عندما يكتب الإنسان عن القامات العلمية العالية والشخصيات الثقافية الشامخة التي زهدت في المناصب، أو زهدت فيها المناصب، يأخذه العجب ويقع في حَيْرةٍ من أمره وربما ترك القلم لمن هو أجدر منه بالكتابة عن أولئك العمالقة ممن هم أقرب إليهم وألصق بهم وأكثر معرفة بتفاصيل حياتهم، كما أن مكانتهم العلمية تفرض أن يتحدث عنهم من هو في درجتهم من العلماء الأجلاء الذين يقدرون أعمالهم ويشهدون على إنجازاتهم، ولكن حين تكون الكتابة من باب الوفاء للعلم والعلماء ومن منطلق التعريف بالأعلام الغائبين عن الإعلام، وفي سياق تسليط الضوء على الثقافة السعودية والهوية والوطنية، فلا بد من كلمة حق وإنصاف لأحد علماء الأنثروبولوجيا البارزين في بلادنا، إنه أكاديمي ولكنه ليس كالأكاديميين الذين تكلسوا في أبراج النخبوية منكفئين على بحوثهم المكتبية المكرورة ودراساتهم التقليدية المجرورة، ولكنه جعل المجتمع ميدانه، والصحراء صولجانه، ليستحلب الذاكرة الشعبية قبل فناء أجيال مرحلة ما قبل النفط، ويجمع شتات المواد الثقافية الخام مشافهة من ألسنة الرواة والشعراء والحرفيين، ثم يعمل عليها وفق المناهج العلمية الحديثة، مستصحباً خبرة السنين ومهارة المتفننين وجلد المستشرقين! وماذا عساني أن أقول بعد ذلك عن هرم بحجم الدكتور سعد الصويان؟!
فالدكتور الصويان عالم أنثروبولوجي بل هو -حسب علمي- أول أستاذ سعودي في الجامعات السعودية في هذا التخصص وربما الوحيد إلى وقت قريب، هذا الأستاذ قضى عمره في دراسة الثقافة العربية الأصيلة التي تمتد إلى أعماق التاريخ حتى أصبح مرجعاً علمياً في كثير من مفردات هذه الثقافة، تشهد له في ذلك المراكز العلمية المتخصصة حول العالم، وألاحظ أن بعض الأطروحات تختزل دوره في دراسات الشعر النبطي، والحقيقة أن تعمقه في دراسة الشعر النبطي ما كان إلا لأجل أنه اكتشف أن هذا الشعر أداة حسّاسة ومهمة لا يمكن الاستغناء عنها في فهم ثقافة الصحراء والتحليل والربط بين العرب الأواخر والعرب الأوائل ضمن أدوات علمية عديدة يستخدمها علماء الأنثروبولوجيا.
وإلا فالاهتمام بالشعر النبطي ليس غريباً على أهل عنيزة -التي هي مسقط رأسه- وما لا يعرفه الجميع أن (الدكتور سعد) أيضاً شاعر نبطي مرهف الإحساس نديّ المشاعر، يهزّه الجمال ويشعفه الهوى، ومن أبياته:
جروح قلبي كل ما جيت ابرفاه
هذا يشلّونه والآخر تِفَتّق
عِزّيل من هو في حساب الهوى تاه
أتعب أجمّعها وترجع تِفَرّق
وهو القائل:
قالوا تثقّف قلت ليه أتثقّف
ما نيب أنا راعي قرايه وتعلوم
أقرا رقومٍ راقشتها على الكف
ولا نيب بقراي القراطيس ملزوم
ولا أدري بعد ذلك هل أتحدث عن سيرته الذاتية المنشورة أو عن علمه التخصصي المعلوم أو عن أعماله وإنجازاته المعروفة، ولكن الذي أعلمه أن الدكتور هرب من غربة اليتم في عنيزة قبل نحو نصف قرن إلى غربة العلم في أمريكا عام 1965م، وكان يظنها آنذاك هجرة من ضيق التخلف الحضاري والجدب الفكري إلى رحابة التقدم والتطور والعلم والثقافة، وكانت تجربة طويلة قلبت حياته وطريقته في التفكير رأساً على عقب، خرج منها باكتساب بعض القيم الثقافية مثل استقلالية الرأي وحرية التعبير وإعمال الفكر وتحمل مسؤولية التفكير، ونبذ ازدواجية المعايير بين الفكر والسلوك، وبين ما يفكر فيه وما يقوله ويكتبه، ورغم ذلك فإنه كان كلما تعمقت محاولاته لفهم الثقافة الأمريكية يجد نفسه لا إرادياً وبطريق غير مباشر يتعمق في فهم نفسه وخلفيته الثقافية والاجتماعية، لأن المقارنة بين الحالين تأتي تلقائياً دون قصد. لكنه لاحقاً صار يتعمد المقارنة، وفي منتصف المرحلة بدأت تراوده فكرة اللا عودة إلى بيوت الطين والغبار والحياة الرتيبة والأفكار المسطحة التي لا تسمح بأدنى اختلاف في وجهات النظر والاستقلالية الذاتية.
هذه المقارنات هي التي قادته إلى دراسة الأنثروبولوجيا والثقافات التقليدية لدى مختلف الشعوب، خصوصاً البدائية. عندها أدرك أن لكل ثقافة منطقها ولا يجوز المفاضلة بين الثقافات وكل ما هنالك أن المسألة مسألة نسبية بحتة. فقرر العودة إلى جذور ثقافته ليتفحصها بعيداً عن الانطباعية وعن القوالب الجاهزة، فقرر التسلح بالمنهجية العلمية ليعيد اكتشافها بموضوعية، فبدأ بنزع الأقنعة واحداً بعد الآخر حتى حسرت له ثقافته عن وجهها وتبدت له حقيقتها الغائبة عن ذهنه. يقول الدكتور: إنها لم تكن جميلة لكنها لم تكن قبيحة بالشكل الذي كان يتصوره، فتآلف معها وارتبط بها ليعود بعد 17 سنة ويدها في يده مردداً أثناء نزوله من الطائرة:
هذي عنيزة ما نبيعه بالزهيد
لا فرعن البيض نحمي جالها
وبينما كانت أحلامه تسوقه إلى فضاء العمل الجاد والدراسات الأكاديمية العميقة، فإنه كان متحمساً وحيوياً ومتوقداً منذ وطأت قدماه أرض الوطن عام 1982م بحضوره الإعلامي ونشاطه الثقافي ولكن ما إن بدأ مشواره الجديد حتى اصطدم بإشكالات ومعوقات، وظهرت في طريقه صعوبات وعقبات نتيجة اختلاف المفاهيم وطريقة التفكير وتباين الأهداف وربما سوء الفهم وسوء الظن بين القادم من الغرب والمقيم في الشرق، فدخل في معارك في كل الاتجاهات، فالصحافة الشعبية التي يفترض أن تدعم توجهاته لخدمة الثقافة الشعبية لم تستوعب الطرح المنهجي والمصطلحات العلمية التي يدعو إليها! ولو وقف الأمر على الصحافة الشعبية لاكتفى بترديد قول الشاعر:
أنا على لانٍ وربعي على لان
متخالفٍ رايي وراي الجماعة
ولكن الساحة الثقافية أيضاً أجلبت عليه خيلها وبادرته بالحرب واتهمته بالدعوة إلى العامية، واعتبرت أطروحاته جناية على اللغة العربية تهدف إلى القضاء عليها في مهدها، واستنكرت وجود الصلة بين الشعر النبطي والشعر الجاهلي، بل أكدت، مع سبق الإصرار والترصد، أن في إحياء الشعر النبطي دعوة لإحياء النعرات الجاهلية.
كما استجرت هذه المعارك أطرافاً من التيار الديني حاكمت نواياه ووصفته بمناهضة الإسلام ومناهضة العروبة، منهم من اكتفى بطلب المغفرة والهداية له ومنهم من طلب منه مراجعة نفسه والتوبة من ذنبه.
وأخذ بعض من هؤلاء يتهكم بشهادة الدكتوراه غير مفرقين بين الشهادة التي كانت في الأنثروبولوجيا والفلكلور والدراسات الشرقية، وبين موضوع الرسالة الذي كان في الشعر النبطي، وغير مستوعبين للمساق العلمي الطبيعي للحصول عليها من أمريكا.
ومع ذلك فإنه لم يذخر جهداً في محاولة إقناع أولئك في هدوء وعقلانية، متعجباً من ذلك الهجوم مثل قوله في نهاية محاضرة في النادي الأدبي بالرياض عام 1985م بعنوان (العزوف عن دراسة التراث الشعبي.. الأسباب والنتائج) موجهاً كلامه لبعض المعارضين: (ألست واحداً من مثقفي هذا البلد ومن حقي أن تكون لي وجهة نظر وأن أدافع عنها؟! هل يليق أن نواجه رأي الغير بهذا السيل من المصادرات والافتراءات والتهديد والتخويف؟!).
وكانت الجبهة الرابعة هي جبهة الجامعة أو الوسط العلمي الذي كان ينتظر منه العون في دعم دراساته وأبحاثه حيث فشل في لفت الانتباه إلى أهمية الدراسات الشعبية لأن محاولاته فُسّرت كتفسير الآخرين، كما حاول أثناء رئاسته لقسم الدراسات الاجتماعية (1984 - 1988م) إدخال فرع للأنثروبولوجيا ولكن زملاءه في القسم فسروا ذلك بأنه تهديد لهم في أرزاقهم، لأنه محاولة لإلغاء علم الاجتماع، بينما عمادة الكلية آنذاك فسرت المسألة بأنها محاولة لتدريس الطلاب أن الإنسان أصله قرد! فأصبح حاله كحال القائل:
إن الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمي لمختلف جدّا
ربما لو قامت هذه الحرب المعلنة على غير الصويان لحزم حقائبه وعاد أدراجه من حيث أتى، وحتماً سيجد من بين المراكز العلمية هناك من يحتضنه ويدعمه بسبب تأهيله العالي ورصيده المعرفي وخبرته العميقة في تخصصه، ولكنه كان محارباً شرساً يستعصي على الانقياد وكأنه يتمثل قول الشاعر:
لا أبتغي وصل من يبغي مقاطعتي
ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
بينما يفسر هو بعض هذه المواجهات بسوء التوقيت حيث أشار أن عودته للمملكة جاءت في أوج المد الأصولي، وهو الذي ساهم كثيراً في إخفاقات مشاريعه وفي تعمد اغتيال ذاته وتشويه سمعته وتعبئة الأجواء ضده ربما على طريقة:
فإن قلتُ عُرْفاً أنكروه بِمُنكرٍ
وغطّوا على التحقيق بالشبهات
ولكنه تقاصر عن جدالهم ولجأ بعد ذلك للتخلص من هذه الضوضاء بالصدود والصمت والبعد عن الإعلام، مشبهاً نفسه (بمذنب هالي أو بالنجم أبوعسيب اللي ما يظهر إلا بالسنين المدهرة)، ولكنه في الحقيقة انشغل بالاستغراق في مشاريع علمية اقتنصها لتخفيف الضغط والإحباط وإثبات الوجود مكتفياً بترديد البيتين:
لولاي أخلّي كل سيلٍ ومجراه
ما صار لي عند النشاما شبوحِ
إلى شفت خبلٍ يدبل الكبد بحكاه
صديت عنه وقلت أنا أبخص بروحي
فانصرف أولاً إلى (مشروع جمع الشعر النبطي من مصادره الشفهية) الذي موّله مركز البحوث بكلية الآداب، جامعة الملك سعود، والذي تم فيه تسجيل مئات الساعات من تسجيل مقابلات شفهية مع المسنين من رواة البادية وجمع كل ما يتعلق بحياة البادية من أشعار وقصص وأنساب ووسوم وديار وموارد ومعلومات إثنوغرافية وتاريخ شفهي وذلك خلال الفترة (1983 - 1990م).
ثم إلى المشـروع الوثائقي الرائع (الثقافة التقليدية في المملكة العربية السعودية) الذي صدر عن دار الدائرة للنشر والتوثيق في 12 مجلداً يقع كل منها في حدود 500 صفحة، يتناول كل مجلد منها جانباً من جوانب الثقافة التقليدية من الطب الشعبي والعطارة إلى الألعاب الشعبية إلى العمارة التقليدية إلى الفلاحة إلى الحرف اليدوية، وهكذا. وشارك في تأليف هذه المجلدات وكتابتها عشرات المختصين والأكاديميين والمهتمين بمختلف جوانب الثقافة الشعبية والحياة التقليدية في مختلف مناطق المملكة العربية السعودية. كما شارك شخصياً في تأليف بعض المجلدات مثل مجلد الإبل ومجلد القنص والصيد.
وتلاه المشروع الوثائقي العظيم (الملك عبدالعزيز آل سعود: سيرته وفترة حكمه في الوثائق الأجنبية) الذي صدر عن دار الدائرة للنشر والتوثيق في 20 مجلداً ضخماً يقع كل منها في حدود 700 صفحة تحتوي على ملخصات عربية وافية لما لا يقل عن 50 ألف وثيقة تم جلب أصولها من الأرشيفات البريطانية والفرنسية والأمريكية كلها تتعلق بفترة حكم الملك عبدالعزيز آل سعود، وتغطي الفترة التي تمتد من نهاية القرن التاسع عشر حتى نهاية عام 1953. وشارك في تلخيص وترجمة وصياغة هذه الوثائق عشرات المؤرخين والمختصين في اللغات الأجنبية.
أمضى الدكتور سعد الصويان في إنجاز المشروعين السابقين عشر سنين، ربما يكون عوّض بهما بعض إحباطاته السابقة لأنهما بالفعل كانا من أهم المشاريع التوثيقية على مستوى العالم العربي كله، وتميزا بالدقة والإتقان وصرامة المنهج وقيمة المضمون وأناقة الشكل وضخامة الحجم.
ولكن بعد إنجازه هذين المشروعين العلميين العظيمين، كان على موعد مع مفاجآت لم تكن في الحسبان تصلح أن تكون رواية في فن تكسير مجاديف المبدعين، فقد تمت بقدرة قادر مصادرة المشروع الأخير بعد طباعته ومنعه من التداول! ثم إنه لما عاد إلى الجامعة وجد أن الأرشيف الذي عمل على تكوينه في قسم الدراسات الاجتماعية للعناية بالتسجيلات التي جمعها في مشروع جمع الشعر النبطي من مصادره الشفهية غير موجود، فقد رمى القوم بالأشرطة في أحد المخازن ما عرضها للتلف جراء الغبار والحرارة. ثم إن الدار الناشرة لموسوعة الثقافة التقليدية في المملكة العربية السعودية اختفت ولم يعد بالإمكان إعادة طباعة الموسوعة مرة أخرى! ولعل وزارة الثقافة اليوم تتبنى فكرة إعادة إصدارها، فإن كل الصيد في جوف الفرا.
والحقيقة أن الدكتور سعد الصويان كان وما زال مؤمناً بخلود الأعمال العلمية الرصينة، وقد ظلت مشاريعه العلمية السابقة رغم كل شيء معيناً لجميع الباحثين بسبب سرعة انتشارها وتداولها بطريقة أو بأخرى وندر أن تخلو رسالة علمية في التاريخ الحديث أو في علم الاجتماع من الاعتماد على تلك المشاريع، ولعل في هذا عزاءً له.
مع العلم أنه صدر للدكتور الصويان خلال 1983 - 2001م أيضاً عدد من الكتب والدراسات والمقالات باللغتين العربية والإنجليزية تتسم بالتجديد والإضافة النوعية، فقد نشرت جامعة كاليفورنيا رسالته حول الشعر النبطي سنة 1985م، وصدر في العام نفسه كتابه (جمع المأثورات الشفهية)، وفي عام 1988م نشر كتابه (حداء الخيل) الذي يعد أول مؤلف عربي مطبوع في هذا الفن، كما نشرت له دار هاراسوتز في ألمانيا سنة 1992م دراسة لغوية وإثنولوجية. وفي عام 2000م صدر له عن دار الساقي كتاب ضخم يحمل خلاصة دراساته الطويلة في الشعر النبطي تحت عنوان (الشعر النبطي - ذائقة الشعب وسلطة النص)، وجاء في 616 صفحة، رصد فيه أوجه العلاقة التي تصل الشعر الجاهلي بالشعر البدوي أو ما يسمى بالشعر النبطي، وتتبع فيه مسيرة الشعر في الجزيرة العربية وفق حقب متتالية، تبدأ من العصر الجاهلي، عصر الفصاحة، حتى العصور اللاحقة، عصور العامية، للبرهنة على أن الشعر الجاهلي والشعر النبطي هما البداية والنهاية لموروث شعري مستمر عبر التاريخ، واعتمد الدكتور في تحقيب الشعر النبطي على دراسة وتحقيق المخطوطات الشعرية القديمة، ويعد هذا العمل من الأعمال، ذات المنهج العلمي الرصين، التي لا يستطيع إنجازها إلا من هو في خبرة وكفاءة وجلد الأكاديمي سعد الصويان.
وفي العام التالي، أي عام 1421هـ / 2001م، صدر له عمل نوعي غير مسبوق هو (فهرست الشعر النبطي) في 668 صفحة، وهدف إلى رصد كل ما هو مطبوع ومنشور من نتاج شعراء وشاعرات الحاضرة والبادية باستثناء المتأخرين منهم، وتقوم فكرته على حصر جميع الشعراء والشاعرات الذين يقعون ضمن المحددات المكانية والزمانية والموضوعية وترتيب أسماء الشعراء أبجدياً -غير أنه فصل الشعراء عن الشاعرات-، وبعد اسم الشاعر يورد مطالع قصائده المنشورة في المصادر المطبوعة مرتبة حسب حرف الروي في قافية العجز، وبعد مطلع القصيدة يورد جميع المصادر التي نشرت فيها بطريقة مختزلة تشتمل على الاسم الأخير للمؤلف وسنة النشر مرتبة حسب سنوات النشر. وبعد المصدر يورد رقم الصفحة وعدد أبيات القصيدة لكل مصدر، ويمكن للقارئ التعرف على المصدر بالكامل من خلال القائمة البيبلوغرافية المستقلة التي يتضمنها الكتاب، وعدد مصادر الفهرست يقارب 200 مصدر، ما يجعلنا نقدر حجم الجهد المبذول في هذا العمل العلمي الضخم الذي لم يظهر إلا بجهد فردي لشخص غير عادي هو الدكتور الصويان.
والحقيقة أن العملين الأخيرين رغم الجهد الكبير المبذول والمنهجية العلمية الصارمة إلا أنه لم يتم تلقيهما بما يستحقان من التقدير في الأوساط العلمية في بلادنا، وإن كانت الأوساط العلمية في الغرب قد احتفت بهما كثيراً فما هو السبب يا ترى؟! السبب دون مواربة هو أن الثقافة العربية ترفض، دون غيرها من الثقافات العالمية، التعامل مع آدابها العامية برحابة صدر وموضوعية.
وماذا بعد؟ هل توقف الصويان؟ لا لم يتوقف بل استمر يعمل بهدوء وصمت رهيب بعكس أولئك الذين يتكلمون أكثر مما يعملون؛ حيث انشغل باستكمال مشروعه الثقافي وبالغوص في الأعماق لاستخراج الدرر النادرة وبالعمل على إصدارات علمية فاخرة. والدكتور الصويان، كسائر العلماء المجوّدين لأعمالهم المحققين لمؤلفاتهم، يستغرق في إنجاز دراساته وتأليف كتبه وقتاً طويلاً فتخرج منسقة كعقود الألماس، معتقة كدهن العود، لأنه يخلص للفكرة التي يتبناها ويتفانى في خدمة الموضوع الذي يبحثه ويستقصي الدقائق وتفاصيل التفاصيل فلا يترك شاردة إلا ورد بها ولا واردة إلا شرد بها، ويربط الحاضر بالماضي، ويستدني البعيد بالقريب، فلا يخرج عمله إلا ناضجاً في ظاهره وباطنه، جميلاً في شكله ومضمونه، ولذا فلا غرابة أن نجد متوسط إنجاز مجمل أعماله الضخمة هو عشر سنوات تقريباً، متعالياً بكبرياء العلم على زمن (التيك أوي وسلق البيض).
في عام 2010م نشر الصويان في وقت واحد وفي دار نشر واحدة كتابين ضخمين يأتيان استكمالاً لمشروعه الرائد في التعريف بهويتنا الثقافية الحقيقية المتجذرة في صحراء الجزيرة العربية من خلال توظيف الثقافة الشفهية في التعامل مع الثقافة الكتابية والتاريخ المكتوب وفق منهجية علمية موضوعية مجردة تكشف أسرار العمق التاريخي للثقافة العربية الأصيلة التي حرم أبناؤها استلهامها، متوهمين أنهم يقفون بذلك في صف واحد مع أحفاد الهنود الحمر!
إن الصويان في هذين الإصدارين المتميزين يقدم لمثقفينا بكل أريحية (القفل والمفتاح) لمعرفة الحقيقة وتجاوز العُقد، في سلوك حضاري يخالف السائد، ويسعى من خلاله إلى ترسيخ هويتنا الثقافية أمام مد العولمة الطاغي.
والحقيقة أن هذين الكتابين متلازمان لا يفضّل قراءة أحدهما دون قراءة الكتاب الآخر، جاء الكتاب الأول بعنوان (الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور: قراءة أنثروبولوجية) وعدد صفحاته 819 صفحة، حيث جاء بمقدمة ثم مدخل أدبي، ثم فصل بعنوان (البداوة والحضارة تضادية أم تكامل)، ثم فصل مثير جداً بعنوان (القبيلة بيولوجيا أم أيدولوجيا؟!)، ففصل بعنوان (التكيف مع معيشة الصحراء)، والصويان يحاول في هذا الكتاب ربط الحاضر مع الماضي عبر المصادر الشفهية والثقافة التقليدية، ويطمح أن يسهم عمله في تصحيح الصورة المشوهة التي تحملها النخب العربية في أذهانهم عن التنظيم القبلي، وطبيعة الحياة البدوية، وقيم الثقافة الصحراوية، وعن حقيقة العلاقة بين البدو والحضر في الجزيرة العربية، مبرراً ذلك بقوله: (لأننا غالباً ما نتبنى وجهة النظر الحضرية وتحيزاتها ضد القبيلة ونردد أنه حالما تضمحل سلطة الدولة فإن الفوضى تحل محلّها ويبدأ البدو بالسلب والنهب).
ورغم الجهد الذي بذله في هذا العمل العلمي الرصين إلا أنه يعترف بكل تواضع بأنه لم يتمكن من الوصول إلى ما يطمح إليه من إضاءة جوانب لا يزال يكتنفها الغموض والربط بين مسائل معلّقة، ويلمح إلى أن عمله مجرد اجتهادات مبدئية ووجهات نظر أولية قابلة للأخذ والرد على كل المستويات.
وإذا كان الشيخ الطنطاوي يرى أن كتاب الأعلام أحد الكتب العشرة التي يفاخر بها الأواخر الأوائل، فإن هناك من يرى أن كتاب الصحراء العربية هو من الكتب التي يفاخر بها العرب العجم، ويفاخر بها السعوديون غيرهم، ويجب أن يكون في كل مكتبة عربية، ومن المؤسف أن مثل هذا الكتاب لم يفز بأي جائزة للكتاب في المملكة العربية السعودية!
وأما الكتاب الثاني فهو (أيام العرب الأواخر: أساطير ومرويات شفهية في التاريخ والأدب، من شمال الجزيرة العربية مع شذرات مختارة من قبيلة آل مرة وسبيع)، وجاء في مجلد ضخم عدد صفحاته 1143 صفحة، وستتفاجأ في أسفل صفحة الغلاف الداخلي للكتاب بهذا التنبيه: (هذه سوالف وأساطير ومرويات شفهية وليست وثائق أو نصوصاً تاريخية محققة ومدققة)، فالصويان يتوقع ردود فعل لا تقدر قيمة عمله العلمي الرصين وهدفه النبيل، بل إنه يؤكد بكل أسف: (لو كنت في منطقة من مناطق العالم المتحضر التي تقدر البحث العلمي الموضوعي المحايد فقد لا أضطر إلى هذه الاعتذارية، ولكن هو واقعنا المؤسف الذي يفرض على الإنسان أن يعتذر لمجرد أنه يريد أن يؤدي مهمته العلمية على الوجه الصحيح وفق الأصول المهنية دون تحميل الحسابات السياسية والاجتماعية أكثر مما تحتمل). بل ويشير إلى أن بعض من يصنفون كعلماء ومثقفين ومفكرين قد يرون أن هذا العمل معول للهدم! لا لبنة للبناء ونافذة نطل منها على جوانب معتمة من تاريخنا وواقعنا تجاهلها هو الجهل بحد ذاته، وزيادة على ذلك فإن التعصب القبلي، وبخاصة في السنوات الأخيرة، لا يقبل إلا أن تكون قبيلته هي الأفضل بإطلاق؛ فيبدو أن الصويان يعرف هوية معارضيه جيداً، كما يعرف أن التنبيه الذي تترس به لن يفيد كثيراً بقدر ما يكون محفزاً لقراءة الكتاب.
هذه المرويات الشفهية ابتدأ الصويان تسجيلها منذ عام 1982م واستمر في التسجيل لعدة سنوات. هي سوالف وقصائد حاول تدوينها في أقرب صورة إلى الواقع لينقلنا إلى تلك البيئة والطريقة الفطرية التي كانت تروى بها السوالف التي اندثرت تماماً الآن؛ ولم يحاول الصويان أن يفرض على نفسه رقابة ذاتية في تدوينها حتى لا تفقد متعتها الفنية وقيمتها العلمية والأدبية واللغوية؛ ومن هنا يتكرر تنبيهه بأنه لا يمكن الاعتماد على النصوص الشفهية كوثائق تاريخية قاطعة للإثبات أو النفي بصفة عامة، أو للتفاخر، مؤكداً أنها مجرد أقوال عهدتها على رواتها، والمجتمعات الشفهية بصفة عامة لا تعرف الموضوعية والحياد لأنها رؤية شخصية نابعة من خلفية الراوي الثقافية والاجتماعية، وهذا سبب اختلاف الروايات للحادثة الواحدة.
والحقيقة أن الجهد المبذول في تفريغ أشرطة الكاسيت وتحويلها من مادة صوتية إلى مادة مكتوبة ضخمة وفق قواعد دقيقة ومحددة ومضبوطة بالشكل هو من الصعوبة بحيث إنه يحتاج إلى طاقات غير عادية كالدكتور الصويان، جهد يستحق التقدير الجليل في سبيل الاحتفاظ بهذا الموروث الشفاهي إلى الأبد من خلال تدوينه بين دفتي كتاب عظيم كهذا الكتاب. والحقيقة أنه من الأفضل أن تكون قراءة هذا الكتاب لاحقة لقراءة الكتاب الأول (الصحراء العربية) وليست سابقة له. من الجدير بالذكر أن كتاب (أيام العرب الأواخر) ترشح لجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها السادسة للعام 2011 / 2012م في فرع التنمية وبناء الدولة، وكان ضمن ثلاثة عناوين في القائمة القصيرة.
وقد توجت جهود الدكتور العلمية التخصصية بكتابه الضخم (ملحمة التطور البشري) الذي استغرق في تأليفه 30 عاماً تقريباً، وصدر في عام 2013م، والمهدى إلى (أجيال ستأتي لديها الجرأة على طرح الأسئلة ومواجهة الإجابات الصعبة)، وجاء في أكثر من 1100 صفحة، متضمناً صوراً ورسوماً وجداول وفهارس وقائمة مراجعه في أكثر من 50 صفحة، هذا الكتاب فاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع التنمية وبناء الدولة في دورتها الثامنة 2014م، وكان الدكتور هو أول خليجي يفوز بهذه الجائزة.
وما زال الدكتور يعمل ويبحث بلا كلل ولا ملل، فقد أشار قبل سنوات إلى عمله على مشروعين علميين كبيرين بالتوازي؛ أحدهما عنوانه: (من الأسطورة إلى التنزيل: تطور المفاهيم الدينية في الشرق الأدنى)، وهو عبارة عن تتبع لجذور الدين ابتداء من بلاد سومر ومصر القديمة، أما العمل الآخر فمعجم موسوعي ثقافي شامل لمفردات اللهجة العامية والشعر النبطي، وكل ما يتعلق بمعيشة القرية وحياة البادية وطبيعة الصحراء، بتضاريسها وأنوائها ونباتاتها وحيواناتها، كما أن لديه مشاريع أخرى في الفلسفة والفكر الاجتماعي. ندعو الله أن يطيل في عمره ويبارك في علمه وعمله لاستكمال هذه المشاريع التي ينتظرها الجميع وعسى أن يكون ذلك قريباً.
وأود أن أنوه هنا عن تجربة الدكتور سعد الصويان في الكتابة الصحفية المنتظمة التي بدأت في جريدة الاقتصادية خلال الفترة (2005 - 2011م)، وهي مقالات متنوعة في الشأن المحلي السعودي كان ينشرها بشكل أسبوعي ويكتبها بأسلوب خاص يجمع بين العمق والبساطة والجدية والسخرية، قدمها دون مواربة لتشخيص الوضع الداخلي وتركيبة المجتمع وطبيعة معطياته، وتناول فيها بعض القضايا الحساسة، وتحدث في المسكوت عنه بجرأته وصراحته التي اعتادها وحريته التي يتجاوز فيها خطوط الرقيب الذي لم يجد بداً من إيقاف هذه المقالات، وقد جمع هذه المقالات بقضها وقضيضها في كتاب عنوانه (فسح سهواً) صدر في عام 2012م، لتكون أمام القارئ ليحكم بنفسه إن كان فيها ما يستحق المنع.
وبعد هذا العرض لإنتاج الدكتور سعد الصويان العلمي والثقافي، فإني سألخص بعضاً من ميزاته التي أعرفها: فهو يتميز بسعة الاطلاع والثقافة الموسوعية والقراءات الشاملة وبأكثر من لغة، ويظهر ذلك جلياً في تنوع الفنون والمعارف التي برع في الكتابة فيها، ثم هو يخضع جميع أعماله لمنهج علمي صارم لا يتهاون فيه أبداً وهو ما أكسب أعماله موضوعية وموثوقية لدى الأوساط العلمية في مختلف دول العالم.
كما يتسم بالاستقلالية الفكرية وعدم التبعية، ومن سماته الصدق والصراحة، فهو لا يسكت عن الحق ولكنه لا يقول نصف الحقيقة بل يرمي بالحقيقة بين الأكتاف ولا يبالي، هذه الصراحة يحيلها إلى نشأته الفلاحية تارة، وإلى اكتسابه حرية التعبير دون حرج أثناء دراسته في الغرب تارة أخرى، ولعل هذه الصراحة أفقدته الكثير في مجتمع عربي درج على المجاملة والدبلوماسية في كل أحواله.
بقي نقطة مهمة تدل دلالة تامة على أن الصويان عالم حقيقي، ألا وهي التواضع مصداقاً لقول الشاعر:
ملأى السنابل تنحني بتواضع
والفارغات رؤوسهن شوامخ
فهو يتعاطى مع الجميع بأريحية عجيبة يدمجها بروح الفكاهة التي تذيب كل الحواجز بينه وبين أي طرف، كما أنه ظل يتعامل بكرم منقطع النظير مع الباحثين والمهتمين، وليس أدل على كرمه هذا من موقعه على الإنترنت الذي حوَّله إلى مكتبة حقيقية أتاح للجميع من خلالها عشرات وربما مئات المصادر القيّمة من المخطوط والمطبوع والتسجيلات الصوتية التي يمكن الإفادة منها بكل يسر وسهولة.
وأخيراً فإني أدعو الجهات المختصة في الدولة إلى تكريم هذه الشخصية تكريماً نوعياً يليق بعالم في قامة الصويان وحجمه، لأنه مثل رأس المال الذي يجب استثماره أو الاستثمار فيه، مثل إنشاء كرسي بحث باسم الصويان وتحت إشرافه في إحدى الجامعات السعودية، أو إنشاء مركز بحوث مستقل باسمه ودعمه بكافة الإمكانيات لتحقيق طموحاته وتنفيذ مشاريعه، فمثل هذا من أقل حقوق العالم على وطنه ودولته.