بشرى البستاني: سر (أندلسيات جروح العراق)
حوار/ هشام أزكيض: المغرب
تشغل الشاعرة البروفسورة العراقية (بشرى البستاني)، كرسي الأستاذية في الأدب، والنقد العربي في كلية الآداب، جامعة الموصل العراقية، وهي أول سيدة تنال هذه الدرجة في العلوم الإنسانية بهذه الجامعة. وفي هذا الحوار تطل الشاعرة الناقدة لتروي ملامح من سيرتها وعوالم أدبها ورؤيتها النقدية.. فإلى تفاصيل الحوار:
أنت من مواليد الموصل/ نينوى، عاصمة الآشوريين الذين اخترعوا حروف الكتابة والعجلات والزراعة، وثاني أكبر مدن العراق بعد بغداد. حدثينا بإيجاز عن واقع مسيرتك في هذه المرحلة.
- ولدت في أسرة محبة للعلم والمعارف، ونلت اهتماماً كبيراً من والديّ منذ صغري، ومن المدارس والجامعات التي تعلمت فيها فضلاً عن الجو الديني والعلمي، الذي كان يسود بيوت أهلي، وما زلت أتذكر أني كنت خائفة وأنا أبصر اسمي وقصيدتي على واجهة صفحة (فتى العراق) المهمة، لكن فرح أسرتي وأولاد أعمامي، أحال المناسبة لاحتفال حقيقي. لقد كنت عازمة على مواصلة الطريق الصعب بالاشتغال على بناء ذاتي، علمياً ومعرفياً، قبل الاهتمام برأي الآخرين، ماعدا أفراد أسرتي ومدرساتي، اللواتي كنّ مصدر تشجيع لا أنساه، وهكذا واصلت الطريق بكل ما فيه من صعوبة.
لقي ديواني الأول ترحيباً من قبل شعراء ومبدعي مدينتي، منهم الشعراء الكبار: معد الجبوري، عبدالوهاب إسماعيل، وعبدالحليم اللاوند -رحم الله الراحلين- وكتبوا عنه، ورسمه الفنان المبدع راكان دبدوب. ونال ديوان (الأغنية والسكين)، الذي صدر عن وزارة الثقافة في بغداد، حظاً أوفر، إذ كتب عنه الناقد العراقي المهم طراد الكبيسي، متفائلاً ببزوغ شعر عراقي شاب يتوهج بالأمل لفتاة عراقية تقول:
سعفُ بغداد يظلُّ الفلواتْ
وجه بغداد وحيداً - يذرعُ الدربَ- وحيداً يُشرعُ الحزنَ
وبغدادُ على الشط تصيرُ اثنين، بغداد منارةْ
وأنا أصحبُ بغدادَ على جنح بشارة
وأنا أزرع في شرفة قلبي/ وجهكَ الغائمَ أرويه بحبي
آهِ من يرحم من عينيكَ قلبي
آهِ من يرحمُ قلبي
بالنسبة لشعرك، الملاحظ أن حضور الحقل الدلالي المتعلق بالبيئة في ثناياه قوي بشكل مثير، وقد اكتشفت هذه الحقيقة الناقدة العراقية وفاء زين العابدين، فما مبررات حضور هذا الحقل الدلالي في قصائدك الشعرية؟
- نعم، كانت الأستاذة الدكتورة وفاء زين العابدين، لفت نظرها في شعري حضور مفردات البيئة العراقية، واشتباك الطبيعة بالقضايا الإنسانية، وإشراك البيئة العراقية والعربية بكل العذابات، التي جرتها الحروب على الإنسان العراقي والعربي، كانت هذه العذابات واضحة في قصيدتي، إذ تمتزج في هذا الشعر جراحات الإنسان بالأمكنة والأزمنة، للتشكل من جديد، تقول قصيدة (المدائن) مازجة خضرة النبات بالأرض بالزمان والمكان، بالحب والشوق والمواعيد، مزجاً صوفياً يرفض الانفصال:
إنني أضحك أبكي
حينما تكبر عيناكَ تصيران غيوماً وشجرْ
وتُظلان المدينة. إنني أرقص في الغاباتِ
أغتالُ خلايايَ وأجتثّ عروقي
إنني أصرعُ بالوجد جذورَ الأرضِ من يطفئ
نيران حريقي.. إنني أنسفح الليلةَ في قلبكَ ناراً
وينابيعَ وظلا، وأنا أفتح عصراً خلف قضبانكِ
يا أسوارَ حبي، هاكِ قلبي..
إن الشعرية المقتدرة، هي التي تتمكن من مزج المشاعر والأحاسيس والأزمنة والأمكنة بالشجر، بالضحك والبكاء ونيران الحرائق، بدم الضحايا، لتحوّل مديات الرؤية/ العيون إلى غيوم وشجر يظلل مدينة الحب، وتتحول حمى الوجد لغمام وظلال، تحمي مدينة المحبة من شرارة الخطر، وفي حمى الوجد تنهض اللحظة الصوفية من مكامنها، لتبدأ الشاعرة بمقام اجتثاث العروق القديمة، كي ينهض عصر جديد يقتلع الشوك ليطلع زمن الخصب. وإذا كان الرقص تأثيثاً للمكان بالجمال، فإن السواد ينزاح في ظل هذا الواقع الجديد، وقد أطلق على هذا النقد الذي اهتم بالبيئة (النقد البيئي) (الأيكولوجي)، وأحياناً يطلق عليه (النقد الأخضر)، ويعد (وليم روكبرت)، أول من استعمل مصطلح النقد البيئي، لدراسة العلاقات الموجودة بين الأدب والبيئة، وذلك في أواخر 1978م من القرن الماضي، كما اهتم بدراسة النصوص الإبداعية بظل النظرية الأيكولوجية، التي تبحث عن مكانة البيئة والطبيعة والأرض في الشعر.
إذا عدنا إلى شعر (الهايكو) الياباني، لديك كلام نفيس تجاهه، لقد قلتِ في موقع المثقف الإلكتروني بأن (الهايكو) مشهد يبدو ساكناً، لكنه يختزن طاقة حركية تكمن شعريتها في هذا اللبس الكامن بين الصمت الظاهر، والحركية المضمرة بين التعبير المقتصد لغوياً والدلالة المطلقة.. فما هي خصوصيات هذا الفن؟ وكيف استقبله النقاد حتى قيل إنك أول امرأة عربية تنظر للهايكو العربي؟
- لم يكن لي في البداية اطلاع وافٍ على فن (الهايكو)، قبل تعرفي على المبدع الفلسطيني الأستاذ محمد الأسعد، -يرحمه الله- يوم دُعيتُ لمؤتمر السرد الفلسطيني في عمان، ووجدت اسم هذا المبدع يتكرر عبر المطبوعات الفلسطينية، فحرصت على البحث عن كتبه، حتى وجدت عنده روايات ودراسات، ودواوين شعرية حجبتها عنا الحروب والتهجير، وكتبت له وكان في الكويت، فاستقبلني وأرسل لي روايته الرائعة (أطفال الندى)، وكتبت عنها دراسة نشرت في كتاب الرواية العربية، وإشكاليات ما بعد الحداثة، الذي صدر عن سلسلة (دار السياب) في لندن، التي كنتُ مسؤولة تحريرها. وطلب إليّ الأسعد أن أقرأ نصوصه في (الهايكو)، وفعلاً قرأتها، وكتبت عن خصائص (الهايكو) الياباني، وضرورة حوار هذه الخصائص حين نكتب الهايكو العربي، فقال لي: ما تقولينه عن خصائص كل لغة كلام سليم، وعليك كتابته عن خصائص (الهايكو) العربي. وفعلتُ.. كما كتبتُ نصوصاً في (الهايكو) نُشرت في أكثر من موقع، داعية إلى الحفاظ على خصائص اللغة العربية ونحن نكتب (الهايكو)، فالفنون اللغوية، ولاسيما الشعر، كانت وستظل مسؤولة عن الحفاظ على خصائص اللغة العربية وتطويرها، فالهايكو الياباني لا يحبذ المجاز في تشكيله، بينما المجاز سمة أصيلة في لغتنا العربية، و(الهايكو) الياباني لا يحبذ استعمال ضمير المتكلم (أنا) والمتصل كذلك، بينما يشكل هذا الضمير في العربية ضمير البوح الحميم والدفق الروحي، ومغادرته قد تشكل خللاً يضرّ بالهايكو العربي، وفي الأسلوب الياباني تنحسر أساليبُ التعجب والاستفهام والتكرار، بينما هي سمات في الأسلوب العربي، وهكذا.. وفي الحقيقة لم يكن هذا الأمر تنظيراً، بل هو فحص لسمات فن جديد علينا، شاركتُ شبابنا اهتمامهم به، فقد كنت أحرص على أن يكون لكل طالبة جامعية وطالب، هواية تثير اهتمامه، وتطور قدراته في التعامل مع اللغة والإبداع، ليكون للحياة معنى، وكان هدفي توضيح ضرورة تشكيل فنون عربية رصينة، تحرك واقعنا العربي السكوني، وتعيد للغتنا العربية حركيتها الجمالية. كما كتبت نموذجاً نقدياً لتحليل الهايكو، نشر في أكثر من صحيفة ومجلة. ومن نماذج الهايكو الذي كتبته هايكو الحب:
(لا تخفْ عليّ المطرْ/ معي مظلةٌ دائمةٌ../ حبكْ
في شرفة قلبي/ شجرةُ أرجوانٍ/ وعصافيرُ ميتة/ يا لذلك الفتى الوسيم/ تحت الشجرةِ/ ينزفُ وحيداً)
يحمل ديوانك الشعري (أندلسيات لجروح العراق) عنواناً مثيراً، فلمَ ربطت ما هو أندلسي بالعراقي من خلال قصيدتك؟
- لأن ما حدث في العراق منذ عام 2002م، كان مشابهاً لما حدث للمسلمين في الأندلس، أثناء ضعف الحكم الإسلامي، وسقوط الدولة الأموية، فهو كثير الشبه بما حدث هناك، من قتل وسلب ونفي وتهديد للمسلمين.
نص الختام:
وبغدادُ تفتح شرفتها في الهزيع الأخير من الحلم
تسمع لغماً ولغماً، تضاءُ المدينةُ صفراءَ
تُشعل في غابة الحزن أشجارَها/ في الدهاليز أسرارَها
قي الغبار العتيق عبيراً مضى
كان جسرُ المدينة يهوي
وينقطعُ الصوتُ ما بيننا/ لؤلؤ الوجد كان ينثُّ ضياءً
على كتفيكَ، فينهضُ جسرُ المدينةِ
يعلو هلالاً جديدْ