اللغوي الهندي عبدالغفور كوناتودي: العربية أصل جميع اللغات
حوار/ عبدالرحمن مظهر الهلوش:سوريا
ضيف هذا الحوار البروفيسور الهندي عبدالغفور الهدوي كوناتودي، وُلِدَ الهدوي عام (1989م)، في بونمالا، مقاطعة مالابورم، ولاية كيرالا، الهند. وهو أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية بكلية الجامعة الحكومية التابعة لجامعة كيرالا، والأستاذ السابق في قسم اللغة العربية بكليّة الحاج أحمد للبنات في كيرالا، والمحاضر بجامعة دار الهدى الإسلامية في كيرالا (2010-2013). يعمل حاليّاً أستاذاً مساعداً في قسم اللغة العربية، كلّية الجامعة الحكومية، ترفاندرم، كيرالا (من 2019).
صدر له باللغة العربية، كتاب (التعريب والتوليد في المفردات العربية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2021م)، و(علم العروض العربي قديماً وحديثاً، القاهرة، الأكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي، 2021م)، كما يعمل البروفيسور عبدالغفور الهدوي مترجماً مهنياً للغة العربية والإنجليزية والمالايالامي. له عدد من المقالات البحثية المنشورة في الصحافة العربية والهندية. وفي هذا الحوار الخاص بـ(المجلة العربية)، يتحدث البروفيسور الهدوي عن سبب اختياره للغة العربية، وعن تاريخ اللغة العربية وموقعها بين اللغات العالمية، وعن حضور العربية في شبه القارة الهندية. فإلى الحوار:
لماذا اتجه البروفيسور عبدالغفور الهدوي إلى اللغة العربية من بين اللغات العالمية؟
- بدأت تعلّم اللغة العربية منذ سنّي المبكرة كعادة أطفال المسلمين بولايتي، كيرالا. فاللغة العربية هي مادّة دراسية في المدارس الدينية، وكذا في المدارس العامّة في كثير من مناطق الهند. فمنذ طفولتي كان قلبي ميّالاً إلى هذه اللغة لجمالها وسهولة تعلّمها، فكنت أحفظ ما استطعت من الآيات القرآنية والأشعار العربية. ولمّا كبرت اتّجهت أكثر إلى اللغة العربية وآدابها وجعلتها جزءاً لا يتجزّأ من مسيرة حياتي، وذلك اعترافاً بأهميتها وبتراثها الأدبي الزاخر. وقد مهّد لي التحاقي بجامعة دار الهدى الإسلامية في ولاية كيرالا الطريق في التعمّق إلى كنوز هذه اللغة المباركة.
تقول: إذا تتبّعنا تاريخ اللغة العربية منذ عصرها المعهود، تحققنا أنّ هذه اللغة لم تزل ولاتزال كائناً حيّاً، تنمو وتتجدّد حسب متطلبات العصور؛ متى تحوّل الكلام باللغة العربية إلى كتابة؟ بمعنى ما هي بدايات الحرف العربي؟
- كما أن العلماء والمؤرخين مختلفون في تحديد أصل اللغة العربية، اختلفوا في نشأة الكتابة العربية أيضاً. فمنهم من يقول بأن الخطّ العربي توقيف من الله، ومنهم من يرى بأنّه مشتق من الخط الحميري لأهل اليمن، ومنهم من يدّعي أنّه مشتقّ من الخطّ النبطي. على أيّ حال، إن أقدم كتابة عربية عثر عليها إلى الآن هي بعض النقوش الحجرية التي ترجع إلى القرن الثالث الميلادي. والملحوظ أن الشكل الأوّل للخطّ العربي لم يكن كخطّنا الحالي، فكان القدماء يكتبون الحروف بلا إعجام فيميّزونها عن بعضها بالسليقة وحسب السياق، ثم وضع أبو الأسود الدؤلي علامات النقاط للتمييز بين الفتحة والكسرة والضمة، وبعده قام نصر بن عاصم الليثي بوضع النقط للأحرف المتشابهة، ثم قام الخليل بن أحمد الفراهيدي بإبدال النقاط التي وضعها أبو الأسود الدؤلي للحركات، حتّى تطوّر الخطّ العربي تدريجياً إلى شكله الذي نتداوله في هذه الأيّام. كما أن الأبجدية العربية، فيما أظنّ، تعود إلى الآرامية عن طريق الأبجدية النبطية، يعني أنها انبثقت من الأبجدية النبطية المتفرّعة من الآرامية.
هل من خصائص بنيوية وصوتية للمفردات العربية تميّزها عن اللغات الأخرى؟
- نعم، إنّ اللغة العربية هي لغة تتمتع بتقانة فريدة في أساليبها وقواعدها ومفرداتها في القديم والحديث. أمّا اللغات الأخرى، الإنجليزيّة مثلاً، فلا يكاد من يعرف صورتها الحالية يفهم ما كتب في اللغة نفسها قبل قرن أو قرنين لفرط ما وقع في قواعدها النحوية والصرفية من التغيّرات. فهذه التقانة التي تمتاز بها اللغة العربية إنّما يرجع سرّها إلى ما تمتلكه مفرداتها من خصائص بنيوية وصوتية أتقنها أبناؤها ودوّنوها قبل قرون. فمن حيث البنية: للكلمات العربية أبنية خاصّة لا تخرج عنها، فلها عدد معيّن من الأحرف، فما يقلّ عن ذاك العدد لا بدّ أن يكون له سبب واضح حسب القواعد الصرفية. ومن حيث الخصائص الصوتية: تحافظ الكلمات العربية على ائتلاف وانسجام تامّ بين الأحرف التي تتكوّن منها، فمثلاً نجد فيها قواعد مفصّلة حول الأحرف التي يمتنع اجتماعها مطلقاً في الكلمات مثل (ف - ب) و(س - ص)، وكذا حول الحروف التي يمتنع ورودها مع الآخر متقدماً لا متأخراً مثل (ش) بعد (ل) و(ت) بعد (د) دون العكس.
تقول إنَّ عناصر اللغة كلّها تتعرّض للنموّ والتطوّر، ماذا عن التطورات الواقعة في اللغات من حيث مفرداتها؟
- المفردات اللغوية عرضة لتطوّر مستمرّ، فهي أكثر عناصر اللغة نموّاً وتطوّراً. فحينما يبقى النظام الصوتي والنظام التركيبي للغة معيّنة ثابتين لفترة طويلة بدون تغيّر يذكر، تتعرّض مفرداتها لتطوّر متتابع، فينقرض بعض من كلماتها وتحلّ مكانه كلمات جديدة، أو تتطوّر معاني كتلة أخرى من الكلمات، أو تقترض اللغة كلمات من لغات أخرى، كلّ ذلك حسب ما يحتاجه أهلها في التعبير عن أشياء جديدة. فالمفردات هي التي تجعل اللغة قادرة على التعبير عن المعاني والمفاهيم التي تستجدّ في المجتمع. فحسب التغيرات الواقعة في البيئة التي يعيش فيها المجتمع، وحسب المعاني التي تتولّد في حياة أفراده؛ لا بدّ أن تكون لغته أيضاً متزامنة مع تلك التغيرات والمعاني المستجدّة بوضع ألفاظ تدلّ عليها. فهذه العملية أمر مستمر في جميع اللغات الحيّة منذ أول نشأتها، إذ تضمحلّ اللغة شيئاً فشيئاً عندما تعجز عن أداء هذه المهمّة.
لكلّ لغة من اللغات طرق توافق خصائصها ومزاياها من أجل توسعة خزانة ألفاظها حسبما تتطلبه الأوضاع المتغيّرة؛ ماذا عن اللغة العربية؟
- اللغات هي وسائل التواصل والتفاهم بين أفراد المجتمع، لذا، فلا بدّ أن تكون اللغات قادرة على التعبير عن كل ما يخطر ببال مستخدميها. فلدى كلّ لغة طرق مختلفة تناسب خصائصها التشكيلية لإيجاد الكلمات الجديدة، مثل النحت، الاشتقاق، الإلحاق، التركيب، الاقتراض.. وغيرها. ولدى اللغة العربية أيضاً طرقها الخاصّة لإيجاد مفردات جديدة تتسم بخصائصها البنيوية والصوتية. فالعربية، كما نعرف، هي من اللغات المتصرّفة والاشتقاقية، فالاشتقاق هو الطريق الأهمّ لإيجاد الألفاظ الجديدة فيها. وتستخدم أيضاً لهذا الغرض طرق النحت والتركيب والتوليد الدلالي. وفي بعض الأحيان، تقترض العربية بعض الكلمات من اللغات الأخرى كي تدلّ على المعاني أو الأشياء الجديدة.
في العصر الحديث، حينما دخل العالم إلى طور الإبداع والابتكار في سائر المجالات، تطوّرت اللغة العربية أيضاً، فقد كان الانفتاح بين العرب والغرب إثر احتلال نابليون لمصر نقطة بداية تاريخ جديد للعرب ولغتهم، فكان من أهمّ التحدّيات التي واجهتها اللغة العربية في العصر الحديث تحديث مفرداتها حسب متطلّبات الأوضاع الجديدة.
- نعم، تحديث المفردات اللغوية حسب المفاهيم الجديدة هو التحدّي الكبير الذي تواجهه اللغة العربية في العصر الحديث. نعرف أن العلم الحديث لا يزال ينمو يوماً بعد يوم، وتدخل إلى حياتنا اليومية تكنولوجيات جديدة ومفاهيم مستجدّة، الأمر الذي يتطلب إيجاد مقابلات لغوية للإشارة إلى تلك الأشياء الجديدة. فربّما تقترض العربية كلمات أجنبية، وكثيراً ما تطوّر معاني الكلمات القديمة أو تضع مفردات جديدة عن الطرق المسموحة. وتؤدّي المجامع اللغوية في البلاد العربية دوراً محورياً في مواجهة هذا التحدّي في سبيل الحفاظ على صفاء اللغة العربية وخصائصها.
تقول كان لا بدّ للغة العربية من إيجاد مصطلحات تقابل المفاهيم والمعاني الجديدة، في القرن 21م؛ هل من توضيح لمصطلحي التعريب والتوليد؟
- يمكننا تقسيم الطرق التي يتمّ من خلالها إيجاد الكلمات والمصطلحات الجديدة في اللغة العربية إلى نوعين: التعريب والتوليد. أمّا التعريب فهو عبارة عن اقتراض لفظ أجنبي لاستخدامه في اللغة العربية، وذلك إمّا مع تخضيعه للأوزان العربية أو مع إبقائه في صورته الأجنبية. ويراد بالتوليد استحداث كلمات جديدة أو معانٍ جديدة من أصول لغويّة موجودة في اللغة، فتأتي تحته الطرق المختلفة التي تستخدم لإيجاد المصطلحات الجديدة من الأصول العربية الموجودة، مثل: الاشتقاق والنحت والتركيب المزجي والتركيب الإضافي والتركيب الوصفي والتوليد الدلالي.. ونحوها.
تقول: إنَّ العربية هي أصل جميع اللغات، حيث انبثقت منها غيرها من اللغات في صور لهجات تحوّلت فيما بعد إلى لغات مستقلة؛ هل توضح لنا ذلك؟
- هذا الذي قلته هو أحد الآراء عن أصل اللغة العربية، فهذا الرأي هو ما لاقى قبولاً واسعاً بين الأوساط المتديّنة؛ لأنّ بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة تشير إلى صحّتها، وإن أَوَّلَها معارضو هذا الرأي عن معانيها الظاهرة. فمثلاً في تفسير قوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (البقرة: 31)، يقول القرطبي: (واختلف في أول من تكلم باللسان العربي، فروي عن كعب الأحبار: أن أول من وضع الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها وتكلم بالألسنة كلها آدم عليه السلام). ومن الأحاديث النبوية التي يتمسّك بها مؤيّدو هذا الرأي قوله صلى الله عليه وسلم: (أَحبّوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي) (رواه الحاكم في المستدرك)، فيدّعون أنّه حيث كان آدم يسكن الجنّة قبل هبوطه إلى الأرض لا بدّ أنه كان ينطق العربية في الجنّة لكونها لغتها وفقاً لهذا الحديث النبويّ.
هل برأيكم، بصمة اللغة العربية ملموسة أكثر في اللغة الهندية؟
- يمتدّ تاريخ علاقة العرب مع الهند إلى قرون عدّة قبل الإسلام، فكان التجّار العرب يزورون السواحل الهندية فيأتون بالمنتجات العربية كالتمور والعطور إلى الهند، ويحملون من هنا منتجات زراعية من التوابل وغيرها. ويُعتقد أن الإسلام وصل إلى الهند في حياة النبي نفسه عليه السلام، حيث يظنّ أن ملكاً هندياً سافر إلى الجزيرة العربية مع التجار العرب للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم على يديه. فهذه العلاقة التجارية والثقافية قد ألقت بصمات عربية ظاهرة في معظم اللغات بالهند، لا سيّما اللغة الهندية، حيث توجد فيها مئات من الكلمات العربية، مثل (كتاب)، (قلم)، (قدرة)، (نصيب)، (عجيب)، (قانون)، (تقريباً)، (في الحال)، (شربة)، (كرسي)، (قلعة)، (ضروري)، (وكيل)، (شهيد)، (سلام).. وغيرها. ويجدر بالذكر أن من الكلمات العربية المستعلمة في اللغات الهندية ما وصلت إليها مباشرة من العربية، وفيها أيضاً كلمات وصلت عن طريق بعض اللغات الأجنبية مثل الفارسية.
هل هناك صراع لغوي -إذا جازت تسميته كذلك- بين اللغة الهندية واللغة العربية؟
- الهند هي مهد ثقافات ولغات متنوّعة، ففي الهند 22 لغة رسمية أقرّ بها الدستور الهندي، ولكنّ اللغة العربية ليست ضمن تلك اللغات الرسمية. ومع ذلك، حسب بعض الإحصاءات الرسمية، هناك خمسون ألف شخص تقريباً من مواطني الهند يستخدمون اللغة العربية لغتهم الأمّ. وهذا العدد يشكل 0.003 % فقط من مجموع سكان الهند الذي يبلغ 1.4 بليون. وعلى الرغم من أن اللغة العربية تدرس في المدارس والكليات الهندية بوصفها لغة عالمية مهمّة، لا توجد بالهند خلفية تؤدّي إلى صراع لغوي بين اللغة العربية واللغات الهندية.
ماذا عن حضور اللغة العربية في الأوساط الأكاديمية الهندية؟ وهل تدعم الحكومة الهندية التوجه إلى اللغة العربية؟
- هناك اعتقاد شائع بأنَّ تعليم اللغة العربية في الهند حكر على المدارس الدينية، ولكنّه غير صحيح. فكما أن اللغة العربية تدرس في المعاهد الدينية في القطاع الأهلي، فإنّها تدرس أيضاً في المدارس والكلّيات والجامعات في القطاع العام أيضاً. حيث توجد أقسام للغة العربية وآدابها في أكثر من 40 جامعة حكومية بالهند، وكذا في مئات من الكليات العامّة، بما فيها أقسام اللغة العربية في أعرق الجامعات مثل جامعة جواهر لال نهرو، جامعة عليكره، جامعة مدراس.. وغيرها. فهذه الجامعات والكليات توفّر الدرجات الأكاديمية العليا مثل الماجستير والدكتوراه في اللغة العربية ودراساتها. أما في القطاع الخاصّ، فيوجد بطول الهند وعرضها عدد من الجامعات الإسلامية ومئات من الكليات الدينية التي تعلّم اللغة العربية، ومن أهمّها جامعة دار الهدى الإسلامية التي تخرّجت فيها، ودار العلوم ديوبند، ودار العلوم ندوة العلماء.. وغيرها. ويجدر بالذكر في هذا الصدد أنّه تنشر من بعض الأقسام العربية بالجامعات والكليات الهندية عشرات من المجلاّت الأكاديمية المحكّمة باللغة العربية والتي تجمع بين دفّتيها بحوث الأكاديميين ودراساتهم من داخل الهند وخارجها.
أمّا حكومة الهند فهي تعتبر اللغة العربية ودراساتها كأي تخصّص آخر بالجامعات، فتوفّر منحاً دراسية كثيرة للباحثين في اللغة العربية، كما في التخصصات الأخرى. وكنت قد أتممت الدكتوراه في اللغة العربية بدعم المنحة الدراسية للباحثين من قبل الحكومة الهندية.
ما هو تقييمكم لمستقبل اللغة العربية في عموم شبه القارة الهندية؟
- تدرس اللغة العربية في هذه الأيّام بالجامعات والكليات في الهند بوصفها لغة عالمية ذات أهمية كبيرة على المستوى الدولي، فيدرسها ويبحث فيها عدد كبير من الطلاب والباحثين حتى ممن ينتمون إلى ديانات أخرى. وبالإضافة إلى فرص الوظائف في المدارس والجامعات؛ توجد في الهند فرص جديدة لمن يعرف اللغة العربية، وذلك في مجالات السياحة والصحافة والترجمة. فالشركات العملاقة مثل جوجل وأمازون وفيسبوك وغيرها توظّف خرّيجي اللغة العربية في مكاتبها بالهند لوظائف لغوية مختلفة. أنا لا أنكر أنّ هناك محاولات من بعض المسؤولين لدى الحكومة الحالية للتقليص من أهمية اللغة العربية في الوطن وإزالتها عن المناهج الدراسية، ولكن تلك المحاولات لا تكلّل بالنجاح، لأن علاقة هذه الدولة مع اللغة العربية وأهلها هي قديمة قدم التاريخ، فلا أشكّ أن للغة العربية مستقبلاً زاهراً وآمناً في شبه القارة الهندية.