية تحت باب ممارسات التنمّر بين الأفراد والجماعات وممارسات التحيّز العنصري في علم الاجتماع والإعلام، كما يندرج في باب تمثيلات الشعوب وعلم الصور (الصورولوجيا Imageology) الذي يُعدّ أحد أهم مباحث الأدب المقارن ودراسات التمثيل الثقافي والاستشراق.
عندما يرسم الإعلام المؤدلج صورة سيئة عن الآخر الذي لا يؤمن بنفس أيديولوجية الأنا، يظهر البديل أو المخلّص الاجتماعي، من ذلك مثلاً الدعاية النازية الجامحة ضد الشيوعية، والتي كانت تصوّر الجنود السوفييت في الحرب العالمية الثانية بوصفهم رجالاً يتضوّرون جوعاً ويرمون أسلحتهم استسلاماً أمام النازيين، لأنهم جوعى بسبب الاشتراكية التي أفقرتهم. وفي السياق العربي، يمكن أن نضرب بعض الأمثلة على إنتاج الأفلام والدراما العربية العديد من الصور النمطية السلبية منذ نشأة السينما العربية، كصورة معلم اللغة العربية التقليدي المتخلّف، وصورة رجل الدين المنافق المداهن للسلطة على الدوام، وصورة الفتوّة المُخلِّص ابن الحارة الشعبية، وصورة اليهودي البخيل، في مقابل بعض الصور التي ينتجها خطاب الاستشراق (الإمبريالي) الذي أفاض في تفكيكه إدوارد سعيد، كصورة العربي الشهواني المستبد راعي الإبل والجمال، وصورة المصريين الفوضويين في الأسواق والحارات الشعبية، وغيرهما من الصور التي أفاض في رسمها إدوارد وليم لين في كتابه (عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم).
من الصحيح القول إن الصور النمطية تلعب دوراً في بناء بعض التصورات الإيجابية عن الذات من خلال تشكيل صور مقابلة ذات حمولات سلبية عن (الآخر) أو (الآخرين)، لكنها ليست عملية ثقافية سليمة، إذ تكون غالباً ذات عواقب وخيمة بالضرورة. وغالباً ما ترتبط الصور النمطية بظواهر مدمّرة كالعنصرية والتعصّب المقيت والتحيّز الأعمى. وهو ما قد يجعل من هذه الصور النمطية مدخلاً إلى ارتكاب الجرائم بشكل منهجي ومنظَّم. وهنا، تحمل الصورة النمطية مسوّغاتها الخاصة لممارسة الاستعباد أو التمييز العنصري أو حتى قتل الآخر. فعندما يتم تنميط الآخر الديني على أنه (كافر)، فهذا مبرّر لقتله (كما حدث مع فرج فودة، ومحاولة قتل نجيب محفوظ، على سبيل المثال لا الحصر)، فضلاً عن تنميط النساء على أنهن أدنى رتبة من الرجال، بوصف ذلك دافعاً إلى ممارسة العنف والإقصاء ضدهن، وهكذا دواليك. ومن ثمّ، فإن الصور النمطية ليست مجرد عملية ذهنية مجردة، أو ممارسة لعمليات شكلية من التمثيل الثقافي، بل هي بالأحرى تؤدي إلى أفعال مادية عنيفة وخطيرة للغاية. لذا، فإن التحرر من الصور النمطية لا يعني فقط تحرير الآخر من الصورة أو القوالب الجاهزة، بل تحرير الذات نفسها من الوقوع تحت أسر أنماط تفكير سلبية بغية شيطنة الآخر. ولا شك أنه كلما ارتقت الأمم في طرق تفكيرها وأصبحت أدوات العلم والمعرفة أحد المحددات لرؤية الذات والآخر، سوف يتراجع بالضرورة إنتاج ماكينات صناعة الصور النمطية، لكنه لن يتوقف تمام التوقّف. لأنها تمثل جزءاً من ثقافات الشعوب وسلوكها العدائي تجاه الآخر، حتى في المجتمعات الأكثر تطوراً وامتلاكاً لقيم الحضارة، لا تزال هناك الكثير من الصور النمطية، لعل من بينها رؤية الغرب العنصرية للمجتمعات الأخرى، خصوصاً المجتمع العربي.
ثمة علاقة يمكن رصدها بين صناعة الصور النمطية -فيما يتصل بالحديث عن الثقافات والشعوب والهويّات والأعراق- و(السرديات الكبرى)، حيث ينطوي مفهوم السرديات الكبرى Grand Narratives أو السرديات الشارحة، أو ما وراء السرديات Meta Narratives على دلالة الشمولية، باعتباره مفهوماً مرتبطاً ارتباطاً لصيقاً بالوعي الجمعي، وما قد يُثمر عن طريقة تفكير بعينها قد تُميّز هذا المجتمع أو ذاك إزاء الواقع. إن السرديّات الكبرى هي خيال الأمة ومخزونها الثقافي وطريقة تداولها للمعرفة الخاصة بها لمواجهة مجمل التفاعلات التي يزخر بها العالم اللامتناهي من حولها. إنها التصور الأيديولوجي للجماعة الذي يحدّد آفاق الرؤية التاريخية لها ويرسم معالم التوجهات والمسلّمات والثوابت التي لا يمكن الحياد عنها، وكذلك المواقف التي ترسم طبيعة العلاقة بين الذات والآخر من حيث هي علاقة سوف يرتكز عليها مفهوما (الحاضر) و(المستقبل) بالضرورة. إنها (الصورة النمطية) التي يتم تكريسها حول بعض الشعوب والمجتمعات والحضارات، أقصد إلى ما يشاع أو يروَّج له حالياً -عبر وسائط (الميديا) المتنوّعة ذات الدوافع الاستشراقية الواضحة- عن تخلّف الأفريقي، أو تطور الأوروبي، أو إرهابية المسلم، أو تسامح الأبيض، أو غير ذلك، ومثلها في ذلك مثل البديهيات التي يتم تداولها وتسويقها حول روحانية الشرق ومادية الغرب. إن السرديات الكبرى أو السرديات الجليلة هي التنميط التام لصورة الشعوب الأصلية ووحشيّتها وربط وجودها بلحظة اكتشافها على يد المغامر أو المكتشف الأوروبي، وهي التمويه الذي عمد الاستعمار إلى ممارسته قروناً طويلة من أجل ترسيخ صورة محددة الملامح لواقع متخيّل من صنعه الخاص وحده، بحيث يخدم توجّهاته في الحصول على كل ما يريد من وسائل مادية (كالسلاح، وكنوز العالم الجديد، والطريق إلى التوابل أو الحرير، والتبشير)، بهدف أن تسهم مثل هذه الصورة في تعزيز إستراتيجيات السيطرة والهيمنة على الآخر عبر وسائل وإستراتيجيات شتى، منها محاولة السيطرة على توجيه الدلالات الثقافية والمعرفية وربطها بشروط المهيمِن (الغالِب، المستعمِر) من أجل السيطرة على معارف ومقدَّرات الأمم المهيمَن عليها (المغلوبة، المستعمَرة) من خلال ترسيخ العلاقة بين طرفين كبيرين هما: المعرفة والسلطة، وبينهما تلعب الأنساق المضمرة لعبتها في إنتاج الأيديولوجيا الخالصة ممثلة في عدد من الصور النمطية.

ذو صلة