مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

د. نبيل المحيش: السرد الروائي قادر على استيعاب أجناس أدبية مختلفة

د. نبيل المحيش: السرد الروائي قادر على استيعاب أجناس أدبية مختلفة

حاورته: أسمهان الفالح:تونس


مهووس بالكتابة حد النخاع، مسكون أبداً بمطاردة الحرف، يتقصى ظلاله في شتى أرجاء البياض. يأبى الإقامة في المكان والزمان فيمنحنا بين الضمور والظهور حضوراً مائزاً تكتنفه أسرار ماتعة ناء بحملها سنين عددا. إنها اختمارات تجربة إبداعية طويلة ونتاج مراس صعب.
نبيل المحيش باحث أكاديمي، وقاص وروائي سعودي، خاض معترك الأدب مذ كان غضاً، وجرب مختلف فنون القول إلى أن استقر على الرواية، ورغم حداثة عهده في هذا المجال السردي إلا أن روايته الأولى الموسومة بـ(عاصفة على الشرق) قد أسالت من الحبر غير قليل، فانكب النقاد على دراستها، لطبيعتها الإشكالية في المقام الأول، واستكناهاً لدلالاتها وأبعادها المقاصدية والجمالية بدرجة ثانية، فهي نص بانورامي مخاتل، فيه يتقاطع التخييلي والسياسي، التاريخي والجغرافي، فالديني والأيديولوجي، يقتبس من فنون الرواية ضروباً ومحددات شتى، وينهل من مقومات المسرحية ضوابط وأشكالاً متعددة، ويستقي من المقال الصحفي أبجدياته. حتى ليتبدى لنا المتن الروائي ملحمة أجناسية تشكيلية أكثر منها سياسية أيديولوجية. ولتبديد الحيرة القرائية التي تتملك المتلقي وهو يجوس في ثنايا الرواية، كان لـ(المجلة العربية) لقاء مع نبيل المحيش وهكذا كانت إجاباته الكاشفة عن التجربة ووعيها وتاريخها:

ماذا يمكنك أن تستعيد لنا من أجواء البدايات؟ بداية التورط في الكتابة الروائية؟
- البدايات كانت الاطلاع والقراءة بالاستماع إلى إذاعة لندن والقراءة في المكتبة العامة في سن مبكرة في 14 - 15 من العمر، وبداية الكتابة كانت في المرحلة الجامعية حيث كتبت بحثاً ثقافياً حصل على جائزة عربية، ومقالات، وبدأت كتابة القصص القصيرة، ونشرت أول مجموعة قصصية لي سنة 1990 م، وثلاثة كتب ثقافية صغيرة، ثم نشرت بحثي الماجستير والدكتوراه، وهما كتابان نقديان أحدهما في الأدب السعودي والآخر في الشعر المصري الحديث.
رواية (عاصفة على الشرق) ليست رواية سياسية بقدر ماهي رواية تخييل سياسي تنأى عن الأسلوب السردي التقريري وتقرب الهوة بين الحدث والخيال وبين الواقع والممكن. وذلك لملء البياضات الكثيرة في النص السياسي الموروث. ما رأيك في ذلك؟
- لا أريد الدخول هنا في إشكالية المصطلحات ما بين الرواية السياسية ورواية التخييل السياسي وأترك ذلك الحكم للنقاد والباحثين، وبالنسبة لي هي رواية سياسية قائمة على التخييل السياسي، وأتفق معك على أنها نأت عن الأسلوب السردي التقريري ومزجت ما بين الحدث والخيال وبين الواقع والمتخيل.
انحاز نبيل المحيش إلى خطابات أيديولوجية وسياسية بعينها، فبدا عداؤه لبعض الأنظمة جلياً، ومساندته لغيرها معلنة، لتنتفي عنه بذلك صفة الليبرالية في عرض رؤى موضوعية. كيف تدفع عنك هذه التهمة إن صح التعبير؟
- من وجهة نظري أن الكاتب لا بد أن يظهر توجهه الفكري، إما بشكل مباشر أو من خلال تشكلات الحدث، أو من خلال التعاطف مع بعض شخصيات روايته، وأنا لا أخفي توجهاتي الفكرية المنحازة للأمة العربية التي تدين العدوان الفارسي والغربي على بلادنا العربية.
ألا ترى أن هيمنة الحوار على سائر أنماط الحكي في رواية (عاصفة على الشرق) يضع الرواية في مأزق حقيقي من حيث تصنيفها بنيوياً في إطار الكلاسيكية أو المعاصرة، فكل المؤشرات الأولية تدفع بها إلى أن تكون رواية الأصوات المتعددة (الرواية البوليفونية) نلمس ذلك من خلال تنوع الشخصيات واللغة والصيغ والأساليب والمواقف الفكرية والمنظورات السردية وتوظيف فضاء العتبة، إلا أن تدخل الراوي العليم في بعض المواطن وتحكمه في دواليب الحكي والحكي بغية التأثير على المتلقي المفترض بتمرير موقف معين وترجيحه سرداً وتحبيكاً وتخطيباً ينسف هذا البناء ويرجح أن تكون الرواية أحادية الصوت (رواية منولوجية)؟
- هذا ليس سؤالاً بقدر ما هو تحليل صحيح، فتعدد الأصوات هو الأنسب لسرعة الإيقاع والتركيز في مثل هذا النوع من الروايات التي تتناول عدداً كبيراً من الشخصيات وعبر فترة زمنية طويلة نسبياً من دون الوقوع في مستنقع الإيقاعات الزمنية البطيئة والتفاصيل الكثيفة التي تقع فيها الرواية الكلاسيكية، وهذا لب ما أشار إليه الناقد الروسي ميخائيل باختين صاحب مصطلح (تعدد الأصوات) بحيث يتناوب في الرواية صوت الراوي وأصوات الشخصيات، وهذا ما أصنف فيه روايتي، وهو ما يجعلها بعيدة كل البعد عن اللغة المنولوجية.
استوعبت روايتك أجناساً أدبية متنوعة، نثراً وشعراً وأغاني جمعت إلى التالد الطارف، وإلى العربي الغربي. فكيف أمكنك الدمج بين هويات متباينة وبصمات مختلفة دون أن يسم النفور المشهد؟ وهل هي دعوة ضمنية من الكاتب إلى التسامح ونبذ العصبية والتعايش بين مختلف الجنسيات؟
- السرد الروائي قادر على استيعاب أجناس أدبية مختلفة كالشعر وتوظيف الأغاني والأهازيج الشعبية وأنواع الثقافات المختلفة وهذا يثري العمل الأدبي إذا تم توظيفه في مكانه المناسب ولم يكن عبئاً على النص، أما الجزء الآخر من السؤال والخاص بدعوة الكاتب إلى التسامح ونبذ التعصب والتعايش السلمي بين الشعوب فهو واضح جداً ويلمسه القارئ من عتبات النص الأولى.
أزمة الشرق والغرب كيف يراها نبيل المحيش؟ وهل نحن بحاجة إلى إدوارد سعيد من جديد؟
- الشرق والغرب هل هما في صراع قديم جديد؟ هذا هو الواقع التاريخي والحاضر الجلي، ولكنني ما أزال أدعو إلى التسامح ونبذ الصراع بين الشرق والغرب وأنا أعول كثيراً على الشعوب لا على الساسة، فالسياسيون والقادة العسكريون يميلون إلى الصراع، أما الشعوب فهي الأقدر على فهم بعضها ومن هنا يأتي دور الكُتاب والمثقفين ورجال الإعلام والقوى الناعمة.. أما عن أجناس الكتابة الأخرى فسوف أنتهي قريباً من كتابة السيرة الذاتية، وخمسة كتب في أدب الرحلات، هذا إضافة إلى كتبي النقدية المطبوعة منذ سنوات.
كيف تقيم لنا تجربة جيلك من الروائيين السعوديين؟ وكيف ترى مستقبل الجيل الجديد الذي يحاول تأكيد مقترحاته وتطلعاته القصية؟
- هناك فرق كبير بين جيل الثمانينات والتسعينات وجيل الألفية الثالثة، فالأجيال السابقة كانت فيها الرواية على الهامش تقريباً، بينما يتسيد الشعر المشهد الأدبي، وعلى العكس تماماً الآن الرواية هي سيدة المشهد، أو ما عبر عنه جابر عصفور بزمن الرواية.. وأمر آخر الجيل المعاصر يعيش ثورة في الاتصالات، ومواقع التواصل الاجتماعي تتيح لهذا الجيل تحقيق الشهرة والانتشار، إضافة إلى سهولة عملية النشر وكثرة دور النشر الحكومية والتجارية، وهذا أوجد ثورة في النشر، ومن وجهة نظري أن الكم الكثير سوف يتولد منه الكيف الجيد.
بم تفسر ضغط المنتوج الأدبي السعودي شعراً ورواية وتصدره المشهد الثقافي؟
- المنتج الأدبي السعودي توفرت له أسباب ساعدت على التوسع، ومنها كثرة دور النشر السعودية والعربية، ووفرة المادة حيث يستطيع أي كاتب أن يطبع إنتاجه الأدبي بأمواله، والشهرة التي تحققها له وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام.
يرى بعض النقاد أن عالم السرد الروائي يعيش عصره الذهبي، فيما يطلق البعض الآخر مقولة (موت السرديات الكبرى) فمع أي الرأيين أنت؟ وهل ما تزال الفنون السردية محتفظة بقدرتها على الإدهاش والتأثير فعلاً؟
- من خلال متابعتي للمشهد الثقافي العربي من الشرق العربي إلى المغرب أرى أن السرد الروائي يعيش عصره الذهبي، وقد ساعد على ذلك الجوائز الكبرى التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة للرواية العربية، وما تزال الفنون السردية تحتفظ بقدرتها على الإدهاش والتأثير والتنوير في مجتمعاتنا وفي العالم كله.
هل ترى أن غوص الرواية العربية الجديدة في المحرمات (الجنس والسياسة والدين) موضة أم ضرورة؟
- في هذه المسألة أرفض الأحكام العامة، فهناك من كتاب الرواية العربية الجديدة من غاص في المحرمات فوظف الجنس توظيفاً مناسباً للحدث الروائي وتحدث في السياسة برؤية وتحليل وجرأة تناسب تسارع الأحداث السياسية التي تعيشها بلادنا العربية، وهناك كتاب على العكس من ذلك تماماً بحيث جعلوا الإثارة هدفهم الأول والأخير.
هل ترى أن النقد العربي يمر بأزمة حقيقية بسبب تأخره عن المواكبة، لذلك نراه قابعاً في ظلال الترجمة لما يحدث في الغرب؟
- النقد الأدبي في أزمة مستمرة في العصر الحديث ولا يواكب حركة الإبداع الأدبي ذات الإيقاع السريع في مختلف الأجناس الأدبية. ورغم العدد الكبير للنقاد سواء من الأكاديميين أو من غيرهم، فما زلنا بحاجة إلى دراسات نقدية معمقة تكشف لنا جماليات الإبداع وتجلي لنا المبدعين من الكتاب المعاصرين.

ذو صلة