مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

د. سعاد العنزي: الثقافة الذكورية المهيمنة ترحب بالمرأة مبدعة لا ناقدة

حوار: هدى عبدالله: الرياض


الدكتورة سعاد العنزي من الناقدات الكويتيات اللائي برزن في ساحة النقد الخليجي، بوصفها ناقدة تتمتع بالشجاعة والجرأة النقدية، وهي عضو هيئة التدريس في قسم اللغة العربية- جامعة الكويت. لها من المؤلفات: (صور العنف السياسي في الرواية الجزائرية المعاصرة) 2010م، (رواية المرأة الكويتية في الألفية الثالثة) 2013م، (الهوية العربية بين التخييل والواقع) 2017م. والعنزي كاتبة مقالات في الصحافة العربية والكويتية منذ عام 2008م. ولها عدد من البحوث المنشورة في كثير من الدوريات العربية. بالإضافة إلى ذلك فسعاد العنزي عضو تحرير سلسلة (إبداعات عالمية) التابعة لإصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون بدولة الكويت منذ عام 2018م حتى الآن.
حول كثير من القضايا المعاصرة في مجالي النقد والأدب في الخليج حاورتها (المجلة العربية) هذا الحوار:
الدكتورة سعاد، ذكرتِ في مقالة سابقة لك أن لغتك تغيرت بين بضع سنوات، وبما أنك ممن يعملن في الحقل الأكاديمي؛ فهل للغة البحث العلمي علاقة بذلك التحول اللغوي، وإذا لم يكن كذلك فإلامَ تعزين هذا التغير؟
- تقول الشاعرة د.نجمة إدريس في مقدمة كتابها (تتكسر لغتي... أنمو)، مبينة رأيها عن اللغة: (هذا العالم المتناثر في أحشاء الرهبة والوحشة، المنكشف على العري والجمال، والمنفلت كالبرية؛ كان كفيلاً أن يصدع العديد من الجدران والقلاع، ويحدث بعض الشقوق المباركة، التي أدخلت الشمس والأكسجين. وكانت لغتي أحد هذه الجدران).
وأنا من أولئك الذين يرحبون أيضاً بهذه الشقوق المباركة التي تحدث هذه التغيرات المطلوبة. فاللغة تتغير من خلال سنوات الخبرة والتجارب المتنوعة، واللغة جانب حيوي مهم، تغيرها مصحوب بتغير هوياتنا عبر التجارب الزمنية والمكانية، والقراءات اللغوية والنقدية المتعددة، والتعرف على تجارب مغايرة. كل ما سبق ذكره يسهم بشكل لافت بتغير لغاتنا بوصفها أحد مكونات هوياتنا. بالنسبة للغتي أنا، نعم تغيرت، وأنا متصالحة جداً مع هذا التغير. بدأت مقالاتي النقدية بصحيفة (الراي) الكويتية بلغة محملة بطاقات شعرية، لا تقتصد في المقدمة المدحية التي قد تتجاوز خمسمئة كلمة، أي نصف أو أكثر الجزء الأول من المقال، ولكن بعد مرور مدة من الدراسة في الخارج انتبهت إلى أن لغتي أصبحت تتخفف كثيراً من شعريتها وعاطفيتها لتنحو نحو المفاهيم النقدية والتركيز على الوصف المقتصد واللغة العملية الأكثر وضوحاً. وعند البحث أكثر عن الأسباب التي قادت لهذا التغير بالتأكيد سنجد أن لغة البحث العلمي ساهمت بهذا التغير كثيراً، ولكن لنلتفت لقضية مهمة وهي أن اللغة قد تحولت نتيجة لتحول التوجه النقدي، وطغيان الجانب العقلاني أكثر من الجانب الوجداني المتعاطف مع النصوص التي نقرؤها ونحبها وتشدنا عوالمها. اللغة ليست ثابتة بل تتأثر بالجوانب الفكرية والتجارب الحياتية، أو البعد والقرب من لغة معينة. نعم وقت الدراسة أنا ابتعدت عن اللغة العربية فغاب عن ذاكرتي المعجم العربي قليلاً، وأصبحت ذاكرتي اللغوية تعاني من قلة الدربة والممارسة، إضافة إلى أن كتابة البحث الأكاديمي تتطلب الدقة والوضوح والبعد عن المصطلحات المجانية، كل كلمة توضع في سياقها المناسب. وهناك قضية قديمة حديثة خاصة باللغة العربية المكتوبة في الأدب وهي الغنائية والشعرية التي تقول القليل بحيز كتابي أكبر، اللغة التي لا تقول الأشياء كما هي بوضوح، بل تتغنى كثيراً من دون نزعة عقلانية لافتة. كل هذه العوامل السابقة تجعلني معنية بمراجعة لغتي أكثر.
ألمحتِ في إحدى قراءاتك الاجتماعية النقدية: بأننا أبناء مجتمعات تؤمن بالانطباعات المسبقة، ولا تكلف نفسها عناء اكتشاف الصورة الحقيقية للشيء نفسه؛ مِمّ استنتجت هذا التصور؟
- نعم عزيزتي الأمر كذلك، ولقد استنتجته من ملاحظات عميقة للمجتمع الخليجي والعربي أيضاً، ولكن دعيني أتحدث عن المجتمع الخليجي كوني ابنة هذا المجتمع، وعندما أتحدث عن المجتمع الخليجي أعني: مكونات المجتمع بشكل عام، والجماعات الثقافية والأكاديمية بشكل خاص. المشكلة يا عزيزتي هي أن تقوم جماعة سابقة بصناعة صورة ما عن ظاهرة ما، شخصية ثقافية، حركة فكرية أو حزبية، فإن الأفراد يستمرون بالترويج لها وتأكيدها من خلال تكرارها، وتكرارها يضفي عليها نوعاً من الشرعية من دون قبول الطروحات الجديدة التي تعارض هذه الصورة أو حتى تقبل سماعها ومناقشتها. وهذا ما يقوله فوكو في نقده العميق للنظرات الثابتة:
(نعثر على مفاهيم مثل العقلية والروح، وهما مفهومان يبيحان النظر إلى بعض الظواهر المتأنية أو المتتالية في فترة تاريخية محددة، كما لو كان لهما معنى واحد وتجمعهما روابط رمزية تجعل بعضها يحيل إلى الآخر، ويلمها نوع من التشابه والتماثل. ويركزان على سيادة وعي جماعي، كمبدأ للوحدة والتفسير). هذا الوعي الجماعي المشترك هو ما يقلقني حقيقة.
انظري على سبيل المثال لأدباء الجوائز العربية الشهيرة، ستجدين صفات الألوهية والعملقة تحيطهم، وتمجد لهم، وتبجل أعمالهم، وتصبح أعمالهم عظيمة، حتى التيار المعارض لهم تجدينه حاداً ومتطرفاً برفضه لهم، وتسيطر عليهم رغبة قاتلة في الحط من هذا المنجز أو ذاك من دون إعطاء الطرف الآخر حقه وإنصافه. أحمد شوقي درسناه في المدارس على أنه أمير الشعراء بدون منازع، وهو لا شك شاعر عظيم، ولكنه من جانب آخر لم يكن أكثر من صدى للشعر العربي القديم لمجازاته وشعاراته الرنانة، وإن أبدع ببعض المجالات مثل الشعر المسرحي، وقصص الأطفال، ولكن من المفارقة أني أدرسه اليوم لطلبتي وهم لا زالوا ينظرون له بنظرة عاطفية حماسية حادة، وليس لديهم أي رغبة في تقبل أي نقد موضوعي لمنجز الرجل. لا أريد أن أكثر من الأمثلة، ولكن انظري للصور النمطية المكونة في كثير من المجالات الثقافية والسياسية والدينية، تعلمين كم نحن بحاجة لتغيير هذه النظرات الثابتة.
انتشر الأدب الرديء في الخليج باعتراف كثير من أهل الأدب أنفسهم، خلال العقد الحالي؛ فما الأسباب وراء تلك الرداءة؟
- هناك عدة عوامل لذلك، مثل: سهولة النشر والتوزيع، بسبب تساهل دور النشر والحرص على القيم الاستهلاكية بدلاً من معايير الجودة والرصانة، مع طغيان الثقافة الاستهلاكية المستشرية في مجتمعات اليوم. وكثرة النقاد المجاملين على حساب النص والحقيقة والواقع من أصدقاء الأدباء. إضافة إلى ذلك، عدم إحساس من يسمي نفسه كاتباً أو أديباً بالمسؤولية الأدبية والأخلاقية، مع الجهل شبه التام بطبيعة العملية الإبداعية التي تتطلب ثقافة واسعة وقراءة متعمقة للمجال والقضية الإنسانية التي يكتب فيها، مع غياب النزعة العقلانية التأملية العميقة اللازمة لتحليل الموضوعات المطروحة في النص. الأدب ليس عملية وصفية أو انعكاسية ولا حتى أدائية، بل الأدب الحقيقي هو تحليلي نقدي تأملي يسبر أغوار النفس الإنسانية، ويحلل بعمق وببعد استشرافي عميق جداً. نحن بحاجة إلى أمثلة حقيقية مثل بلزاك وكافكا. بلزاك الذي يقول عنه إريك فروم: (قراءة بلزاك أكثر فائدة لفهم التحليل النفسي من قراءة الكتابة السيكولوجية، وقراءة بلزاك تمرّن المرء على فهم الإنسان في التحليل أكثر من كل القوى التحليلية في العالم). نحن بحاجة إلى هذه النوعية النادرة من هؤلاء الأدباء العظام لكي تعمل على تحسين الذائقة.
استعملتِ مصطلح (أدب الهواة)، وحددتِ له سمات؛ فما هي سماته؟ وعلى من تقع مسؤولية توجيه هؤلاء الهواة؟
- أقصد بـ(أدب الهواة) هو الأدب الناتج عن كتاب هواة عاديين غير محترفي الكتابة الإبداعية، لا يحيطون بآليات كافية لاحتراف النوع الأدبي الذي يكتبونه، ولا يملكون الموهبة الكافية في الكتابة الإبداعية شكلاً ولغة وتقنية، فتجدينه أدباً مقلداً يبتعد عن الأصالة والتجديد، بل يكون مجرد ظل شاحب للأسلاف، هذا إن كان قرأ وفهم إبداع ومنجز الأسلاف.
أوليتِ أهمية للقراءة الصحية في الأجناس النقدية، وشددت على حاجة الأديب إلى إدراك مذاهب النقد ومناهجه ليتسنى له معرفة موقع نصه المكتوب بين هذا العالم المعرفي؛ لماذا يحتاج الأديب إلى الإلمام بالنقد؟
- الأديب الحقيقي هو مشروع تنوير فكري وإنساني، من خلال بوابة الأدب الرحبة. على الأديب أن يلم بالجنس الإبداعي الذي يكتب من خلاله، وتحولات الشكل الكتابي، وهذا لن يتأتى من دون قراءة النقد الأدبي الذي من خلاله سيطلع الأديب على الأشكال الإبداعية والتقنيات الإبداعية التي تساعدهم في اختيار التقنية المناسبة للفكرة الأدبية المطروحة. وحتى الموضوع الأدبي يحتاج فهماً وإدراكاً له من خلال المدارس النقدية، فإذا كانت الحكاية تركز على الآثار النفسية الناتجة عن صدمة ما، فلا يفترض من الكاتب معالجتها فقط من خلال تأملاته الخاصة ومعرفته القاصرة بالموضوع المطروح، بل يجب عليه الاطلاع الواسع على موضوعه ليكتسب ثقة قرائه بعمق ثقافته وأنه كاتب مسؤول. نحن بحاجة إلى وعي رصين بطبيعة الأدب، الأدب الذي يحلل بعمق النماذج الإنسانية والقضايا الاجتماعية والسياسية والدينية بنزعة نقدية تحليلية عالية، بدلاً من تقديم الرؤى التأملية الانطباعية. ولنتذكر مثال بلزاك السابق، وكافكا، وكوتزي الذين يرى بعض الباحثين أنهم أسسوا لخطاب ما بعد الحداثة أدبياً، وبوقت سابق لطرحها في النظريات الفلسفية ما بعد الحداثية. نحن بحاجة إلى كتاب على وزن بلزاك وديستوفسكي وجوستاف فلوبير، ونجيب محفوظ ومحمود درويش.. وليس كاتباً لكتب خفيفة الوزن كماً وكيفاً.
تقع كثير من الروايات الشبابية فريسة للتكرار في الفكرة بشكل خاص؛ من وجهة نظرك: أي أزمة تقف خلف ظاهرة التكرار إبداعياً؟ وبمَ تنصحين الروائيين الشباب لينجوا بأدبهم من عيب التكرار؟
- طبعاً موضوعة التكرار هذه تحتاج بصدق إلى مراجعة جادة لأسبابها وفهمها في ضوء الثقافة المنشئة لها. تحيل موضوعة التكرار إلى أزمة بنيوية عميقة، أشكال تكرر ذاتها بغية الحفاظ على البنية القائمة وعلى الوضع الراهن. لأن التجديد اختلاف، والاختلاف سنة غير محمودة عند المجتمعات الأبوية التقليدية. التكرار ناتج عن عقدة أوديبية أبوية تكمن في تقليد الأجيال السابقة، على اعتبار أنها قدمت أفضل ما لديها والعقل العاجز عن الإتيان بالجديد. نحن نعيش في العالم العربي، تلك الأزمة التي تحدث عنها هارولد بلوم بـ(قلق التأثر) كيف أن الأجيال اللاحقة من الشعراء وقعوا في فخ التأثر بشكسبير فما كان إنتاجهم إلا صدى لأعماله، وهذا ما يحدث لدينا الآن في الخليج، تختفي الهوية الفردية للمبدع ليتماهى مع هوية الأسلاف. كم كاتب وكاتبة وقعا في فخ التقليد لكتاب الأجيال السابقة، حتى في مقدمات الدواوين الشعرية نجد اقتباساً لشاعرة واحدة. ونجد على مستوى المضمون، كتابة عن فكرة واحدة، وشكلاً واحداً، مع التأكيد على أصالة المقلَّد وتبعية المقلِّد.
مع رداءة بعض الروايات إلا أنها تلقى إقبالاً كبيراً من القراء لاقتنائها؛ ترى ما الدوافع التي تجعل منها مادة منتشرة إلى هذه الدرجة؟ ألا تتفقين معي في أن تلك الروايات الرديئة تنتج قراء من نوعها، وبالتالي ثقافة رديئة تؤثر في ذائقة الجيل وتسيء إلى ذهنيته المعرفية والإبداعية فيما بعد؟
- لست متأكدة مَن ينتج مَن؟ ولكن أعتقد أن الأدب الرديء هذا لم ينتج إلا في وجود قراء استهلاكيين يستهلكون هذه الأعمال، ويروجون لها، وثقافة استهلاكية عملاقة أكبر لم تعد تعبأ بمعايير الجودة الإبداعية، ولا تعتني بالكتاب ولا بالقراءة. أما بالنسبة لهؤلاء القراء فهم قراء طفيليون على عملية القراءة والثقافة، يريدون أن يكتسبوا مسمى قراء ولكن من دون قراءة وجهد، يقرؤون قصصاً عادية شبيهة بالقصص اليومية المعتادة مكتوبة بلهجة عامية لا تتحدى معاجمهم اللغوية المتواضعة، وبالتالي يظهرون أمام المجتمع قراء يحملون كتباً من دون مضمون وفنجان قهوة للبرستيج الثقافي أمام الناس.
مع تغير أدوار المؤسسات الثقافية وتعدد اهتماماتها، بالإضافة إلى تعيين موظفين فيها، لا تبدو لهم اهتمامات بالأدب بقدر اهتماماتهم بالثقافة المعرفية المتنوعة؛ كيف يمكن صناعة أدب نموذجي جاد وتكثيف ترويجه ونشره؟ وماهي السبل المناسبة لإقناع المتلقين بالأدب الجدير بالقراءة والتلقي؟
- قضية التغيير تحتاج إلى وعي وإدراك جماعي مؤسساتي وشعبي بضرورة التغيير، لا بد أن تدعم المؤسسات الرسمية الثقافة بشكل عام من كتاب وقراء ببرامج تحفز على أهمية الكتابة والقراءة، وأن تمارس الرقابة المؤسساتية على الأعمال الرديئة وليس الأعمال الرصينة، ولا بد أن تنشر حملات التوعية بأهمية القراءة الجيدة الكامنة في قراءة الأعمال الجيدة التي تضيف لتجربتنا الإنسانية شيئاً مهماً، فما فائدة القراءة إذا تحولت لقراءة السخافات والتفاهات؟ وما أكثرها في وقتنا الراهن! أعتقد أن المسؤولية جماعية، ولن تقوم إلا باتحاد المؤسسات الثقافية الرسمية والشعبية كي يحدث التغيير المنشود.
ناديتِ بضرورة توافر النظرة الإستراتيجية للنص الأدبي لتحقيق الفائدة منه؛ ماذا تقصدين بالنظرة الإستراتيجية المفيدة؟
- الذي أقصده بالنظرة الإستراتيجية هو مسح الأدباء على أهم الموضوعات المطروقة في الرواية أو القصة أو حتى القصيدة، والتفكير في المناطق التي لم يتناولها زملاؤهم من الكتاب، لسد الفراغ الجمالي والإبداعي الحاصل في المشهد الأدبي. ما يلاحظ في الوطن العربي هو هيمنة ثيمات معينة على الرواية، من دون التركيز على ما لم يطرق أو بحاجة لأن يعرض من وجهة نظر جديدة. لا يعقل أن تكون الموضوعات متشابهة والأشكال متماثلة من دون نزعة للتجديد والتطوير. التمركز على قضايا معينة يجعلنا ندور في دائرة واحدة من التشابه والتكرار، ويقتل رغبة القارئ في قراءة المزيد من هذا النوع أو ذاك.
بالإضافة إلى القراءة المتعمقة؛ كيف برأيك يمكن أن تتطور اللغة الأدبية؟
- أعتقد من خلال القراءة المتنوعة للشعر والقصة والرواية قديمها وجديدها، والقراءة للدراسات اللغوية المتنوعة التي تنير بصيرة المبدع لاستخداماتها المتنوعة وتمثيلاتها للفئات والأفراد وهوياتهم وأساليبهم المتعددة. أيضاً على الأدباء أن يبتعدوا عن تقليد الأساليب الكتابية لكتاب مبدعين أكثر شهرة، وذلك من خلال الوعي الدائم بأساليبهم وتراكيبهم اللغوية، والمراجعة المستمرة للعمل المكتوب.
هل تعتقدين بأن قضايا المرأة الخليجية طرحت بشكل جدي في الأدب الخليجي بشل عام؟
- للأسف لا. تسير المرأة الكاتبة الخليجية في اتجاهين في كتابتها الإبداعية، الاتجاه الأول هو عدم الاكتراث بقضايا المرأة نهائياً، إما لأنها تريد جمهوراً أوسع، أو لأنها تنطلق من ظروف اجتماعية موائمة لتطلعاتها في الحياة، وبالتالي لا تستشعر بحساسيتها التعبير عن قضايا المرأة، لأنها تكون قد حصلت على حرية كافية لا تجعلها تعيش مضمرات القهر والحرمان. أما الاتجاه الثاني فهو اتجاه الكتابة عن قضايا المرأة، ونجد هنا أن المرأة تعبر عن قضايا تقليدية في الحب والزواج ونظرة الرجل لها، أو حرية الدراسة والعمل، أو عن بعض المفرقعات الفكرية مثل نزع الحجاب، وغيرها من القضايا الهامشية، متناسية أن المرأة يجب أن تقدم صوراً متعددة لحياة المرأة وواقعها ومتطلباتها الأساسية في الحياة، مثل الدراسة وتحقيق الذات، ومدى تقبل المرأة المفكرة والمثقفة في المجتمع الثقافي البطريركي، وتمثيل شرائح النساء اللاتي إلى الآن يعشن في بيئات اجتماعية متخلفة وفي دوائر مغلقة عن العالم الخارجي، يفقدن أبسط حقوقهن اليومية في وسط هيمنة ذكورية. حقيقة أجد مناقشة المرأة الخليجية المبدعة لقضايا النساء هامشية جداً، ولا يوجد عندنا تعدد في طرح الرؤى وتنوع في مسارات الكتابة الإبداعية النسائية الخليجية.
ما يزال اقتحام المرأة حقل النقد في الخليج يجيء على استحياء، وهو في الغالب نقد ثقافي بحت؛ فهل لذلك الأمر علاقة بانشغال الناقدة الخليجية واكتفائها بالبحث في الحقل الأكاديمي؟ أم لذلك علاقة بموقع المرأة الذي لم يزل حساساً في المجتمع الخليجي بشكل أو بآخر؟
- بقدر كبير: نعم، لانشغال المرأة الناقدة بالحقل الأكاديمي تدريساً وكتابة للأبحاث الأكاديمية من أجل الترقيات، إضافة إلى انخراطها في حياتها الأسرية ومتطلباتها الشخصية كامرأة في مجتمع خليجي محافظ له عادات وتقاليد تتطلب من الفرد منا أن ينخرط في المناسبات الاجتماعية، فنحن في الخليج لا زلنا نرى ضرورة الانخراط في العملية التعليمية والتثقيفية على حساب الواجبات الاجتماعية. إضافة إلى عدم إحساس المرأة بأهمية الكتابة الصحفية أمام كتابتها الأكاديمية، ولا حتى إحساسها بالمسؤولية تجاه الثقافة والمثقفين مما يعني عدم الاهتمام الكافي بمتابعة المشهد الثقافي.
ولا ننسى أيضاً أن الثقافة الذكورية المهيمنة ترحب بالمرأة المبدعة الشاعرة والروائية أكثر من المرأة الناقدة التي تشاطرهم ذات القدر من المسؤولية والأسئلة النقدية التي قد تكون بفكرهم الذكوري الإلهي حكراً عليهم، فلا يريدون للمرأة أن تنتزع عنهم بعضاً من قدسيتهم وصكوك ملكيتهم في إدارة الشأن الثقافي والفكري. إضافة إلى أن الكتابة الصحفية تقوم على العلاقات الثقافية، وهذا الأمر يصعب على المرأة أن تتمكن منه لطبيعة حركتها المقيدة في الملتقيات وغيرها، بينما النقاد هم أكثر حركية منها، ولديهم قدرة في تكوين علاقات جيدة مع المنابر الإعلامية المتعددة والوسائط المتنوعة للنشر.
كيف تنظرين إلى القصة القصيرة جداً؟ وهل أثر انتشارها على خفوت وهج القصة؟ وبماذا تفسرين هذا التناقض السردي المتراوح بين الرواية بطول تفاصيلها والومض اللحظي في القصة القصير جداً من حيث انتمائه الشكلي والنمطي لهذا الواقع المعاصر؟
- يجب أن ننظر لنوعية كل نص ونوعية كتاب وقراء النص والفضاء الذي ينتشر فيه، بالنسبة للقصة القصيرة جداً، رغم وجود محاولات مهمة ولافتة لها منذ عقود إلا أن انتشارها ووهجها وكثافة إنتاجها بدأت منذ تسعينات القرن الماضي، وبالطبع جاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتفتح المجال لانتشار فن (القصة القصيرة جداً). فيما يخص القصة القصيرة، أيضاً لا أعتقد أن القصة القصيرة جداً ولا الرواية أخذت من وهجها، فللقصة حضورها المهم والمهتمون بها، ويقاس هذا بعدد المجموعات القصصية الصادرة مقارنة بمجموعات (القصص القصيرة جداً). في العام الماضي ترأست تحكيم جائزة الملتقى للقصة القصيرة في دورتها الثالثة، وقد وصلتنا 197 مجموعة قصصية في مقابل عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من القصة القصيرة جداً، إضافة إلى بعض المجموعات القصصية التي تضمنت قصصاً قصيرة جداً. أنا أعتقد لكل فن الوسط الذي ينتشر فيه، ووسائل التواصل الاجتماعي زادت من انتشار القصة القصيرة جداً، ولا أقول تألقها؛ لأنها فن يحتاج التكثيف والإدهاش ورصد المفارقات الحادة، ولحظات التنوير القوية، وهذا ما لا يجيده الكثير ممن يكتبون هذا الفن للتسلية لا أكثر. أما عن المقارنة بين الرواية والقصة القصيرة، فأنا أتفق مع تحليل أحد الكتاب الطريف، وهو ما يلي:
القصة القصيرة كما يراها جرين جراهام هي شكل من الهروب من إمكانية العيش من شخصية روائية لسنوات طويلة حتى النهاية، الأمر نفسه الذي عانى منه جوستاف فلوبير بعد مدام بوفاري معايشته الذاتية لآلامها المدمرة. في المقابل نجد كاتب القصة القصيرة لا يرافق شخصياته، بل كما يقول جرين جراهام تكون علاقاته معهم أشبه بالعلاقات العاطفية العابرة، ولكنها ممتعة تكسب وهجها من قصر مدتها الزمانية. إذن، من الواضح أنه ليس تناقضاً بقدر ما هو تنوع، أنا ضد هيمنة جنس أدبي على آخر، ومع ذلك الفضاء الثقافي الذي يسمح بوجود وتوافر التفاعل مع جميع الأجناس، لدينا قراء يهتمون بالقصص القصيرة جداً، ونوع آخر يهتم بالرواية أو القصة القصيرة. هذه الأيام تنتشر الرواية بشكل متزايد الآن بسبب الجوائز وبسبب اشتغال الرواية على قضايا إنسانية معاصرة، وتفاصيل كثيرة تربط المجتمعات الإنسانية بتاريخها الشفوي الذي تحاول الرواية كتابته، وبالتالي ستكون هذه التفاصيل ترتبط بذاكرة المجتمعات الجمعية التي سمعوها من آبائهم وأجدادهم. أما القصة القصيرة جداً فهي فن يناسب أولئك الذين يحبون التكثيف والتجريد وتساعدهم الومضات على تقوية نزعتهم التحليلية والتأويلية، لقراء يحبون أن يأخذوا لب الموضوع، لقراء القطارات السريعة، والمترو، وتغريدات ما قبل النوم، فهي فن يساعد البعض على التعبير بلغة مكثفة تمكن من كتابة الأدب ولو بسطر واحد وجملة واحدة، أو تغريدة واحدة.
لك موقف علني من الشللية الثقافية التي تظهر بين جيل وآخر بمظاهر متعددة تتوافق ومرحلته الأدبية الراهنة، وها هي تتضح لدى الجيل الحالي من المبدعين الشباب، حيث يروجون بين بعضهم بعضاً لمواقفهم ونصوصهم ومنصاتهم ويتكتلون وكأنهم في عزلة ثقافية تامة، كما أنهم يروجون لأعمال أدبية من غير بلدانهم وهي في الغالب مترجمة؛ فهل هذا الوضع نتاج صدمة ثقافية سابقة أو عن كراهية ونفور من تلك الوصاية والأبوية والريادة التي كان الأدباء السابقون يمارسونها متجاهلين أدب الشباب؟ وهل يمكن أن يفسر الأمر على أنه خلل في الهوية والمواطنة والانتماء؟
- بالطبع، ومن المؤسف أن أقول إن المبدع العربي ما أن يرغب في الكتابة والنشر يدرك حاجته الماسة للشلة الثقافية التي تروج لأعماله، يواجه الكتاب منذ القدم مشكلة الاعتراف بأعمالهم الأدبية وبوجودهم وحضورهم الإبداعي. وهذه القضية بدورها تحيلنا لقضية سيكولوجية مهمة جداً وهي النرجسية والإيثارية، المثقفون بالنهاية بشر يخضعون لبعض المركبات النفسية المعقدة، فتكثر لدينا صور المثقف النرجسي الذي لا يحب أن يرى إبداع غيره يتصدر المشهد، وبالتالي هو يقوم بقضايا دفاعية تقلل من دائرة الضوء عن الآخرين، لتكون الأضواء عليه هو فقط. انظري لمن حولك من المبدعين ستجدين ثلة نادرة من تشير للآخر وتثني على إبداعات الآخرين، إلا إذا كانت بينهما مصالح متبادلة.
أما عن الكتاب الشباب فأنا أرى أنهم فهموا اللعبة جيداً بالذات في عصر الإعلام الإلكتروني الجديد، الذي سهل لهم مهمة أن يكونوا هم الإعلام الجديد بدلاً من توسل الوسائط التقليدية الرسمية في الظهور، وبالتالي هم ليسوا بحاجة إلى اعتراف من كاتب كبير مشهور، بل أصبحت الاعترافات تأتيهم على طبق من ذهب، فالكتاب المشهورون هم أقل حظوة في معادلة الإعلام الجديد الجائرة، وبالتالي يحتاجون إلى هؤلاء الشباب ليدعموهم في الوسائل وفي الظهور عبر منصاتهم الإبداعية.
أما من ناحية اطلاعهم الكثير على الكتب المترجمة، فهو يعكس رغبتهم بالاطلاع على أعمال عالمية لها شهرتها وذيوعها، وبدلاً من أن يقتدوا بالأب الإبداعي المحلي يختارون لهم آباء عالميين غير مختلف على إبداعيتهم واحترافهم. ولكن هؤلاء الشباب في النهاية يقعون في خطأ وفخ جديد يصنعونه لأنفسهم بأن يكونوا هم القادة الديكتاتوريين للمشهد الثقافي بعدم تقبلهم إلا لمن هو معهم أو يطبل لهم. إذن المشكلة تعود من جديد بصورة أخرى.

ذو صلة