نصر سامي: نصّي الشعري وصل إلى العالم العربي عبر وسائل التواصل الاجتماعي
حوار : أسمهان الفالح : تونس
جمع إلى الشّعر الرّواية واحترف الرّسم، فاتّسم إنتاجه الأدبيّ والفنّي بالغزارة والتنوّع. غير أنّ بدايته كشاعر أثّرتْ بشكل لافت على توجّهه النّثري فطفت الشعريّة على السّطح وخفت الجانب السّردي لا سيّما في أولى رواياته الموسومة بـ(آيات أخرى) على حدّ قوله. وفي حواري معه كشف نصر سامي عن رغبته المحمومة في كتابة نصّ يتسع لما يراوده من هواجس، ويُماهي بين التّالد والطّارف في آن فيطالعنا في لبوس متميّز. ولعلّه ظفر بضالّته في المرويّات والحكايات. ويعدّ فوزه بجائزتيْ الشّارقة وكتارا عن روايتيْ (حكايات جابر الرّاعي) و(الطّائر البشري) تتويجاً لجهود سنوات من القراءة والبحث والتّجريب في هذا الإطار.
ويرى نصر سامي أنّ المبدع وهو ينتقل من تجربة الشّعر إلى الخطاب الرّوائي لا يكتب نصّاً متعدّداً مختلفاً بل هو ينضد نصّاً واحداً جامعاً يبثّه نفثات من روحه وفكره ووجدانه ويحمّله رسالة جوهرها (الإجهاز على القبح وجرّ هذا العالم القديم من شعره).
كما أشاد بدور الوسيط الإلكترونيّ في تحقيق شعبيّة واسعة للمبدع في ظرف وجيز على حساب الوسيط الورقيّ الذي ما فتئ يشهد تراجعاً لافتاً في دوره الكلاسيكيّ الأمر الذّي يطرح عديد نقاط من الاستفهام.
الأستاذ نصر أصدر ما يزيد على 14 مؤلّفاً تتوزّع كالتّالي: تسعة دواوين شعريّة، روايتين، مسرحيّة، كتابين في النّقد، وله مخطوطات تنتظر الطّبع، كما أصدر مجلّة باسم (الشّاعر) وصلت إلى عددها السّابع حاليّاً، وله أنشطة كثيرة في الميدان الإبداعيّ بين الرّسم والتّكوين، وهو حائز على عديد الجوائز المحليّة والدوليّة... فإلى الحوار:
يحتاج رصاص الكلمات إلى الوقت لينمو ويزهر ويثمر , إذا عدت إلى تصفّح كتاباتك الأولى، ماهي الورقة التّي ستقف عندها كثيراً، الورقة التّي ستمزّقها، الورقة التّي ستعيد فيها صياغة الفكرة؟
- حين أعود إلى كتاباتي الأولى لا أعتقد أنني سأمزق شيئاً، لقد تمكنت بطريقة ما من نشر جميع ما كتبته من نصوصي الأولى. وبداية من ديواني الأول الصادر سنة 1996، أصدرت أعمالي بانتظام، ولم يحصل أنني مزقت منها شيئاً. يمكنني أن أتوقّف مطوّلاً أمام كتاب الآيات الأخرى روايتي الأولى الصادرة في لبنان، لأعيد كتابتها بشكل كامل. كانت فكرتي فيها كبيرة ومهمة وأعتقد أنها لم تصل للقارئ بالطريقة المناسبة. أريد أن أعمّق الجانب السردي فيه وأغيّب أو أقلّل من شعريته التي طغت على جوانبه الأخرى. في رأيي أن كتابي الآيات الأخرى هو كتاب سيّئ الحظ. وأظن أنني عائد إليه بعد عشرين عاماً من كتابته تقريباً لأعيد كتابته من جديد. الورقة التي سأعيد صياغتها هي في الحقيقة النسخة النهائية من جميع أعمالي الشعرية التي بدأت أفكر وأتهيّأ لإصدارها في دار نشر مهمة بمراجعات جديدة ومقدمات متنوعة، وذلك لأنّ نصّي الشعري لم يصل إلى العالم العربي عبر كتب بل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو عبر محاولات شخصية في الصحف والمجلات. وأعتقد أنّ إصدار طبعة فيها جميع كتبي الشعرية سيكون أمراً فارقاً في مسيرتي الأدبية.
لكلّ كاتب كما تعلم طقوسه الخاصّة في الكتابة. بودّنا لو نتعرّف على نصر سامي من زاوية أقرب. كيف هي علاقتك بالحرف؟ هل تستميله أم يستميلك في لحظة فارقة؟
- أكتب بطريقة يومية هذا هو سري المهمّ. القصد أن أجلس للكتابة أو للقراءة أو للرسم أو لأيّ شيء له علاقة بالكتابة من قريب أو بعيد. أحياناً لأكتب فصلاً جديداً عليّ أن أقرأ كتاباً وألخّصه. غير هذا أتذكّر أنّني أحبّ أن أخرج من البيت قاصداً مكاناً عاماً، ففي سوسة كنت أكتب أكثر كتبي في المكتبة العمومية، وقبلها في تونس العاصمة كنت أكتب في مكتبة العربية في كلية الآداب، والآن في صلالة أغلب ما كتبته مؤخراً كان في مكتبة الغساني. للأمكنة الواسعة الكبيرة المليئة بالناس سحر خاص، كلّ ما زاد الحديث وتشعب بين مرتادي المكان كلما زاد تركيزي وتعمقت. أكره الهدوء المبالغ فيه. ولا أقدر على الكتابة مطلقاً في وجود موسيقى أو غناء أو إلقاء. أحياناً تتلبّس بي حالة ضيق خاص حين يقارب الكتاب على الانتهاء أو في مواضع معينة يحتاج فيها إلى قدر كبير من التركيز، وأحياناً تستعصي عليك الكتابة استعصاء يصل إلى درجة الامتناع، وكثيراً ما تتولّد الصّور بطريقة شبيهة بميلاد الثمرة في الغصن. في الأوقات التي لا أكتب فيها أقرأ لغيري، أو أستعيد ما كتبت معمقاً جملاً فيه أو فقرات ومغيراً ومضيفاً ولعلّ هذا الأمر هو ما يجعل لكتبي في صيغتها النهائية بريقاً خاصاً.
متى يكون للكلمة نفس وقع الرّصاص؟
- الرصاص والكلام لغتان متمايزتان بشكل كلي، لا أعتقد أن أيّ رصاصة مهما أثرت تشبه الكلمة. لا شبيه للكلمة مطلقاً. وفي حالتي فهي الطريقة الوحيدة للإجهاز على القبح وجرّ هذا العالم القديم من شعره. لحد اليوم لم أضطر إلى غيرها، ظننتها طول الوقت كافية، خاب أملي فيها مرّات لكنني لا أتقن غيرها. ليست الكلمات زوجة لتطلقها، ولا ابنة لتسلمها يوماً ما إلى زوج، ولا حتى أبوين لتفارقهما. الكلمات بئر داخلي ينفتح على أربعين ألف بحر عميق. أيّ رصاصة قد تشبهه. يهمّني فقط أن ألحّ على فكرة ترك الأثر أو الفعالية وهي الفكرة المقصودة من السؤال. القصيدة تترك أثراً، والجملة تترك أثراً، لكن ربما لا يكون ذلك بمجرد إلقائها، يحتاج رصاص الكلمات إلى الوقت لينمو ويزهر ويثمر.
نصر سامي كاتب شامل يهتمّ بالشّعر كما المسرح والرّواية والنّقد. فأيّ هذه الأجناس الأدبيّة الأقرب إليك؟ وأين تجد نفسك؟ هل أنّ صوت الشّاعر يتغلّب على بقيّة الأصوات حضوراً؟ سيّما وأنّنا لاحظنا غزارة إنتاجك الشّعري مقارنة ببقيّة المجالات حيث أصدرت 10 مجموعات شعريّة أوّلها (ذاكرة لاتّساع اللّغات)، الأطلسيّة، تونس، 1996 وآخرها (سفر البوعزيزي)، دار الشّاعر ودار بورصة للنّشر والتّوزيع، مصر، 2017.
- أعتقد أنني أكتب نصّاً واحداً. هكذا أحب أن ينظر النّاس إلى تجربتي التّي يغلب عليها الشعر. لكن الآن الرواية تأخذ الحيز الأهم في حياتي. لي روايتان منشورتان. الآيات الأخرى، وحكايات جابر الراعي، ويصدر لي خلال بعض الأشهر رواية الطائر البشري بثلاث لغات عربية وفرنسية وإنجليزية. ولي رواية مخطوطة. آمل أن أتمكن من إصدارها قريباً. وبصدد كتابة روايتين. الخروج من الشعر إلى السرد كان بسبب الحاجة إلى مجال أوسع للتعبير عن فكرتي. قبل الرواية جربت السرد في الشعر. وأغلب قصائدي فيها سرد. لكن طبيعة القصيدة مغايرة وفيها أنهار عميقة جوفية تحتاج لغة متدفقة مثلها، عكس السرد الذي يمكنك عبر مساحته أساساً وعبر تقنياته من التعبير بقدرة وتميز ودقة عن تصوراتك للوجود وللإنسان. في قراءاتي أميل للرواية ومؤخراً صرت أميل إلى قراءة القصة القصيرة، لكنّ أفضل ما أحبه بإطلاق هو الحكاية المروية سواء الشفوي منها أو المكتوب. ولعل هذا الاهتمام هو الذي سوف يسم تجربتي السردية بعد إصدار المزيد من الروايات. الشعر أشعر أنه سهل، أكتبه بروح مرحة غالباً، يأتيني مستقيماً واضحاً بديعاً، لكنني في أغلب الأحيان أحاول أن أشتغل على بنيته وعلى إثرائه داخلياً بمقومات بنائية ليست منه. ولقد حظي نصي الشعري بمتابعة نقدية أكاديمية جيدة مؤخراً. أجد نفسي في الشعر غالباً، وفي السرد حين أنتظم وأقرر الجلوس بصورة متواصلة على مكتبي.
هل الأمر بالنّسبة إليك سيان، فقط هي المواقف أو الوقائع تفرض نفسها فتجد السبيل إلى التّدوين؟
- يهمني هنا أن أذكر مثالين. الأول مسرحيتي العشاء الأخير التي تتحدث عن أربع شخصيات تحضر عشاء سيكون الأخير لهم وهم أحياء، فيتحدثون حديثهم الأخير. نص فاجع كابوسي تكلم فيه الأبطال عن حياتهم بصدق. كتبته قبل الثورة التونسية وعبرت به عن حالة الانغلاق واليأس التام التي كانت مسيطرة. في نهاية الكتاب يموت أبطالي كلهم مسمومون، وما من أمل. وكتابي الثاني سفر البوعزيزي وهو ديوان شعري احتاج مني لسبع سنوات، عبرت فيه أيضاً عن ما حدث في تونس في السنوات التي مضت. وعن الأمل الذي بدا كبيراً ثم تناقص ثم أفل تماماً أو كاد. الوقائع تفرض نفسها، لكن تأثير الوقائع ليس المؤثر الوحيد. هناك دائماً أسباب تجعلك تخرج من تجربة كتابية لتدخل في أخرى.
أثار ديوانك الأخير (سفر البوعزيزي) ضجّة كبيرة في الأوساط الأدبيّة ممّا حدا بمجموعة من النّقاد العرب من تونس والجزائر والمغرب ومصر والعراق إلى تأليف كتاب نقديّ مشترك مداره (الخلفيّات النصيّة وتفاعلاتها في ديوان سفر البوعزيزي للشّاعر نصر سامي). فبم تفسّر هذا الالتفاف الجماهيريّ من قرّاء وأكاديميّين حول منجزك؟
- الكتاب الذي تفضلت بذكره يتكون من 14 مقالاً لباحثين من عدد من الدول العربية، أغلبهم حاصلون على الدكتوراه وبقيتهم حاصلون على الماجستير وهم أسماء معروفة في مجالات اختصاصهم. حظي كتابي باهتمامهم النقدي وتطرقوا أساساً إلى خلفياته النصية، أي مجمل ما تعاملت معه وأثر في كتابي من نصوص، وما شكلته تلك الثقافة من بنى وتفاعلات في مختلف نواحي الخطاب. كتاب أعتز به لأهميته وحجمه الكبير وصدوره في تونس يشعرني بسعادة إضافية. سفر البوعزيزي رافقني عديد السنوات تقريباً منذ خروجي من تونس للإقامة في سلطنة عمان، اشتغلت عليه بشكل متواصل، وأضفت إليه وحذفت منه، وهو مصدّر ببيان أعتقد أنه شديد الأهمية حول كتابتي عموماً وعن الديوان نفسه خصوصاً. والاهتمام به من طرف عدد من النقاد يعني دعوة للباقين للاهتمام بمنجز نصي سابق عليه صدر في تونس ولم يكن له حظ أن يقرأ وينتشر.
كيف تحوّل نصر سامي من كتابة الشّعر إلى خوض تجربة الرّواية؟
- السبب هو حبّي للحكايات، هكذا بكل بساطة. هناك مرويات عميقة ورائعة وخالدة قرأتها في طفولتي وبقيت في رأسي طول الوقت، ولقد كان لهذا الاهتمام أن تعمق بقراءتي لعديد الكتب المهمة مثل ألف ليلة والديكامرون وسيرة بني هلال وغير ذلك من الحكايات العالمية، التي صرت أمتلك مكتبة متوسطة منها أثريها من المعارض كل عام.. هذا هو السبب الأول وهناك سبب ثان هو دواعي بيداغوجية. كتبت الرواية بكل بساطة لأعطي أمثلة دقيقة للطالب عن السرد والوصف والحوار وطرق تصريف كل تلك الأمور المنهجية في الخطاب، كما أن محاور مثل العادات والتراث الشفوي وغير ذلك من المواضيع كان يندر إيجاد نصوص تمثلها. كان هذا سبب مهم جداً لاهتمامي بالسرد. لكنّني أعتقد جازماً أنه ما من سبب حقيقيّ دفعني إلى السرد غير الرغبة في الانقذاف في نص كليّ يقول عالمي بما فيه، وهذا النصّ كان الرواية. ما نشرته لحد الآن يظهر فقط جانباً بسيطاً منه. آمل أن يعطيني الله الوقت الطيب لأكمله.
وما هي الصّعوبات التّي واجهتك في البدء؟
- لم تكن صعوبات شخصية، كانت صعوبات عامة تهمّ ظروف البلد، وسياسة الكتاب في تونس. وطبيعة النشر وأموراً كثيرة لا أحب أن أعود إليها هنا. الحمد لله الآن تغير الوضع. الجيّد في السفر أنّك تسامح، أتذكّر بفخر ما فعلته رفقة جيل من الكتاب التوانسة في منوبة أو في حسين بوزيان أو في سوسة. أمور رائعة حدثت. كتبنا كتباً جيدة لكنها لم تنتشر كما كنا نريد لها، حلمنا أحلاماً رائعة لنا وللبلد ولكن لم يسمعها أحد. حين كانوا يغلقون كل باب كنا ننشئ تظاهرات في الشوارع. وحين أغلقوا المجلات بادرنا بإصدار واحدة لنا. ولم نتوقف. ما سمّيته عقبات أنظر إليه الآن بحنين، وأضحك. كان ما نريده بحراً، ولم يوجد أحد في ذلك الوقت راغب في مساعدتنا على شقه. أجيال كثيرة من الكتاب سافرت إلى دول العالم وهم من خيرة كتابنا للعمل ولتحسين الشرط الإنساني، ولتوفير فضاء أوسع للحركة. وهذا ما تمّ في حالتي أنا. الصعوبة الحقيقية التي يعاني منها جيلي هي التوقّف. ومن استطاع منهم بمعجزة إلهية أن يواصل فقد تغلّب على الصعاب. أستحضر الآن مثالين الكاتبة فاطمة بن محمود والكاتب حافظ محفوظ. كلاهما نحت في الصخر اسمه. في ظروف لا تعترف بالمبدع الحقيقي، وفي مجال حيويّ يقزّم المبدع، ويعلي من شأن قليلي الموهبة. أتساءل: هل تمّ تجاوز الصعاب؟ الرد: لا، لعلها زادت وتعقدت. الله وحده من يقدر على تغيير الأوضاع.
في رصيدك ثلاث روايات: (الآيات الأخرى)، كتابنا، لبنان 2010، حكايات جابر الرّاعي، رواية للنّاشئين، دار ورق، الإمارات، 2014، الطّائر البشري، مخطوط، 2017، وقد حصدت الرّوايتان الأخيرتان جائزتي الشّارقة للرّواية 2015، وكتارا للرّواية 2017، فكيف تطوّرت التّجربة الرّوائيّة لديك من سنة 2010 إلى سنة 2017؟ وهل يمكن الحديث عن إستراتيجيّة اعتمدها نصر سامي ليحقّق هذا الإنجاز المبهر ويظفر بتكريمين متتاليين؟ ثمّ هل تعدّ الجوائز مقياساً للتّمييز بين الكتّاب برأيك؟
- فوزي بجائزتين عربيتين هامتين الشارقة وكتارا بروايتي حكايات جابر الراعي والطائر البشري توفيق من الله، كان صدور روايتي الأولى الآيات الأخرى، وإجماع القراء وبعض النقاد على أنّ الشعري فيها أضاع السردي، وعلى أن الشاعر حين يكتب الرواية يجب أن يأتي إليها متخلياً عن عالمه.. كل ذلك الحوار الذي دار حول الكتاب أعتقد أنه فتح بصري على أمر مهمّ وهو المقادير، صرت من وقتها أركض وخلفي عربة الأساطير والأحلام كبراق ضال. أغطس إسفنجتي لأمتص الليل والفجائع وأملأ كؤوس الهم كأساً كأساً وأنظر إليها نظرة اليائس..لو كان باستطاعتي نسيانها لو كان باستطاعتي كسرها..لكنها كؤوس رائعة، أبديات من الصحو الجميل تخيم عندها شبابيك الليل بشرفاته المغلقة. وقرّرت أن أهتم بصنعتي هكذا بكلّ بساطة. وكتبت ما كتبت. الرواية كانت معي طول الوقت. فأكثر قراءاتي سردية، وتقريباً أنا من الجيل الذي لا يكتفي بقراءة رواية بل يكمل الأعمال الكاملة لجميع كتابنا العرب وجميع الروايات التي كانت تصلنا لكتاب العالم. تطورت تجربتي في سياق القراءة والكتابة الشعرية المسترسلة بين 1990 و2010 وصولاً إلى الآن. وحاولت أن أبحث عن خصوصية معينة لعلني وجدتها في المرويات والحكايات. وفوزي بالجائزتين لا أعتبره مقياساً للجودة بقدر ما يمكن اعتباره نوعاً من الاعتراف الذّي يدرج الكاتب المتحصل على الجوائز في طبقة أوسع من المتابعين وفي سياق نقدي أكثر جدية ويدخله في علاقات أكثر احترافية مع الكتابة نشراً وتوزيعاً وكتابة وترجمة.
هل يمكن القول إنّ الرّواية العربيّة قد تبوّأت منزلة الوريث الشّرعي للسّرد الشّفويّ ناهيك وأنّها تختزن في بنيتها غير قليل من الفنون؟
- الرواية بصدد التهام كل فنّ وكلّ شيء. بل إن الرواية لا تستقيم إلا بدخول ما ليس منها فيها. لذلك يتمايز كتابها حسب ما يدخلونه من ثقافتهم في نسيجها الروائي. يعجبني مثلاً السرد ذو الطابع الفلسفي التأملي، ويعجبني أيضاً جماعة الواقعيات بأنواعها خصوصاً السحرية والواقعية القذرة بشقيها الأمريكي الأقدم والإيطالي الأحدث. وتعجبني الروايات التي تعيد نسج عوالم كاملة أو تبني سيراً أو تتابع بناء دول وسقوطها كما يروق لي كثيراً النص الذي يأخذك وينقطع بك في أسئلته عن عالمك.. ما أحب أن أجربه شخصياً هو إعادة السرد الروائي إلى الحكاية، أي إلى التراث الشفوي، وإلى المرويات الكبرى في التاريخ البشري.
يعمد بعض الكتّاب العرب إلى كتابة روايات بلغات أجنبيّة، فهل يعتبر ذلك طريقاً مختصراً سيوصلهم إلى العالميّة التّي ينشدونها؟ وهل يمكن الحديث عن وجود ملامح مشتركة بين نصوص متجذّرة في بيئة عربيّة وأخرى غربيّة بمجرّد كتابتها بلغة مشتركة؟
- الكتابة بلغة أخرى مطلوبة إذا كان الكاتب يتقن اللغة الأخرى. لكن العالمية لا تدرك باللغة. العالمية تدرك بالأدبية وبالمعالجة الفنية وبالمحتوى الذي يقدم للإنسانية، لذلك يصعب أن نستحضر رواية مكتوبة بلغة غير أصلية لكاتب عربي حققت شيئاً. بل الواقع يقول إن جميع المتحصلين على نوبل مثلاً حصلوا عليها بلغاتهم بعد شهرتهم وترجمة نصوصهم إلى اللغات الأخرى. البيئة والتجذر فيها أمر مطلوب بقوة، المحلية أمر مطلوب أيضاً، كل ما هو خصوصي مطلوب في الرواية، أما اللسان الذي تكتب به فهو أمر ثانوي.
تختلف دلالات النصّ الأدبيّ الواحد حسب اختلاف وسائط تحميله، فشتّان ما بين دلالة يتحكّم فيها التّشكيل الغرافيّ الخطّي للكلمات، ودلالة تتدخّل في إنتاجها وسائط متعدّدة من بينها الصّوت واللّون والحركة والضّوء. فكيف يقيّم نصر سامي ما تشهده السّاحة العربيّة من (حراك ثقافيّ نوعيّ في الآونة الأخيرة تتجّه بوصلته نحو محاكاة تجارب جديدة في الكتابة الحديثة، في محاولة لملامسة تجريب مهم على الصعيد العربي والعالمي في ما يسمى بالكتابة الرقمية، والإبداع الرقمي، والثقافة الرقمية؟) على حدّ عبارة النّاقدة المغربيّة الدكتورة زهور كرام. وهل يفكّر مستقبلاً في خوض غمار هذه التّجربة نهجاً على منوال الكاتب الأردني محمد سناجلة الذّي يعدّ رائداً في هذا المجال؟
- لا أعتقد أنني فهمت بالضبط سؤالك، وفي الحقيقة لست مطلعاً على تجارب محمد سناجلة ولا على أعمال زهور كرام. آمل أن أتمكن قريباً من متابعة شغلهما. في ما يخصني لا أتوقع أن أنشغل بغير ما أنا فيه ولوقت طويل. لكن لديّ ما أقوله في هذا المجال في خصوص الرسم. فلقد توقفت من سبع سنوات تقريباً عن استعمال المادة في الرسم أي الألوان والقماش وكل ما يرسم به الرسام، وصرت أنتج أعمالي التشكيلية بالتخلي الكلي عن المواد، أي عبر المجال التقني والبرمجيات. هذا النزوع في الفن التشكيلي لديّ لم ترافقه نفس الرغبة في التطوير والانفتاح على الوسائط. أما إذا كان المقصود الكتب الإلكترونية والمواقع الأدبية ومواقع التواصل فإن لي فيها وجوداً معتبراً.
هل يمكن أن يؤسّس الكاتب منظومة قيميّة جماليّة صلب بوتقة ينصهر فيها ضدّان قد لا يجتمعان إلا لماماً: أصالة الوعي وحداثة الوعاء؟
- لا أفهم الأمر في إطار الثنائية، لا أعتقد أنّ هناك شيئاً اسمه أصالة بشكل حقيقي وكامل. ما من شيء طاهر بإطلاق. داخل الطاهر هناك المدنس، وداخل المدنس هناك الطاهر. الأصيل بهذا المعنى هو متخيّل. ما من شيء يمكننا باطمئنان أن نسميه أصالة. هناك متخيل يسمّيه بعض النّاس أصيلاً. ونفس الشيء حول الحداثة. ماذا نقصد بالحداثة؟ هل كلّ جديد هو حديث؟ بالطبع لا. هل كل قديم ليس فيه حداثة؟ بالطبع لا. الحداثة حراك يتغير باستمرار فيما تتقدّم الحياة. فيما يخصني لا يشغلني أبداً أمر ما أصيل ولا أعتني أبداً بأمر الحداثة باعتبارها منجزاً متحققاً. يعجبني أنني أتحرك في أفق المتخيل الذي يجرف كلّ ثبات وينبته باعتباره واقعاً. يبقى موضوع القيم مطروحاً على ضمير كل كاتب. لكن عن أيّ قيم نتحدّث؟ والقيم بذاتها متحوّلة بل ومتناقضة بين شخص وشخص ودين ودين. المطلوب من الروائي أن يكون له وعي بأهمية الحداثة، الوعي بالنسبة للكاتب ضروريّ، والحداثة التي هي مسار نحو الجدة والتغيير ضرورة قصوى.
الرّواية شأنها شأن القصيدة والمسرحيّة مجال للمسكوت عنه سيّما وأنّ أغلب النّصوص الأدبيّة تمرّ عبر مقصّ الرّقيب هذا الجهاز الذّي يعمل على حبس الإبداع وقبر الجرأة في قلم المبدع. فكيف ينجح الكاتب في تغطية هذه المساحات الممنوعة وتمريرها بين طيّات السّطور ليفلت من قبضة المقصّ وإعدام النصّ؟
- الرقيب يتعامل مع الجملة المباشرة، لكنّه يتردّد كثيراً حين يسلك المبدع طريقة غير مباشرة. المهم هنا ليس الرقيب وليس المنع. بل النصّ في ذاته وهو يكتب، كيف نكتب؟ ما الذي يجب أن نراعيه باعتباره قوانين ملزمة؟ هل هناك أمور على المبدع أن يتجنبها تماماً؟ أعتقد أنّ أيّ تنازل من الأديب عن حريته المطلقة هو نقيصة يجب ألاّ تحصل. وأحب شخصياً أن أكتب كما أفكّر، وأنا لا أفكر متقصداً أن أرفض، بل أن يصل نصّي إلى القارئ. أن يكون الكاتب حراً يعني أن يكون حراً بإطلاق، بالطبع تحقيق هذه الحرية في النصّ له طرائق متعدّدة جداً، والرقابة بشكل عام تتعامل مع المستوى الظاهر وأغلب الأعمال الأدبية العميقة تتحرك خارج المباشرتية الفجّة، وتمرّر داخلها أعوص القضايا بطريقة غير مباشرة.
تأثّرت الرّواية العربيّة بتقنيات الفنون البصريّة (الكولاج) والسينمائيّة (المونتاج) فانعكس ذلك سلباً على بعض المتون النصيّة التّي أصبحت تزجّ السياسي والصحافي والتّاريخي والوثائقيّ بشكل فوضويّ غير مبرّر في إطار مادّة يُفترض أنّها أدبيّة، فغاب النصّ الإبداعيّ وانغمسنا في النّشاز. ما رأي نصر سامي في ذلك؟ وهل الرّواية فعلاً فضاء يستوعب ما ضاقت به الفنون الأدبيّة الأخرى؟
- الرواية فضاء، تعبير جيد وعميق، ويعبر عن ما يمكن أن نسميه الهجنة، ليس هناك خطاب محدد نطلق عليه رواية دون سواه. أقصد أنّ الرواية لها أشكال متعددة حسب عدد كتابها الجيدين. هناك بالطبع نقاط اشتراك تصنع النوع وتحدده وتضبطه، لكن تلك الجزئيات المهمة المسبقة لا تلغي البعد الأجمل والأروع في الرواية وهو القدرة على الاحتواء. هي جنس مهجّن أي ليس صافياً أي خلاسي أي ناتج عن أكثر من أمّ.. ذلك هو تحديداً ما يحدد هويتها باعتبار قدرتها على استيعاب كلّ أنماط الفنون الأخرى دون أن تفقد نوعها. يكون السياسي عبئاً والتاريخي عبئاً والوثائقي عبئاً على الرواية حين يكون مقحماً وحين لا يدخل ضمن نسيجها باعتبارها مكوناً بنائياً وليس مجرد حشو. الأدبية لا تعني أن نقصر السرد على الحكايات البسيطة وحدها، بل الأدبية هي أن تحكي حكاية وتحكي بمناسبتها السياسة والتاريخ في مستوى المضمون. كما يجدر أن أقول إن الرواية استطاعت تدوير ورسكلة جميع العلوم والفنون واستعملت تقنياتها، كما استدرجت جميع مميزات الشعر والمسرح والسينما، وهي في نماذجها العليا تحوي الفلسفة وعلم الاجتماع، وتخترقها تناصات مرعبة واعية ولا واعية تجعل منها الفنّ الذي لا يضيّع موعه مهما انفتح على غيره من الفنون. شخصياً أفهم أن الرواية ليست مجرد قصة، وقصصي غالباً ليست تلك القصص المشوقة، لكن روايتي فضاء لتناصات كثيفة تشتغل مع بعض لتنشئ فضاء جمالياً مخيلاً وعميقاً ويدعو إلى التفكير.
كيف تقيّم مسار الرّواية التّونسيّة بعد ما حصدته مؤخّراً من جوائز عربيّة وعالميّة؟ وما هي الأسماء التّي تراها مؤثّرة في رسم المشهد الرّوائيّ في تونس؟
- الرواية التونسية تعيش فترة تعميق الحضور والنضوج. وفي السنوات الأخيرة حصل تراكم مميّز، وبدأت تظهر أسماء مهمة. وحصول بعضها على جوائز عربية مهمة (الشارقة، كتارا، البوكر) دليل على عمق ما هو بصدد الحدوث. لكن لا يجب أن يحجب ذلك حقيقة مهمة هي أن النص الروائي التونسي يتوفر على مدونات شديدة الدلالة على الرسوخ والفرادة بداية من الدقلة في عراجينها للبشير خريف وصولاً لبروموسبور لحسن بن عثمان أو الطلياني لشكري المبخوت أو حورية لحافظ محفوظ أو المشرط لكمال الرياحي، ثمثيلاً لا حصراً. تغيرت بعض المعطيات الآن، والمتن الروائي التونسي بصدد الخروج للعالم العربي.
هل من الصّحيح أن يُعمل المبدع النّاقد مشرطه النّقدي في جسد نصوصه ويحاكمها قبل أن تقع تحت طائلة القارئ؟ أم أنّ عمليّة الحذف والتّعديل بعد الكتابة تضعف النصّ وتجعله مشوّهاً؟
- أعمل بشكل متواصل قبل كتابة النص لجمع المعلومات والتخطيط لكل التطورات وأضع خطاطات شبه نهائية لبعض الفصول، وحين أبدأ الكتابة أشطب بشكل كبير، وأعدّل، وأترك فراغات للتعميق، وربما تمضي على الأمر فترات طويلة وهو غير مكتمل. لكنني إن أنهيت كتابته فإنني أنشره. هناك أمر لافت في تجربتي وهو أنني أكتب الشعر ورقياً، ولكنني أكتب السرد مباشرة على الحاسوب إذا كان متيسراً، لكن في كثير من الأحيان أعود إلى الورق. حين أكتب على الورق أشعر بأن نبضاً حقيقياً يربطني بالورقة، أكاد ألمس الزهرة التي فتحتها في البياض وألثم الفم الذي صورته وأندس في الحضن الذي كنت بصدد وصفه. الكتابة لعبة رائعة، شيء لا مثيل له، رحلة لن تنتهي أبداً.. بها وفيها وجدت مهمتي الحقيقية.