مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

أحمد فضل شبلول: فتاة (الكافتيريا) أخرجتني من عزلة الكتابة

حوار/ عِذاب الركابي: مصر


أحمد فضل شبلول هو الشاعر والروائي والناقد، كل ذلك في حضور هادئ في فضائنا الثقافي والإبداعي العربي، منطاد أسفاره جملة رشيقة في شعره ونثره معاً، ورهانه الدائم كتابة تبقى، ولا وجود إلا للكتابة.
الشعر بتفاصيله الجميلة لديه هو البوابة التي تمر من خلالها كل الآداب والفنون، بل كتابة من دون شعر لا يعول عليها. وهو من الشعر سفره الشائق -وهما في رهان أزلي على الصحبة الدائمة- إلى الرواية، سؤال العالم بكل تفاصيله ومفارقاته، النثر الخرافي البارع في احتواء كل الفنون وكل ركن مهمش في الحياة، هي ترمومتر العلاقات الإنسانية جميعها. والرواية كتابة في الحلم. والمبدع حالم حتى انتهاء الزمان.
وإذا كان الشعر استنطاق الوجود، فالرواية لديه استنطاق الحياة.

الكتابة تبقى.. وتتعدد فنون الكتابة لديك: شعر، نقد، رواية، أدب الطفل، كل ذلك في حضور وتميز.. هل الشعر هو البوابة المضيئة إلى هذه الفنون؟ وقد بدأت شاعراً ولا زلت لم تغادر وادي عبقر.. قل لي: لماذا الشعر، وما الجدوى في واقع نعيشه ليس شعرياً؟
- نعم الشعر هو البوابة المضيئة لكل هذه الآداب والفنون، وهو يظل الأرقى وسط هذه الكتابات المختلفة، وعلى الرغم من أن واقعنا ليس شعريا، فإنه ينبغي لنا أن نعلو على هذا الواقع المتغير دائما، لنبحث عن الجوهر الدائم لدى الإنسان، نبحث عن الجميل في ذاته، نبحث عن الذات الشاعرة التي تتغنى بالإنسان في أرقى حالات إنسانيته، ونترك التفاصيل اليومية والمعارك الإنسانية للنصوص السردية، ونقبض على جوهر الشعر وجوهر الحب وجوهر الحياة في النصوص الشعرية.
وقد هاجرت في ليل الكتابة الطويل علناً، ومن دون مقدمات إلى الرواية، لماذا؟ أعجز الشعر عن الإجابة عن أسئلتك الإبداعية - الإنسانية؟ أم أن (الرواية) ولقب (الروائي) الأكثر حضوراً في واقعنا الثقافي.. والشعر يقاسي البرد والصقيع على أبواب الناشرين.. أم ماذا؟
- ليس لهذا بدأت أكتب الرواية، وإنما لأسباب كثيرة منها الفضفضة السردية، ورصد الواقع اليومي في كل تجلياته، وعلاقة الإنسان بهذا الواقع ومن هم بداخله بكل عيوبهم ومزاياهم وشرورهم وحسناتهم، وأعتقد أن الرواية هي القالب الأدبي الذي يستطيع أن يحمل كل هذه الفضفضة والاسترجاع والحوار والتأمل والسرد والوصف والشك واليقين والكفر والإيمان والليل والنهار، والأسود والأبيض، وجميع هذه التناقضات التي نعيشها، مع استضافة أنواع أدبية أخرى بما فيها الشعر، وفي جميع الأحوال أنا لم أتخل عن الشعر ولم يتخل عني الشعر، فما زلت أكتبه، وأحياناً استثمره في أعمالي الروائية، فالرواية لها القدرة على استضافة الشعر، كما أن الشعر يستطيع أن يتوسل بالسرد في بنائه وعالمه.
ما رأيك بهذه (الهجرة الشرعية) إلى الرواية؟ شعراء، وصحفيون، ونقاد، وفنانون في لهاث مضن نحو قارة الرواية، وكنت أحد المهاجرين من دون أن ترمي بجواز سفر الشعر، وقد فعلها كثيرون.. أهي الجوائز العربية المتعددة أم لأن الناشرين هم الممول، والبحر خطير وبعيد، أم ماذا برأيك؟
- الرواية الحقيقية لا تكتب من أجل الجوائز والشهرة، أو طلبات الناشرين ومواصفاتهم، ولكنها تكتب من أجل حاجة بالنفس، حاجة ملحة تدعوني للكتابة في هذا الشكل الأدبي الثري، وفي الوقت نفسه لا تستطيع الأشكال الأدبية الأخرى الاستجابة له. وأرى أن الرواية هي الأكثر استجابة لمتطلبات الأدب ومتطلبات الإنسان في الوقت الحالي.
يقول (باولوكويلهو) في رائعته (الظاهر): (لا يمكن للكاتب إلا أن يكتب عن حياته الخاصة) وقد كانت خطوات ذاتك صاخبة، مموسقة بهمك الحياتي في روايتين قرأتهما: (رئيس التحرير) و(الماء العاشق) كتبت ذاتك، أو انكتبت سيان، وقد صعب عليك التخفي وراء الكلمات والمتخيل.. ماذا تقول؟
- أرى أن كل عمل أدبي فيه من ذات الكاتب، فلا بد لكل كلمة وكل مشهد أن يمرا من تلك الذات التي تطبع جيناتها وأسلوبها وتتزيا بزيها، ولا انفصام بين ذات الكاتب وما يكتبه، ومهما حاول التخفي والتستر وراء الكلمات، فسوف يفضحه أسلوبه. ومهما حاول التوسل بالرمز والقناع والمعادل الموضوعي وغيرها من تقنيات ووسائل، فذاته هناك في قلب العمل، وفي قلب التعبير، وفي قلب المشهد، وليس معنى ذلك أن ما يكتبه الأديب هو سيرته الذاتية، ما لم ينص على ذلك، ولكن أستطيع أن أقول إن هناك شذرات من تلك السيرة تتخلل العمل، مهما حاول الكاتب أن يكون عمله محايداً تماماً، وبعيداً عن تمظهرات تلك الذات.
يرى الكاتب الأمريكي المتمرد هنري ميللر في (مذكرات الثمانين) أن المستقبل للرواية السيرة الذاتية- الأوتوبوغرافية، هل كان هذا القول الحافز الأهم لسردك السيري؟ وقد تعدد من (السيرة الذاتية) إلى (السيرة الغيرية)، وروايتاك عن حياة الفنان محمود سعيد وعبقري الرواية نجيب محفوظ خير مثال؟ حدثني..
- نعم.. أوافق على مقولة هنري ميللر، فالقارئ يحب أن يقرأ عن الآخرين في سرد متماسك، ويعيش حيوات أخرى سواء حياة الكاتب الذي يقرأ له، أو حيوات وسير آخرين سواء كانوا مشهورين أو غير مشهورين، وقد لمست ذلك بنفسي عندما كتبت (الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد) ثم (الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ)، وكلتاهما تجمع بين السيرة الذاتية والسيرة الغيرية بنسب متفاوتة، بالإضافة إلى (رئيس التحرير.. أهواء السيرة الذاتية) التي بها قسط وافر من سيرتي الصحفية.
قل لي: لماذا محمود سعيد؟ ولماذا نجيب محفوظ؟ ما الرابط الأهم بينهما وبين الشاعر - السارد أحمد فضل شبلول؟ أهي جينات القلق الواحدة، والهموم، والأحلام، والرؤى أم ماذا؟
- الحب والإعجاب والتقدير هو الذي جمع بيني وبين هذين العلمين الكبيرين، لدرجة أنني عقدت صداقة متخيلة (ولكنها في الوقت نفسه منطقية) بينهما، لم ألتق (محمود سعيد) في حياته فقد رحل عام 1964 وكان عمري 11 سنة وقتها، أما (نجيب محفوظ) فقد التقيته أكثر من مرة في الإسكندرية، لذا يأتي تكنيك كل رواية من الروايتين مختلفاً عن الآخر، نجيب محفوظ استدعاني ليملي علي روايته الجديدة أثناء احتضاره في مستشفى الشرطة التي مات فيها، أما محمود سعيد فهو الذي يروي بنفسه أثناء لحظات احتضاره بعد أن خرج من حجرته وسار من الشاطبي وحتى الأنفوشي مسترجعاً أجزاء وشذرات مهمة في حياته، ومن هنا فقد بدأت الرواية من الرقم 16 نزولا للرقم 1 حيث يسلم نفسه لملك الموت الذي أسميته (مبهج) والذي صحب الفنان منذ خروجه من حجرته إلى لحظة مماته المحتومة.
لكل كاتب طقوس في الكتابة.. (همنغواي) كان يفضل الكتابة بالقلم الرصاص، (كلاريس ليسبكتور) لا تكتب إلا على أنغام الموسيقى، لدرجة أنها تقول، كأنني أكتب بأذني.. وغيرهما يفضل الكتابة في مقهى أو في فندق، أو قطار أثناء رحلاته.. هل لديك طقوس في الكتابة؟ أم أن الإبداع لا زمني فعلاً ولا طقسي؟
- تختلف طقوس الكتابة من مرحلة إلى أخرى، ومن فترة زمنية إلى أخرى، فعندما كنت أعمل موظفاً كانت مواعيد الكتابة تختلف عنها عندما خرجت إلى المعاش، على سبيل المثال، ولكن بعامة لا أعرف الطريق إلى الكتابة إلا في الهدوء في المكان الذي أكتب فيه وليس شرطاً أن يكون مكتبي بالمنزل، أو أحد الفنادق أو النوادي مثلاً، المهم ألا يكون به ضجيج كثير، وأذكر أنني كنت ذات مرة على سفر إلى أبوظبي، وكنت أكتب وقتها رواية (الحجر العاشق) وكانت أحداثها وشخصياتها مسيطرة علي، فانتهزت فرصة وجودي بأحد (كافتيريات) المطار وكانت شبه خالية من الناس، فأخرجت جهاز الكمبيوتر المحمول، وأخذت أكتب دون وعي مني وأتممت فصلاً من فصولها، وإذ بفتاة (الكافتيريا) تسألني عن وجهة رحلتي، فقلت لها: أبوظبي، فأبلغتني أنهم ينادون على ركاب الطائرة المتجهة إلى أبوظبي، فهرعت إلى بوابة الخروج. ولولا سؤال فتاة (الكافتيريا) لما انتبهت.
كناقد أنجزت تسعة عشر كتاباً في النقد، كيف تقيم ما يكتب من نقد الآن؟ أهو مواكب لهذا التفجر الإبداعي؟ هو المتهم - البريء دائماً، مجاملات، ومصالح، وتبادل منافع.. ماذا تقول؟ هل لدينا حركة نقدية جادة فاعلة؟ من ناقدك الأمثل مصرياً وعربيا؟
- النقد الآن لا يستطيع مواكبة السيل المنهمر من المؤلفات والإصدارات الجديدة في كل المجالات، وبخاصة الإصدارات الشبابية وكتابات المرأة. وهناك بعض دور النشر التي تعقد اتفافية مع بعض النقاد، فيكتبون عن إصدارات تلك الدار، ولا يكتبون عن غيرها من إصدارات، وفي هذه ظلم للإصدارات الجديدة الجيدة التي قد تصدرها دور النشر الأخرى، وهنا بالفعل تدخل المجاملات والمصالح وتبادل المنافع، فبالتأكيد الناقد الذي تتفق معه دار النشر - وبالتأكيد تدفع له - لن يتناول الجوانب السلبية في العمل، بل من الممكن أن يصعد به إلى السماء، دون أن يقرأ أعمالاً أخرى، ويكتفي بتلك الأعمال التي ترسل له من دور النشر التي يكتب لها، وفي هذه الحالة فهو ناقد مستأجر. زمان كنا نسمع عن (الناقد الشنطة)، أي الناقد الذي يحمل في حقيبته مقالات جاهزة ومقولات معلبة عن أي عمل، والآن نقول إن هناك ظاهرة الناقد المؤجر، وعليه لا أستطيع أن أقول إننا إزاء حركة نقدية جادة وفاعلة. وليس من شك أن هناك نقاداً محترمين ومحايدين، ولكنهم قلة ولا يستطيعون متابعة كل ما يصدر بطبيعة الحال.
ترجمت أشعارك ومقالاتك إلى عدة لغات عالمية، والبعض يرى أن الترجمة خيانة للأصل، وهي -برأيي- فعل حضاري وإضافة مهمة للتراث الإنساني ككل، كيف رأيت ترجمة إبداعك؟ ولماذا المترجمون الموثوق بهم بعدد أصابع الكف الواحدة؟
- الترجمة ضرورية في حياتنا عموماً، فإذا كنا نجيد لغة أو لغتين، فهناك إبداعات وأعمال كثيرة تصدر بلغات أخرى غير التي نجيدها، حتى التي نجيدها من الصعب قراءة كل الإصدارات التي تصدر بها، فالكاتب الأصلي في لغته إذا قرأته بها قد تستغرق وقتاً طويلاً، في حين أن قراءة ترجمته بلغتي الأصلية لن تأخذ مثل هذا الوقت، ومع ذلك هناك أعمال لا بد أن تقرأ في لغتها وبخاصة الأعمال الشعرية، لأن ترجمة الشعر مهما كانت جيدة، فإن هناك عناصر سيتم فقدها أثناء الترجمة، ومن أهمها الموسيقى والمعاني المجازية والأخيلة. وقد سعدت بترجمة بعض أعمالي ومقالاتي إلى لغات أخرى، من أهمها الفرنسية التي لا أجيدها، ولكن قرأت أعمال عدد من كتابها مترجمة إلى العربية. وكما نقول بندرة النقاد الموثوق بهم، نقول أيضاً بندرة المترجمين الموثوق بهم، رغم أن الآلاف يتخرجون في كليات الألسن وأقسام كليات الآداب والترجمة، ومعاهد الترجمة، ولكن قلة من هم يترجمون الأعمال الإبداعية بإجادة، ولعل سبباً من أسباب عدم تذوقي الجيد لرواية (مئة عام من العزلة) هو سوء الترجمة التي قرأتها لهذه الرواية، فأبعدتني عن قراءة ترجمات أخرى للرواية نفسها.
أصدرت ثلاثة عشر ديواناً.. ما القادم شعراً؟ وست روايات نالت اهتمام الصحافة الثقافية المصرية والعربية ابتداءً من (رئيس التحرير2017) ومروراً بـ(الحجر العاشق 2018) وليس انتهاءً بـ(الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ2021).. ما القادم سرداً؟
- القادم سرداً رواية عن (الثعالب) ولا أريد أن أحرقها بذكر تفاصيلها الآن، أما عن القادم شعراً فديوان يحمل عنوان (الخروج إلى البحر) يحتوي على 200 مقطوعة شعرية قصيرة وصفتها بـ(السايكو السكندري) على وزن (الهايكو) الياباني، ولكن بمواصفات شعرية مغايرة.

ذو صلة