مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

قصة ترجمة كتاب كريستوفر كلافيوس إلى اللغة العربية في رعاية السلطان أورنك زيب عالمكير

شهدت الصلات الإسلامية- المسيحية تطوراً كبيراً في عدد من المجالات، بعد وصول المسيحيين الأوروبيين إلى الهند المغولية واستقرارهم فيها، ولاسيما منذ بداية القرن العاشر الهجري وصاعداً. وفي البداية، كان الاحتكاك والتفاعل بين الطرفين ذا طابع عدواني وعسكري في المقام الأول؛ لأن البرتغاليين وصلوا إلى شبه القارة الهندية، وإلى مناطق جنوب آسيا بهدف السيطرة على تجارة التوابل واحتكارها في المحيط الهندي، والتي كان يهيمن عليها في السابق التجار المسلمون.
ولأن المغول لم يكن لديهم طموحات كبيرة للسيطرة على البحار، وكذلك البرتغاليون، لم يبذلوا جهداً كبيراً لغزو شبه القارة الهندية كلها واستعمارها مثل البريطانيين، فتحولت تلك الاحتكاكات والتفاعل من مجرد المواجهة العسكرية والعدوانية، إلى المصالحة وعقد اتفاقيات في مجال التجارة والاقتصاد، ولاسيما على عهد السلطان أورنك زيب المتوفى 1118هـ/1707م الذي حاول تحقيق التوازن بين القوى الأوروبية المتصارعة في المناطق الهندية الساحلية. فقد ساد القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين التنافس التجاري الشديد والصراع السياسي بين تلك القوى الأوروبية في سبيل استعمار منطقتي أفريقيا وآسيا الجنوبية، وقد نشأت عن مبدأ التنافس الحروب الطويلة نجد أخبارها في المصادر الأوروبية والمحلية. وقد تمكنت بعض الدول الأوروبية نتيجة لحروبها بعضها ضد بعض أو لغزواتها الاستعمارية من استعمار معظم القارة الآسيوية وأفريقيا، وأجزاء كبيرة من قارات العالم الأخرى.
ورغم ضعف الدولة المغولية وتراجعها من الساحة السياسية والعسكرية منذ بداية القرن الثاني عشر الهجري، عادت تلك المواجهة مرة أخرى، وتحولت إلى منافسة سياسية وعسكرية شرسة، حيث سعت الدول الأوروبية مثل: فرنسا وبريطانيا وهولندا، إلى توسيع نطاق نفوذها وسيطرتها في منطقة المحيط الهندي. ولم تعد الدولة المغولية قادرة على مواجهة القوى الأوروبية المنافسة. بيد أنه بحلول نهاية سلالة المغول في عام 1273هـ/1857م، كانت الإمبراطورية البريطانية قد أحكمت سيطرتها السياسية والعسكرية والاقتصادية على معظم المناطق الهندية.
وعلى كل حال، فقد كان لوصول الأوروبيين إلى الهند ومناطق جنوب آسيا جانب مشرق، حيث أنتج التفاعل المسيحي المسلم ازدهاراً في مجالات المعرفة العلمية والتاريخية. ولا يمكن اختزال هذا التفاعل في الانتشار البسيط للمعرفة الأوروبية المتفوقة في الهند، أو مجرد عملية جمع المعارف الأصلية وإعادة ترتيبها وترويجها باللغات الشرقية، بما فيها اللغتان العربية والفارسية بالدرجة الأولى، بل نستطيع القول - وبصورة أدق - إن ذلك التفاعل كان نوعاً من البناء الذي أسهم في نشر المعارف العلمية بواسطة العلاقات المتبادلة، وإن كانت غير متكافئة، وعبر التداول والتباحث العلمي والمعرفي الذي حدث خلال وجود العلماء والمبشرين اليسوعيين في أكرا ولاهور ودهلي وغيرها. وقد جلب بعضهم الكتب المطبوعة والآلات الرياضية والفلكية من البرتغال ومن عواصم دول أوروبية أخرى، والتي عني بها السلاطين المغول ورجال الدولة، المهتمون بالعلم والثقافة.
ومن نماذج ذلك التبادل الثقافي والعلمي، ما حدث على عهد السلطان أورنك زيب الذي أرسل أحد حاشيته، وهو رستم بيك الحارثي البدخشي بن قباد بيك، المعروف باسم معتمد خان إلى البرتغال. وبعد وصوله تعلم معتمد خان اللغة اللاتينية، ثم ترجم العديد من الأعمال الفلكية والرياضية للعالم اليسوعي كريستوفر كلافيوس إلى العربية، الذي اعتمد بدوره على مدونات فلكية ورياضية وضعها العلماء المسلمون الذين طوروا الدراسات اليونانية السابقة، ونقلوها إلى اللغة العربية. وقبل الحديث عنه، وعن ترجمته لكتابه (المقاييس)، يجدر بي كتابة ترجمة موجزة لكلافيوس.
كان الألماني كريستوفر كلافيوس (Christophorus Clavius Bambergensis) (المتوفى 1020هـ/1612م) عالم رياضيات وفلكياً يسوعياً. لا توجد معلومات مفصلة عن حياته المبكرة، غير أنه ولد في بامبرغ عام 944هـ/1538م ونشأ فيها، حتى اختلف العلماء في اسمه الحقيقي، هل هو: كريستوف كلو، أو كلاو. ووفقاً للمصادر الألمانية، فقد انضم كلافيوس إلى الرهبنة اليسوعية في عام 962هـ/1555م، ثم التحق بجامعة كوميمبرا في البرتغال، وبعد ذلك قدم إلى إيطاليا ودرس علم اللاهوت في كلية رومانو في روما.
وخلال وجوده في روما، طالع كلافيوس الترجمات اللاتينية للمصنفات العلمية العربية، واستعان بها في دراسة النظريات العلمية المتعلقة في الجبر والحساب والفلك، ومن أهم الأعمال المترجمة عن العربية التي اعتمد عليها: مصنفات ابن رشد (المتوفى 520هـ/1126م)، ومصنفات فلكية لأبي معشر البلخي (المتوفى 271هـ/886م)، ومدونات الفلكي الإشبيلي أبي إسحاق البطروجي (المتوفى 600هـ/1204م)، وأعمال الفلكي أحمد بن كثير الفرغاني (المتوفى 247هـ/861م)، فضلاً عن أعمال الفلكي وعالم الرياضيات ثابت بن قرة (المتوفى 288هـ/901م) وغيرهم ممن وضعوا أعمالهم ومدوناتهم في تلك العلوم باللغتين العربية والفارسية، وقد استشهد كلافيوس في كتاباته، بتلك الشخصيات العلمية الإسلامية، وبمصنفاتهم استشهاداً عاماً.
وفي عام 986هـ/1579م، كلف كلافيوس بتطوير النظريات الحسابية في مجال التقويم والجداول، واجتهد في عمله معتمداً على بعض المدونات التقويمية، والجداول الفلكية القديمة، ولاسيما مدونات ألويسيوس ليليوس في مجال التقويم، وبموجب ذلك قدم اقتراحاته بإصلاح التقويم الذي اعتمد في عام 989هـ/1582م في البلدان الكاثوليكية، بأمر من البابا غريغوري الثالث عشر، وهذا هو التقويم الغريغوري الذي يستعمل الآن في جميع أنحاء العالم. ونظراً لأعماله واجتهاداته في مجال العلم، حصل على عضوية لجنة الفاتيكان، وكتب لاحقاً العديد من الأعمال المهمة في مجال الفلك والرياضيات، كما أنه وضع قانوناً عرف باسمه عن استنتاج الحقائق عن طريق نقض نقيضها. واكتسب شهرة كبيرة في الساحة العلمية، وأصبح أكثر علماء الفلك احتراماً في أوروبا آنذاك، وأدرجت أعماله في مجال الفلك في المدارس داخل أوروبا وخارجها، وظلت باقية في المناهج الدراسية لمدة نحو قرن من الزمان.
وقد طبعت أعماله الكاملة في خمسة مجلدات بعنوان (Clavius/ complete mathematical works). وقد كتب كلافيوس مدونة مستقلة بعنوان (Gnomonices Libri Octo) طبعت في عام 988هـ/1581م في روما، وهذا هو الكتاب الذي ذاع صيته في المناطق الشرقية، بما فيها الهند المغولية، في القرن الحادي عشر الهجري. وقد درس كلافيوس في هذا الكتاب في المقام الأول كيفية ضبط الوقت باستعمال الساعات الشمسية، كما شرح فيه كيفية صناعة الساعات الشمسية، وتصميمها وتكوينها.
ولعل من المناسب، أن أكتب هنا ترجمة مختصرة للمترجم وأسرته العلمية، قبل تعريف النسخة المترجمة لكتاب كلافيوس. كان معتمد خان؛ واسمه الكامل رستم بن قباد ديانت خان الحارثي البدخشي (المتوفى 1116هـ/1705م)، ينتمي إلى أسرة علمية عريقة، فوالده ديانت خان شاه قباد عبد الجليل الحارثي البدخشي (المتوفى 1082هـ/1672م) كان عالماً وفيلسوفاً ومتضلعاً من اللغتين العربية والفارسية، وقد شغل مناصب إدارية عليا على عهد السلطان أورنك زيب. وكتب صاحب كتاب (مآثر عالمكيري) في ترجمة ديانت خان، تأبيناً له، أنه (لم يكن يضاهيه أحد في الحسابات الفلكية). وأرسل السلطان أورنك زيب خلعة العزاء إلى أبنائه الثلاثة وهم: ديو أفكن، وشير أفكن ورستم، وأمر بترقية مناصبهم الإدارية.
وقد برزت شخصيات علمية وثقافية في عائلته، ومنهم مترجمنا الفاضل رستم معتمد خان وولده، ميرزا محمد بن رستم معتمد خان، الذي كتب أنه ورث العديد من المخطوطات العربية والفارسية عن والده وجده، مما جمع ونسخ تحت رعايتهما وإشرافهما المباشر، ومنها على سبيل المثال: (مجموعة من أربع عشرة رسالة في نظرية الموسيقى، باللغتين العربية والفارسية)، بحيث جمعت في هذه المدونة مقالات متخصصة في الموسيقى دونها علماء الحضارة الإسلامية البارزون مثل: الفيلسوف يعقوب بن إسحاق الكندي (المتوفى 256هـ/873م) ورسالته (في المدخل إلى صناعة الموسيقى)، و(رسالة في الإيقاع)، وكتاب أبي منصور ابن زيلة (المتوفى 440هـ/1048م) المعنون بـ(الكافي في الموسيقى)، و(رسالة في الموسيقى) لابن المنجم، و(كتاب الموسيقى الكبير) لأبي نصر محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي (المتوفى 339هـ/950م) وغيرهم، فضلاً عن المدونات الأخرى المكتوبة باللغة الفارسية في العصور الإسلامية.
ولد ديانت خان في قندهار في أفغانستان اليوم، إلا أن أسرته هاجرت إلى دهلي حيث نشأ وترعرع، ودرس العلوم المتداولة، وتخصص في الفلسفة والموسيقى، واهتم بالتراث الموسيقى العربي والفارسي. وعين لفيفاً من الخبراء والمتخصصين في هذه العلوم لجمع النسخ الخطية، ونسخ النصوص العربية والفارسية تحت رعايته وإشرافه، وكذلك استعان بالعلماء الهندوس المتخصصين في العلوم واللغة السنسكريتية؛ لنقل النصوص السنسكريتية عن آلات الموسيقى والغناء، فضلاً عن النصوص العلمية الأخرى في مجال الفلسفة والفلك.
ويتضح من بعض الملاحظات التي كتبها ديانت خان على بعض المخطوطات، أن مشاركته قد تجاوزت التدقيق في النصوص، إذ إنه أضاف بنفسه بعض الجداول والمخططات إلى مخطوط نسخ له خلال وجوده في جنوب الهند في عام 1066هـ/1655م، وهي نسخة من رسالة البرجندي المعنونة بـ(الرسالة في صنعة الآلات الرصدية والعمل بها) لعبدالعلي بن محمد حسين الحنفي الملقب بـ(البرجندي) (المتوفى نحو 935هـ/1526م)، وله نسخة خطية محفوظة في المكتبة البريطانية تحت رقم (IO Islamic 4419). وعلم الآلات الرصدية هو فرع من فروع علم الهيئة، وهو علم تعرف بواسطته كيفية صناعة الآلات الرصدية قبل الشروع بالرصد، فإن الرصد لا يجري إلا بالعديد من الآلات الفلكية.
فقد جمعت تلك المدونات والرسائل في مجال الموسيقى، خلال رحلته إلى كشمير ولاهور، ولها نسخة نفيسة جداً محفوظة في المكتبة البريطانية ضمن المخطوطات الشرقية تحت رقم (Or. 2361). وهذا المخطوط عبارة عن مدونة ثنائية اللغة (العربية-الفارسية) مستندة إلى مصنفات مرجعية عن التحليل العلمي للصوت والإيقاع والتناغم، فضلاً عن الإرشادات العملية عن صناعة الآلات الموسيقية.
لا تعطينا المصادر المغولية معلومات مفصلة عن حياة معتمد خان المبكرة، حتى إننا لا نعرف تاريخ لادته ومكانه على وجه التحديد، فربما ولد في دهلي أو في الدكن، إلا أنه يتضح مما سبق أنه نشأ وتربى في بيت العلم، ويتبين من كلام ولده أن بيتهم كان بيتاً معروفاً في مجال العلم والمعرفة، ومن كان هذا شأن بيته؛ فلا شك في أن تكون نشأته نشأة علمية وثقافية، فقد نشأه والده على حب العلم والمعرفة فتمكن من إتقان اللغتين الفارسية والعربية على حد سواء، بالإضافة إلى التضلع من العلوم التطبيقية من الحساب والفلك إلخ. ولا ريب أن إدمانه المطالعة والبحث، وذكاءه المفرط، واستعداده العلمي والمعرفي هو ما ساعده في تعلم اللغة اللاتينية وإتقانها لدرجة أن يترجم كتاباً علمياً معقداً في مجال الفلك وعلم الساعات الشمسية، إلى اللغة العربية الفصيحة، وهي ليست بلغته الأم.
وعلى أي حال، ترجم معتمد خان، كتاب كريستوفر كلافيوس المعنون بـ(Gnomonices Libri Octo) إلى العربية بعنوان (كتاب المقاييس) خلال وجوده في البرتغال، وأتى بتلك النسخة الأولى معه إلى الهند. وقد بقيت تلك النسخة المترجمة لكتاب كلافيوس في المكتبة الملكية المغولية، إلى أن حصل عليها -أو اشتراها- المستشرق ريتشارد جونسون (Richard Johnson) (المتوفى 1221هـ/1807م)، الذي عرف عنه ولعه الشديد بجمع المخطوطات الإسلامية، والمنمنمات المغولية خلال عمله لصالح شركة الهند الشرقية في عصر الاستعمار البريطاني. خط جونسون ملاحظة توضيحية على الصفحة الأولى للمخطوط، بأن مترجم أعمال كلافيودس قد أرسله السلطان أورنك زيب إلى البرتغال على الأرجح للدراسة أو في بعض المهمات الدبلوماسية. وتفيد تلك الملاحظة: (بموجب الطلب الملكي، ترجم معتمد خان كتاب كلافيوس من اللاتينية، إلى اللغة العربية خلال وجوده في البرتغال على عهد السلطان أورنك زيب. وهذه هي المسودة الأولية للترجمة العربية خطها المترجم بنفسه).
وثمة ملاحظة أخرى، أضافها على الصفحة الأولى للمخطوط ابن المترجم، ميرزا محمد بن رستم معتمد خان باللغة العربية تقول: (مسودة كتاب المقاييس الذي صنفه كلاويس الفرنجي، بلسان لاتيني، وترجمه والدي رحمه الله بلسان عربي مبين، وهو صاحب الفضائل الوهبية، حاوي الكمالات الكسبية، رستم المخاطب (الملقب) بـ معتمد خان، ابن جامع أشتات العلوم، واقف أسرار المنطق والمفهوم، قباد الملقب بديانت خان الحارثي البدخشي، جزاهما الله بالحسنى، وأوصلهما إلى الدرجات الأسمى. وأنا العبد الضعيف الراجي رحمة الأحد، وشفاعة أحمد، ميرزا محمد، أوصله الله تعالى إلى سعادة السرمد).
والسؤال المطروح هنا: ما خصائص هذه الترجمة العربية ومميزاتها؟ إن هذه الترجمة العربية، بجانب مضامينها المتعلقة بعلم الساعات الشمسية تقدم معلومات مهمة أخرى، ومنها على سبيل المثال: كيفية تداول العلم والمعرفة في بداية العصر الحديث. وقد اكتسبت أعمال كلافيوس، المستلهمة من الترجمات اللاتينية لمصنفات العلماء العرب والمسلمين، شهرة كبيرة في الساحات العلمية في الغرب والشرق إبان تلك الحقبة؛ مما دفع السلطان أورنك زيب إلى إرسال أميره معتمد خان إلى البرتغال لترجمة كتابه المذكور، وبذلك نقل معتمد خان التراث العلمي للمسلمين مرة أخرى إلى اللغة العربية. وكان كل من معتمد خان ووالده وابنه ضمن حاشية البلاط العالمكيري.
كما تدل هذه الترجمة على مدى تعقيد التدفقات المعرفية، وتظهر أنها كانت تزامنية، وكذلك تاريخية، وانطوت أيضاً لا على عملية الترجمة فحسب، وإنما على عملية إعادة ترجمة تلك النصوص وإعادة تفسيرها وتوضيحها، والتطورات التي حدثت أثناء عملية الانتقال ما بين اللغات. علاوة على ذلك، فإن التملكات والملاحظات المكتوبة باللغتين الإنجليزية والعربية بقلم المستشرق البريطاني، والأخرى بخط أحد رجال البلاط المغولي، تطرح احتمال أن النخبة المغولية ربما سافرت إلى أوروبا للدراسة على عهد السلطان أورنك زيب. وفيما يتعلق بالمترجم معتمد خان، فلا شك أنه كان يملك ناصية اللغة العلمية لكل من اللغتين العربية واللاتينية، مع الإحاطة التامة بالمصطلحات التقنية للهندسة والرياضيات في كلتا اللغتين، ومن ثم، تمكن من نقل مضامين كتاب كلافيوس إلى اللغة العربية العلمية. ومع أن العديد من الأعمال العلمية والفكرية أنتجت في رعاية الدربار المغولي وإشراف السلاطين المغول، لاتزال هذه الترجمة العلمية باللغة العربية، بحاجة إلى دراسة معمقة. ومن الممكن أيضاً أن يكون لوجود اليسوعيين في منطقة / وا الهندية تأثير من نوع ما في إنتاج هذه الترجمة وإنجازها، إلا أن ذلك الأمر يتطلب دليلاً قاطعاً.
وعلى كل، فإن النسخة العربية المكتوبة بخط المترجم وجدت طريقها إلى مكتبة المكتب الهندي بلند، ومنها انتقلت ضمن المخطوطات العربية والفارسية إلى المكتبة البريطانية، وهي محفوظة الآن فيها تحت رقم الاستدعاء (IO Islamic 1308)، ويوجد لها أيضاً نسخة إلكترونية متاحة على مكتبة قطر الوطنية الإلكترونية، ويمكن تحميلها بواسطة الرابط الآتي: (https://bit.ly/3oMe8xp). خطه المترجم بخط النستعليق، وهو الخط المعتمد لدى العلماء الهنود في العصور الإسلامية، في تدوين مصنفاتهم باللغات العربية والفارسية والأوردية. يقع المخطوط في 876 ورقة، وتنقسم مضامينه إلى ثمان مقالات، تحتوي العديد من الرسومات التوضيحية والجداول.
بدأ المخطوط بالفقرة: الشكل الأول نريد أن نرسم دستوراً لأي عرض بلد شئنا فليكن (أ ب ج د) دائرة نصف النهار على مركز العالم، والفصل المشترك بينه وبين الأفق خط ب د، وتحسب من نقطي ب د بقدر عرض البلد المفروض في الجهتين أ ي ح ز، ويصل قطر ر ح...، أما نهايته، فجاء فيها: (فليطلبها من المصنفين الآخرين على أن نبحث فيها.. وقتنا آخر كثيراً لاسيما إذا لم يتقدم الغلط في رسم الآلة بصورة الحلقة المور ومن أورونيوس وفي رسم آلات أخرى. وأسال الله التوفيق للطالب الساعي فيه أن يفهمه بوجه حسن). وأتى في حرد المتن: (تمت المقالة الثامنة، وبها تم الكتاب بعون الملك الوهاب، والحمد لله على ذلك، والصلاة على رسوله، وعلى آله وأصحابه أجمعين).
لا توجد مقدمة أو تمهيد أو توطئة للمترجم في بداية المخطوط، بل حذفت في الترجمة مقدمة المصنف الأصلي (ص 1-10 من النص اللاتيني) في الكتاب الأول. وكذلك حذف الشكل الثامن في الترجمة، إلا أن المترجم نفسه أعده بصورة منفصلة. ووضع ذلك الشكل الثامن في مخطوط بعنوان (أربع أطروحات عن المخروطات) الذي خط في عام 1249هـ/1834م، ويتكون من أربع أطروحات رياضية في مجال المخروطات، والأطروحة الأولى جاءت بعنوان: كلاويس/ كلافيوس الفرنجي، الشكل الثامن من المقالة الأولى من كتاب المقاييس، وأربع مقتطفات من كتاب كلافيوس السادس عن تحرير أصول لأوقليدس (الأوراق 3-41)، وهذا المخطوط محفوظ في المكتبة البريطانية تحت رقم (Add MS 14332)، وجاء في نهاية الأطروحة الأولى قد فرغ من تسويدها وتحريرها بن قباد بيك الحارثي المخاطب بديانت خان (راجع الورقة 41). وعلم المخروطات هو العلم الذي ينظر ما يقع في الأجسام المخروطة من الأشكال والقطوع، وأشهر من اشتغل به من علماء الإغريق: أبولونيوس (260-200 ق.م).
وفي نهاية المطاف، يجدر بي أن أشير إلى أن تلك العلاقات العلمية التفاعلية بين الهند وأوروبا، والتي ظلت باقية على عصر الاستعمار البريطاني. وفي نهاية القرن الثاني عشر الهجري، مثل العالم الهندي: تفضل حسين مرةً أخرى ديناميكية التداول والمباحثات العلمية في كتابه العلمي، ولاسيما ترجمته مبادئ نيوتن الرياضية إلى اللغة العربية.
وقد تلقى تفضل حسين تعليمه على أسس إسلامية تقليدية في دهلي ولكنهؤ، وبرز لأول مرة مدرساً لأبناء نواب إمارة لكهنؤ. وبعد ذلك، اختارته شركة الهند الشرقية للذهاب ضمن البعثة الدبلوماسية إلى إمارة المراهتا في جنوب الهند. وعليه، فقد انتقلت العلاقات التي أقامها مع الموظفين البريطانيين في شركة الهند الشرقية إلى ما وراء السياسة؛ لتشمل المناقشات العلمية عن علم الفلك والرياضيات وغيرها من المجالات العلمية. وقد تفاعل مع أعضاء الجمعية الآسيوية عند تشكيلها في كلكتا، وعين لتدريس العلوم الإسلامية والعربية. بيد أنه - وفي الوقت نفسه - حاول تعلم ما كان قادماً من أوروبا من العلوم واستيعابه، محاولاً الجمع بين المجالين.
وقد علق المستشرق البريطاني، روبن بورو (المتوفى 1206هـ/1792م)، عالم الفلك والرياضيات الذي كان عضواً أساسياً في الجمعية الآسيوية بالبنغال، على الحوار الحضاري الذي مثلته ترجمة تفضل حسين لرسالة أبلونيوس البرغاوي المسماة (De sectione rationis) التي نشرت في أوروبا عام 1117هـ/1706م. وكتب روبن قائلاً: مصير هذا العمل عجيب وفريد، فقد ترجم من اليونانية إلى العربية في العصر العباسي، وفقد الأصل اليوناني، وبعد ذلك ترجم من العربية إلى اللاتينية، من مخطوط قديم محفوظ في مكتبة بودليان. والآن فقدت الترجمة العربية في آسيا. وقد ترجمت أنا النسخة اللاتينية إلى الإنجليزية، والتي يترجمها تفضل حسين إلى اللغة العربية من جديد.
وهكذا، كان التبادل العلمي والثقافي مكوناً مركزياً في مسألة التفاعل المسيحي الإسلامي إبان تلك الفترة التاريخية، حتى في أوقات الهمينة الإمبريالية وقهر الاستعمار. والحق، كانت الديناميكية الجديدة التي غيرت مسار العلاقات المسيحية الإسلامية تغيراً جذرياً منذ بداية العقود التي أعقبت نهاية إمبراطورية المغول في الهند، انعكاساً جديداً لموجة خلقت فرصة مناسبة لتنقل الرحالة والتجار والعلماء الذين رحلوا من الهند إلى أوروبا، وواصلوا الحوار العلمي والمعرفي بين الأديان في بيئة جديدة، لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.

ذو صلة