النرويجية سيسل تولاس: الشم أكثر فتنة وتحدياً
حوار وترجمة/ حمد الدريهم: الرياض
في عام 1889م كتب فيدريك نيتشه (1844 - 1900م) في كتابه (أفول الأصنام: أو كيف تتفلسف بمطرقة): «كم نمتلك من أدوات دقيقة الملاحظة في حواسنا! هذا الأنف مثلاً، لم يسبق لأي فيلسوف أن تحدث عنه بإجلال وامتنان! في الواقع هو الأداة المتاحة لنا الأكثر حسية حتى الآن..»، تلك إشارة إلى التجاهل الفلسفي لحاسة الشم، ليمتد ذلك الغياب المعرفي إلى الأوساط الأكاديمية والخطاب الثقافي إلى أن بدأ الفن الشمي يفرض حضوراً عبر فنانيه ومنظريه في السياق الثقافي الغربي، ليعيد الالتفات المعرفي إلى حاسة الشم والأنف مع شبه غياب لتلك الالتفاتة في السياق الثقافي العربي.
عبر الاشتغال والاشتباك المعرفي المتعدد، تحاول الباحثة والفنانة النرويجية سيسل تولاس أرشفة روائح العالم في مختبرها الذي خصصته لجمع الروائح في برلين وإعادة الاعتبار المعرفي للرائحة، لاسيما أنها درست عدة تخصصات منها: الرياضيات والكيمياء واللسانيات والفنون واللغات. التقيت بها لأحاورها حول: تحديد روائح المدن واستقبال الأمم الأخرى حول العالم لمشروعها وعن مفهوم الفن الشمي، بالإضافة إلى موضوعات أخرى، فإليكم الحوار:
ذات مرة قالت الفنانة الأمريكية جايل نيلز: «الفن الشمي هو نمط معاصر للتعبير، حيث يقوم المبدعون يتعمّد إشراك حاسة إنسانية فريدة جداً في أعمالهم وتلك الحاسة هي الشم». بعيداً عن ذلك التعريف الكلاسيكي، ما الفن الشمّي من وجهة نظرك؟
- بصورة عامة، لا أحبذ حبس المفاهيم في قوالب جامدة، والفن الشمي أحد تلك المفاهيم.
هناك (الجسد) / الأداة، وهناك (الحواس) / البرمجيات أو الموصلات البينية. كل الحواس يجب استخدامها وتحديها بصورة تناسبها أو أنها قد تتلاشى.
كل الحواس تعمل معاً بصورة مستمرة ودائمة وهذا الأمر ينطبق عند تجربة الفن.
البصري سيطر تقليدياً على مجتمعنا وثقافتنا في عالم من التطهير التام. ومع ذلك، الرؤية تفصلنا بوضوح عن الشيء. نحن نؤطّرُ (نظراتنا) في الصور وعدسات الكاميرا، لذا تزداد بقوة احتمالية الاستجابة الفكرية التي تنبع من عملية الرؤية المادية. في المقابل، تُغلّفنا الروائح، تخترق الجسد، وتشبع البيئة مباشرة، مما يجعل استجابتنا أكثر عرضة للتأثير القوي، لنتذكرها لفترة أطول.
كي أتجنب التصنيف، أُعرّفُ الفن الشمي بصفتي (رابطٌ بينيّ) معرفي محترف، أينما توجد الرائحة هناك عمل يجب القيام به، بغض النظر عن المادة أو الحقل المعرفي.
هل يمكن أن تصفي مشاعركِ أثناء إعادة صنع الرائحة وبعد الانتهاء منها؟
- منذ عمر مبكر جداً، كنت مفتونة بعمق الحياة وتعقيداتها. في البدء شرعتُ في رحلة طويلة سعياً وراء أسهل الأمور وأكثرها تعقيداً وإقناعاً: ذاتي وجسدي وحواسي. تلك العناصر سهلة المنال وبلا تكلفة، لكنها تتطلب تحديها واستعمالها بصورة ملائمة، تسلحتُ بذلك الفهم وانطلقتُ بتلك الحقائق في حقيبتي.
بعد سبعة أعوام تقريباً من العمل مثل (الكابياء الخنزيرية)، امتحنتُ إمكانياتي بدقة عبر موصلاتي البشرية حينها عرفتُ مبكراً أن الأنف وحاسة الشم أكثر فتنة وتحدياً بالنسبة لي، لذا أصبحت كيفية فهم حاسة الشم وصقل القدرة على الشم بصورة دقيقة محور اهتمامي الأساسي. ارتباطُ الشم الدقيق باللوزة الدماغية والحصين المعقد في الدماغ يبرز قابليته للروابط العاطفية. لكن وعلى الرغم من أهميتها، إن حاسة الشم أُهملت كثيراً، لاسيما في الخطاب الثقافي. ذلك الإهمال يعكس قضية أكثر اتساعاً تتمثل في تجاهل الأوساط الأكاديمية لاتجاهات معينة من التجربة الإنسانية بما فيها العواطف.
عبر بحثي وعملي أؤكدُ بشدة إلى حقيقة أنني سأكون حاضرة دائماً، فنصف وظيفتي أحضر، لأشم الروائح.
فوراً، أنا هناك، لأجمع المواد المتطايرة/ جزيئات الرائحة التي تنبعث من أي مصدر للرائحة، وأحاول أن أفهم ما يجري عبر جسدي قبل إحضار المعلومات ما وراء مختبري إلى العالم.
في المختبر، يُحلّلُ تاريخ التسجيل المحفوظ، وبدء عمليتي الاستنساخ وإعادة الإنتاج. تلك العمليات تستهلكُ الكثير من الوقت، وتحتاج إلى الكثير من التركيز. الأبحاث تستمر كل يوم وتشمل موضوعات كثيرة ومعقدة في: اللغويات والكيمياء والأحياء والترميز والوظيفة وعلم النفس والأنثروبولوجيا وعلم الآثار وعلم البيئة.
في بحثي أهدفُ إلى العودة إلى جذور التواصل الشمّي بين جميع الأنواع. عبر فهم كيف تسهّل الروائح التواصل، فإننا نفتح آفاقاً لدراسة التفاعلات بين جميع المخلوقات.
الناس في جميع أنحاء العالم يواجهون تحدياً وإلزاماً عندما يُطلب منهم أن يستخدموا أنوفهم أكثر من مجرد التنفس. الهواء مسعى مشترك جميعنا نحتاجه ونساهم فيه. الهواء عبارة عن معلومات في (التكوين)، إذ إن كل جزيء نانو من الهواء يحوي على جزيئات رائحة.
الشغف الذي زرعته، لأجل موضوع الرائحة، غرس في مهنتي التفاني والالتزام. وتلك الصفات أساسية في عملي، لذا قصة نجاحي تدور لحد كبير حول إدراكي لما يعنيه أن أكون جزءاً من عالم مترابط.
كيف ترين أثر مشروعك (أرشفة الروائح) على حماية أرضنا من التغير المناخي والقضايا البيئية الأخرى التي قد تهددنا بيئياً؟
- معملي أبحاث الرائحة بإرشيفه المتنوع في حالة بحث دائمة ومتعددة وتغطي مجموعة واسعة من الموضوعات الجادة عالمياً، بما فيها البيئة والمناخ.
التعريف التقليدي لعلم البيئة يؤكد بصورة تقليدية على تبادل المادة والطاقة ضمن النظم البيئية، لكن ضمن السياق البيئي والحواس، لاسيما فيما يتعلق بحاسة الشم، التركيز يميل إلى اكتساب ومنح معلومات بيئية متعددة. ذلك يتطلبُ فحص السلوك والوظيفة لأنظمة فسيولوجية معينة مثل: حسيّة الأعضاء، لفهم العمليات التطورية الأوسع. كل الكائنات الحية تتفاعل باستمرار مع محيطها، تتبادل المعلومات الحسية الحيوية.
من خلال فهم كيفية تمييز الكائنات الحية المختلفة للروائح، حينها يمكن تمييز الإشارات البيئية التي تؤثرُ على الأنماط السلوكية لأنواع معينة. إضافة إلى أن فهم آليات عمل تلك الحواس تمنح تحليلاً دقيقاً لجودة الهواء بما في ذلك التلوث، وتسهّلُ فهماً أعمق لكيفية استجابة الأنواع للتغيرات البيئية والبشرية.
لفهم تعقيدات تلك العمليات، من الضروري استكشاف حقول معرفية مثل: السيميائية، تشمل: صنع المعنى ما قبل اللغوي والسيميائية البيئية. تلك التخصصات المعرفية تحفر داخل تفسير الإشارات والرموز ضمن نطاقات بيولوجية، ودراسة عمليات الإشارة ضمن الكائنات الحية والمجتمعات والبيئة مع التركيز على الجوانب التي تتوسطها الإشارة في النظم البيئية.
في حقيقة الأمر، جزيئات الرائحة أو الإشارات الكيميائية تربط عالمنا باستمرار وتتجاوز الحدود. اللحظة الحالية تمنح فرصة لتفكيك تلك الروابط وفهمها. استنفدنا مفرداتنا في وصف العالم، انتشار الصور يعيق قدرتنا على رؤية ما وراءها.
شمّ القضايا المثيرة للقلق في عالمنا تجعل المرء يُفعّلُ ذاكرته وعواطفه، في تلك اللحظة تحديداً: بدون ردة فعل عاطفية، لا يوجد فعل.
هل يمكنكِ إخبارنا بقصة تقف خلف إحدى الروائح التي جمعتيها، ولا يمكنكِ نسيانها أبداً؟
- الذاكرة تعمل بصفتها محرراً قوياً، لتشكل فهمنا للعالم، بدلاً من أن تكون مجرد مستودع للحقائق.
عقولنا منسوجة بالذكريات والعواطف تتصل عبر الروابط. الذاكرة، تشفير وتخزين واسترجاع المعلومات وتؤثر عميقاً على تجاربنا وأفعالنا المستقبلية.
من بين الحواس، الشمُّ يبرز كأداة فعالة للذاكرة، لديها القدرة على إثارة استجابة عاطفية قوية تفوق الذكريات البصرية وتثير استعادات لحظية. هذه القدرة الفريدة تجعل الشم رابطاً حيوياً بكل أشكال الحياة على الأرض. عندما يتصل الدماغ برائحة ما لأول مرة فإن ذلك الارتباط يبقى طوال حياة المرء.
تحدث هذه العملية بصورة واضحة وواعية أثناء مرحلة الطفولة عندما تكون المراكز العاطفية في الدماغ الأكثر نشاطاً، فتسهل التعلم المكثف الذي يثري تجاربنا. لاحقاً، مع انتقالنا إلى مرحلة المراهقة وما بعدها تنضج القدرات العقلية، فتكون الاهتمامات أكثر عقلانية. خلال تلك الفترة العمليات المرتبطة بتمييز الرائحة ومعالجتها تبدأ تعمل على مستوى اللاوعي بالاعتماد على ذكريات الرائحة المخزنة.
شخصياً، كرستُ جهدي، لأدرب نفسي على تذكر مجموعة واسعة من الروائح.
كيف يُمكنكِ تحديد روائح المدن؟ هل تعودين إلى الإرث الثقافي الذي يشمل: الطعام والملابس التقليدية والأماكن البارزة في كل مدينة لتحليل روائحها؟
- كل مدينة يمكن فهمها عبر روائحها المميزة التي تكون بمثابة ذخائر لحراك الماضي والحاضر وتتجلى في المباني والشوارع والمعالم والأنظمة والعادات، حتى في المؤسسات الحكومية.
التزمتُ في تسجيل وحفظ المناظر الطبيعية الشمية للمدن، لإعادة تقديمها في أماكنها المعنية، للمساهمة في الذاكرة الجماعية للمدينة. ذلك المسعى لا يعزز فهمنا للديناميكا الحضرية فحسب، بل يمنحنا دليلاً لتخطيط المدن في المستقبل. كلما فككنا تلك الإشارات الشمية، تصبح المدينة أكثر إنسانية وضيافةً لسكانها. في الواقع، المدينة مستودع نشط للروائح التي تشكل ذاكرتها.
مثل الكائن الحي، المدينة تتطور باستمرار، تستوعب تجارب جديدة وتتكيف للوظائف المتغيرة. الفشل في خدمة الحفاظ على الذكريات الشمية بصورة فعالة ذلك على وجه التحديد السبب وراء النظر للمدن الجديدة في كثير من الأحيان على أنها غير مضيافة.
مفهوم ذاكرة المدينة يمثل أنظمة تكيفية معقدة، تستمد رؤى نظرية من حقول علمية مثل: الأنظمة المعقدة والعلوم الإدراكية التي توضح الآليات وراء ظهور العقل من الدماغ.
مشروع (لكل مدينة مشهد رائحة) يتناسب تماماً مع حاجات واهتمامات المستفيد ويغطي موضوعات تمتد من التلوث إلى التمييز الاجتماعي. النهج المتبع في هذه المشاريع يظل ثابتاً ويؤكد على المشاركة الفاعلة للمجتمعات المحلية، فالعمل الميداني يشكل الجزء الأساسي من منهجيتي.
في ذلك المشروع الذي وصل لـ 55 مدينة حتى الآن، الذي يشمل مشاريع مثل (مشهد رائحة ديترويت 18-19-2050) و(الكويت)، أتعمق خلف السطح، لأكشف الحقائق الخفية. تلك المشاريع تثير أسئلة مهمة مثل: ما العناصر التي تستحق الحفاظ والحماية والصيانة، لتكون مرجعيات للأجيال القادمة؟ إضافة إلى أنها تدعو إلى الاعتراف بالرائحة باعتبارها مصدراً فريداً للمعرفة التي تستحق الحماية مثل: المباني أو المواقع التراثية المُدرجة. ذلك يستلزم استنساخ المصادر الشمية الأصيلة وتطوير رموز الرائحة المجردة المستمدة من بيئات الحياة الواقعية، وكذلك التقصي في ماضي وحاضر تاريخ الأحياء السكنية تشمل السلوك والديموغرافية والتقاليد.
هل يمكن التعاون مع علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الآثار والمؤرخين لتحديد رائحة حقب زمنية مختلفة أو رائحة أي موقع أثري؟ كيف ترين ذلك؟
- في حقلي علم الآثار والدراسات الشمية، هناك تحول غريب يُظهر بأن التقدم قد استقر، ومع ذلك ضمن سياق علم الآثار، يعد التعاون والمشاركة والاشتباك المعرفي له أهميته القصوى. أقدر بشدة خبرات علماء الآثار ومنهجياتهم وبروتوكولاتهم المعمول بها.
عبر تعزيز التفاهم المتبادل، يمكننا صقل تعاون ناجح يدمج رؤاي الشمية مع معرفتهم، لنتمكن من كشف الألغاز المخفية داخل المواقع القديمة. عملي يلزم الانغماس بشكل مستقل في التخصص مع الحوار مع مجموعة متنوعة من الخبراء مثل: علماء الآثار والأنثروبولوجيا والأحياء والجيولوجيا وعلماء النفس وغيرهم. النقاشات التمهيدية قبل عمليات التنقيب تعد أمراً حيوياً، لضمان فهم جميع الأطراف، لأهداف ملاحظاتي البحثية وأن تكون النتيجة النهائية مفيدة للطرفين. مثل هذه الإجراءات المشتركة ذات أهمية لا تقل عن العمليات الناتجة. خبرتي في الكيمياء العضوية وعلم الأعصاب وعلم الأحياء والتخصصات المتصلة بها، بالإضافة إلى الشغف المشترك والحماس في ذلك الموضوع تعد مكونات أساسية لتحقيق النجاح في ذلك الاجتهاد المعرفي.
خلال عمليات التنقيب، علماء الآثار يركزون عادة على التحف الملموسة مثل: العظام والأحجار والسيراميك والزجاج. ومع ذلك، ماذا لو وسعنا مداركنا لندخل التجربة الشمية أثناء الكشف عن طبقات التربة والغبار؟
مع كشف كل طبقة، يتعرض الهواء لعملية تحول ليكشف عن الجزيئات القديمة ويحركها، أفتخر بتدوين وحفظ ذلك الأمر المميز وأن أحافظ على جزيئات الرائحة التاريخية.
الاعتراف بأهمية كل الحواس في عمليات التنقيب، لاسيما حاسة الشم وجزيئاتها بصفتها معلومات مهمة للغاية، واحتضان الإثراء الذي تمدنا به للفهم، حينها يتحول الموقع الأثري إلى (ساحة لعب) علمية حسية.
الخلاصة، تلك المقاربة الفريدة لفهم عالمنا عبر حاسة الشم تمثل قوة تعاون وأهمية لتشارك الخبرات المتنوعة. عبر الجمع بين حواسنا والعمل معاً، نخلق فهماً أعمق وأشمل للماضي والعالم من حولنا.
فيما يتعلق بعملك الفني الشمي الذي رمزتِ إليه بـ (IN_side_OUT_edis_NI)، ما هدفك من ذلك العمل؟ هل يمكن وصفه بأنه رائحة تربة الأرض؟!
- التربة تلعب دوراً أساسياً في النظام البيئي للأرض، بدونها حياة الإنسان ستواجه تحديات هائلة. إنها الأساس للنباتات إذ توفر موطئ قدم لجذورها والتغذية الأساسية للنمو. كما أن التربة تعمل كمصفاة طبيعية لمياه الأمطار، تنظم تدفقها وتمنع فيضانها. لها القدرة على حفظ الكربون الطبيعي الذي يساعد في تخفيف التغير المناخي مع الحماية ضد التلوث والحفاظ على جودة المياه الجوفية. أكثر من ذلك، التربة تعد مورداً طبيعياً في مواد البناء والتصنيع مثل الطين المستخدم في صناعة الطوب والفخار، ويعد مستودعاً للظروف البيئية الماضية ويقدم رؤية ثاقبة للنظم البيئية التاريخية.
في داخل التربة عدد لا يحصى من الكائنات الدقيقة، بما فيها البكتيريا المثبتة للنيتروجين والمحلّلات وكذلك الحيوانات المجهرية مثل دودة الأرض والنمل الأبيض. نحن لا نبني على التربة فقط، بل نبني بها وفيها.
بعد هطول المطر، تنبعث رائحة مميزة من التربة تسمى رائحة الأرض الندية (Petrichor). مصطلح (Petrichor) مأخوذ من كلمتين يونانيتين (petra) التي تعني الحجر و(ichor) التي تشير إلى الدم الإلهي في الأساطير اليونانية. تلك الرائحة القديمة تنشأ من مركبات عضوية تنبعث أثناء تفاعل الماء بالتربة بما في ذلك الأيض البكتيري والزيوت المشتقة من النبات. رائحة الأرض الندية تكون أكثر وضوحاً في البيئات الرطبة. تُعرفُ الجمال بحدة حاسة الشم لديها تستطيع معرفة الواحات عبر شم أثر تلك الرائحة المميزة.
(أبواغ المتسلسلة) يُمكن أن تُحمل بواسطة مياه الأمطار أو تلتصق بجلود الحيوانات وتسافر لأميال، لتساعد في انتشار الميكروبات.
بصورة مماثلة، زهور الصبار تستغل رائحة الأرض الندية لجذب الحشرات وتخدعها إلى الجزم بوجود مياه قريبة. تساعد الحشرات عن غير قصد في التلقيح أثناء سعيها للحصول على التغذية، ذلك الأمر يوضح العلاقات المعقدة بين النباتات وبيئتها.
في مشروعي (IN_side_OUT_edis_NI) قمت بحفظ واستنساخ الجزيء الأساسي الذي يصنع رائحة الأرض الندية كيميائياً، لذا تمكنت من انتزاعه من سياقه. الجزيئات الأساسية وُضعت كخيط غير مرئي منسوج في أروقة (البينالي) يظهر ويختفي في مناطق مختلفة. وهذا تذكير بأن الهواء عنصر مشترك يربطنا جميعاً بكل الكائنات الحية. في مكان خارجي، وُضعت شجرة تحيط بها تربة خصبة. كل يوم، التربة تمتزج بالماء ورائحة الأرض الندية تستيقظ بحكمة عميقة، ليتحدث اللامرئي: عندما تدرك بأنك والتنوع البيولوجي لكوكب الأرض مترابطان، فإنه يترتب على ذلك تحول عميق في الهُوية.
تنوع (الميكروبيوم) يعدُّ حجر زاوية للصحة وطول العمر، عندما يختل ذلك التنوع فإنه علامة على بداية الأمراض المزمنة.
رائحة الأرض الندية ثبت أنها ترفع هرموني السيروتونين والنورإيبنفرين عند البشر. بصورة أساسية، تعمل بطريقة مشابهة للأدوية المضادة للاكتئاب. ومن اللافت، أنه يمكن للمرء بسهولة أن يتجرع بنفسه عن طريق شم رائحة التربة، وهذا قد يفسر سبب شعور الناس بالسعادة عندما يعملون في الحديقة.
كيف تصفين استقبال الأمم الأخرى حول العالم لمشروعك؟ هل يمكن عمل نفس المشروع، بحيث إن كل أمة تحفظ وتُؤرشفُ روائحها؟ كيف ترين ذلك الأمر؟
- قاعدتي هي الحياة. الحياة توجد في كل مكان وفي كل الأوقات. طالما هناك هواء، فهناك حياة. جميعنا نتنفس الهواء نفسه ونساهم جميعاً فيه. الهواء يمثل تجربة مشتركة. إنه عواطف متحركة، عملي يعد تذكيراً بتلك الحقائق.
العوامل التاريخية والاجتماعية والدينية تدفعنا لنتجاهل أكثر من 1 % من جيناتنا. التعليم يعد مفتاحاً أساسياً لإيقاظ القدرات الخاملة التي بداخلنا والاستفادة من أجهزتنا وبرمجتنا الفطرية. قوة الرائحة توحّدُ وتُشعل الفرح، وغالباً هذا ما يطغى على المجتمع الحديث.
عبر الثقافات، تحدد الرائحة تفاعلاتنا وعلاقاتنا، فتثري الطقوس والاجتماعات. في عالم منهمك بالافتراضي والذكاء الاصطناعي، نمتلك المُدخلات الاتصالية الأكثر تقدماً داخل ذواتنا وهي: حواسنا، فهي على عكس الحواس الرقمية، إنها ذكية بطبيعتها ومرتبطة بإنسانيتنا. قدرتنا على التعاطف تميزنا عن الآلات، وتلعب الرائحة دوراً محورياً في ذلك. جوهر الحياة هو أن نحتضن حواسنا الشمية، لتربطنا بالواقع. تدريب أنوفنا يمنح رؤى جديدة حول التحديات المجتمعية ويبث التفاؤل ويغير وجهات النظر.
إن إعادة ضبط تحيزاتنا في اتخاذ القرار والتواصل أمر حتمي، لاسيما مع زيادة عدم الاستقرار العالمي.
نحن بحاجة ماسة، إلى إعادة تشغيل الحواس والتعلم، لتفسير المدخلات الحسية بصورة بناءة، إشراك حاسة الشم لدينا ينشّط المشاعر والذكريات ويعزّزُ التعلم والأداء.
بدلاً من البقاء على اتصال مستمر بالإنترنت، لنسعى جاهدين لنكون متصلين بالحياة ومستندين على تجارب ملموسة. التسامح أمر بالغ الأهمية في معالجة القضايا العالمية، بدءاً من إعادة الاتصال بحواسنا. لا شيء ينتن، التفكير هو من يجعله كذلك.
كيف ترين مستقبل مشاريع جمع الروائح، لاسيما في عصر الذكاء الاصطناعي؟ وبعد كل هذه الأعوام ما الدروس التي تعلمتيها في هذا المجال وتودين مشاركتها؟
- أنا متفائلة جداً فيما يتعلق بالمستقبل، بالرغم من الهواجس الحالية. مما لا شك فيه أن الجائحة غيرت نظرتنا لما يعنيه أن تكون إنساناً. الأهداف تغيرت، لتستلزم إعادة تقييم عالمي. يجب أن نصبح متعاونين بشكل أفضل، وندرك ترابطنا ليس مع الطبيعة فحسب، إنما أيضاً داخل الكائن الحي الواحد.
في هذا المشهد التطوري، آمل أن أهمية الذكاء العاطفي تتجاوز عقلانية الذكاء الاصطناعي ويكمن التحدي الرئيس في معالجة المشكلات التي لم تظهر بعد. رغم استطاعتي لتوقع تحديات الغد عبر حاسة الشم، إلا أن طبيعتها الدقيقة تظل مجهولة.
وسط ازدياد عدم الاستقرار، يتحتم إعادة تقييم الأساليب التقليدية في التواصل وصنع القرار. أنا ملتزمة في المراجعة وإعادة النظر في السجلات البحثية المحفوظة لدي، لاسيما مع الاكتشافات الجديدة المثيرة للاهتمام التي تركز على الاتصال الكيميائي داخل التربة والأرض. مع الحضور الدائم لجزيئات الرائحة، لن تكون هناك لحظة مملة أبداً، وهذه دلالة على الطبيعية الديناميكية للشم. الوجود الدائم للروائح يؤكد أهميتها. لوقت طويل جداً، احتكرت الإعلانات التجارية التواصل بالرائحة عبر المنتجات المعبأة. حان الوقت ليستعيد العلم دوره، الأمر الذي يتطلب وقفة ضرورية في جهود التسويق.
في نهاية المطاف، الناس يهتمون حقاً بالروائح، وفيه إشارة إلى التحول في إعطاء الأولوية للأصالة على المصالح التجارية.
ما كلمتك الأخيرة في هذا اللقاء؟
- المهارة الأساسية للرائحة هي إثارة العواطف، بدون ردة فعل عاطفية، لن يكون هناك فعل.