عبدالرزاق بوكبة: نرحب بالمثقف الإنسان بديلاً عن المثقف المؤدلج
حوار : داليا عاصم
كاتب ومسرحي وناشط ثقافي فاعل في المشهد الجزائري والعربي، تجده كالرحالة من مدينة لمدينة ومن دولة لدولة، باعثاً الأمل في حراك ثقافي يغير من الصورة الذهنية للمثقف (المؤدلج) التي كُرست عبر العقود. عبدالرزاق بوكبة، صاحب العوالم القصصية المدهشة والمركبة، الباحث دائماً عن المعادل السردي لأناه المتخيلة بين الماضي والحاضر؛ التقته (المجلة العربية) في الجزائر للحديث عن مشروعاته، ومنها: (الجزائر تقرأ) و(المقاهي الثقافية)، وهي مشروعات لاقت أصداء واسعة في العالم العربي. ولم نغفل أن نفتش عما في جعبته من نصوص سردية تتحين الفرصة للخروج للقراء.. فإلى الحوار:
في البداية نودّ تهنئتك على نجاح تدشين جائزة (الجزائر تقرأ) للإبداع الرّوائي، ونجدك الآن بصدد تدشين جوائز أخرى في إطار مشروع المقاهي الثقافية. ما دوافعك وأهدافك لتعزيز المزيد من الجوائز الأدبية بالجزائر؟
- الكتّاب الجزائريون، يعيشون في مشهد يعاني تصحّراً في باب الجوائز، رغم توافر القدرة عليها والحاجة إليها، فهم يولّون وجوههم شطر الجوائز العربية والغربية، من غير أن تكون لبلادهم مساهمة تذكر في مشهد الجوائز. وما يوجد منها، باستثناء بعض المبادرات غير الحكومية؛ يعاني فقر دم واضحاً.
في ظلّ هذا الواقع، بادرنا في (دار الجزائر تقرأ) بجائزة في الإبداع الروائي، وقد نجحت، رغم بعض الأوحال والإكراهات، في تحريك مياه السّرد لدى مختلف الأجيال، وهي بصدد دورتها الثانية. ثمّ بادرنا في إطار مشروع المقاهي الثقافية بإطلاق نخبة من الجوائز في مختلف الحقول الأدبية والفنّية، هي: جائزة محمد بن قطّاف في الكتابة المسرحية، تبنّاها مالياً وزير الثقافة من خلال ديوان حقوق المؤلّف، وسنعلن عن جائزة محمد ولد الشيخ في نصوص الصحراء، وجائزة حيزية في الشّعر الشّعبي، وجائزة محمّد مصطفاي في نصّ المونودراما، وجائزة عمّار بلّحسن في القصّة القصيرة، وجائزة بختي بن عودة في الدّراسات الفلسفية.. وجوائز أخرى في الأفق.
من يموّل هذه الجوائز؟
- مهمّتنا بصفتنا نخبة مستقلّة تشرف على منابر ثقافية مستقلّة؛ أن نفكّر ونخطّط ونقترح ونبادر بما نرى أن مشهدنا الثقافي بحاجة إليه، والباقي على المؤسسات الشريكة في المسعى، سواء أكانت حكومية أم خاصّة. تبرئة ذمّتنا تنتهي عند عرض الجائزة في سوق الرّعاية بعد ضبطها ضبطاً يضمن احترافيتها ونزاهتها. فإن لم نجد تفاعلاً قرّرنا إطلاقها بالدّينار الرمزي، والاكتفاء بأبعادها الرمزية والمعنوية.
ما لفت انتباه الكثيرين أن مشروع المقاهي الثقافية، الذي كنت من المبادرين به مؤخراً، لم يعانِ من مشكلة الجمهور، مثلما يحدث لكثير من النشاطات الأدبية والثقافية؛ لماذا؟
- لأننا رصدنا جملة الأمراض التي بات النشاط الثقافي في الجزائر يعانيها، وقمنا بتجنبها. كيف ينجح ناشط ثقافي معين من غير أن يقوم بدراسة الوسط الذي يتوجّه إليه. وسأذكر ثلاثة منها، هي: التشبّث بالقاعة المغلقة كفضاء للنشاط، والتشبّث بالخطاب النخبوي المتعالي معرفياً، والتشبث بأحادية الفنّ، أي فن واحد في الجلسة الواحدة مما يجعل الاستقطاب أحادياً. فكان أن توجهنا إلى الفضاءات المفتوحة، حيث المتلقّي المؤهل للانخراط في النشاط، وتجنّبنا النبرة النخبوية المتعالية في مداخلاتنا من غير الوقوع في الشعبوية والابتذال، ونوّعنا في جلساتنا، بما جعلها وجبة متكاملة.
بهذا المشروع الثقافي المتشعب؛ ما الذي تسعى لتغييره في المشهد الثقافي الجزائري؟
- أشترك مع نخبة واسعة في نظرة تقوم على تجاوز مقام الشّكوى إلى مقام الجدوى، من خلال التحلّي بروح المبادرة والاقتراح لجرّ المؤسسات المعنية بالفعل الثقافي إلى تبنّي ما يجب أن تتبنّاه من مبادرات وتقاليد يحتاجها مشهدنا الثقافي. لقد عشنا عقوداً كان فيها برنامج قطاع واسع من النخبة المثقفة مقتصراً على انتقاد وزارة الثقافة، وكان هامش واسع من برنامج الوزارة الدّفاع عن نفسها، بما رسّخ واقعاً يقوم على روح الصراع لا على روح الإبداع، بينما نحن محتاجون إلى خطّ ثالث يقول: على النخبة أن تبادر، من غير أن تغادر مقام الجودة والحرية والنزاهة والدفاع عن الرهانات والأسئلة الجديدة، وعلى الوصاية أن تدعم من غير أن تسيّس ما هو مشترك ثقافياً.
ما بين الأنشطة المتعددة التي تقوم بها، والتنقل والترحال من مدينة إلى أخرى ومن دولة لأخرى؛ نود أن نعرف هل تكتب أثناء السفر أم حينما تحط الرحال في مكان ما؟
- أملك الوعي الكافي الذي يجعلني أفصل بين الناشط الثقافي والكاتب في شخصيتي. الفعل الثقافي والكتابة مشروعان مختلفان تماماً في منطلقاتهما وأدواتهما ولغتهما. وأيّ خلط بينهما لدى الشخص الواحد قد يجهض كليهما. خصوصاً مشروع الكتابة، لأنه حسّاس وصارم ولا يقبل العبث إلا من زاوية كون العبث حساسية فنّية. ثمّ إنّ هذا الوعي بطبيعة المشروعين لديّ يجعلني براغماتياً كبيراً، فأفيد كليهما من بعضهما بما هو مشترك بينهما مثل السّفر. أسافر لأشرف على نشاط ثقافيّ، وأتخذ من هذا السّفر في الوقت نفسه فرصة للكتابة.
ما الذي تعنيه لك الكتابة؟
- نادرة هي المرات التي نسأل فيها أنفسنا: ما الذي يعنيه لنا الشرب أو الأكل أو النوم أو الجنس، ونحن نمارس هذه الأفعال؟ لأنّها حاجة عميقة فينا، إلى درجة أن استمرارنا في الحياة مرتبط بها. إننا نمارسها قبل أن نعرفها/نعرّفها أصلاً. هل لاحظت الطفل وهو يمدّ فمه جهة ثدي أمّه دقائق بعد ولادته من غير أن يتلقى تدريباً في ذلك؟ ينتمي مفهومي للكتابة إلى تلك اللّحظة بالذات. وأرى كل انزياح عنها انزياحاً عن المفهوم الإنساني والجمالي والفلسفي والوجودي لفعل الكتابة.
أنت بهذا تنسف البعد الأيديولوجي للكتابة؟
- أرى أن الأيديولوجيا الوحيدة التي أنا ملزم بالانخراط فيها والدفاع عنها هي الحياة نفسها. بعد كلّ هذه الخيبات والخرابات، علينا كمجموعة إنسانية أن نرحّب بالمثقف الإنسان بديلاً عن المثقف المؤدلج.
هل تأتي مشروعاتك الأدبية المتراوحة ما بين الشعر والقصة والرواية والرحلة والسيرة والمقال الثقافي؛ وفق تخطيط مسبق للكتابة، أم أنها تأتي عفوية؟
- ما يحدّد هذا عندي عناق رائع بين الوعي والعفوية، مع الاحتكام إلى طبيعة اللحظة التي أعيش وأكتب.. مستغلاً كوني كاتباً حراً ليس ملزماً بأن يقدم خدمة ما لجهة أو هيئة أو مذهب أو حزب أو عرق ما. هل سبق لك أن عرفت شخصاً يملك سيارة وشاحنة ودراجة نارية وأخرى هوائية وحافلة ويختاً ومروحية وفرساً، فهو يركب هذه أو تلك انطلاقاً من مزاجه أو طبيعة المسافة والحمولة؟ الزيت زيتي والدقيق دقيقي والملح ملحي، والآكل المقصود بعملية العجن/الكتابة هو أنا، وما زاد عني فضل مني.
لكنّك في رواية (ندبة الهلالي) خضت مغامرة جريئة في السرد، تفتّحت فيها على ذوات كثيرة ولم تكتفِ بذاتك؛ أليس هذا تناقضاً مع طرحك السّابق؟
- أنا كاتب مرتبط باللحظة، لا مفكر مرتبط بالنسق، حتّى أحرص على ألا أكون متناقضاً. قد أتناقض داخل النصّ نفسه. مع ذلك لا أرى التناقض الذي أشرتِ إليه. تعدد الذوات الراوية في رواية (ندبة الهلالي) هو موقف سياسي يقوم على نبذ الراوي العليم، الذي نجده يتدخل حتى في التفاصيل الحميمة والعميقة للشخوص. وهي بنية سردية ممتدّة عن البنية السياسية الحاكمة. وأرى أنه من عدم الانسجام اعتمادها في سردي بالموازاة مع معارضتي للنظام/المنظومة. لا تستمدّ الكتابة موقفها من التصريحات الإعلامية للكاتب بل من داخل بنيتها.
تستلهم في كتاباتك أقباساً من التاريخ، وحتى الشخصيات نشعر بأنها ممزوجة بعبق تاريخي، لكنك تضفي عليه بعداً حداثياً وأحياناً ذاتياً؛ هل من الضروري أن يعود الروائي للتاريخ كمنبع للسرد؟
- وأنت تمسّدين على الأغراض التي خلفها جدك بعد رحيله لا تغادرين مكانك وزمنك إلى مكانه وزمانه القديمين. إنك فقط تثبتين انتماء يمنحك الإحساس بالراحة، وإلا صار الانتماء عائقاً، بالموازاة مع الانتماء إلى أغراضك الشخصية المنتمية إلى لحظتك: عطرك، أحمر شفاهك، قلادتك، مرآتك الصغيرة، حقيبة يدك. والسّرد عندي شغوف بالجمع بين هذه المقامات بعيداً عن الروح النكوصية. هل سبق لك أن استعملت سلّماً ميكانيكياً يسير بك؟ إنك في تلك اللحظة تستطيعين الالتفات إلى الخلف وأنت تتقدّمين إلى الأمام. وهي اللحظة التي إذا لم يستوعبها العرب راحوا ضحية اختلاط الأزمنة عليهم.
هل يساعدك عملك الإعلامي في تكوين مخزون غني للسرد؟
- أملك عقلاً شبيهاً بالمنشفة، تمتصّ كل السوائل من غير أن تفقد لونها. ذلك أن الكتابة معطى إنساني وليس معطى رياضياً. والإعلام الذي أمارسه امتداد لروح الكتابة، حتى أني أترك مسافة زمنية بين المقال والنص الأدبي حتى أسترجع تهيّئي للكتابة، لأنني أكتب المقال بالحرارة واللغة اللتين أكتب بهما قصة قصيرة أو قصيدة أو فصلاً من رواية.
في مجموعة (كفن للموت) التي صدرت عن دار العين في مصر، وكانت أكثر تجاربك حظاً في الترجمة إلى لغات أخرى؛ قدمت للقارئ وجبة دسمة تعينه على التأمل والتفكر في ثنائية الحياة والموت - الخلود والفناء. لماذا تكفين الموت؟
- هذا الخيار الأبدي للفنّان، أن يكفّن الموت. وبخاصة في هذه الفترة التي باتت جماعات الموت أقوى من الشعوب والدول نفسها، بغضّ النظر عن براءة أو عدم براءة علاقة بعض الدول بها. لقد صار الموت خطاباً وثقافة عامة في يومياتنا، أحياناً باسم القيم النبيلة فينا. وهذا مقام خطير ومرير، علينا تفكيك السياقات التي أدّت إليه. إذ أرى أن معظمنا ينفق جهداً ومالاً ووقتاً وأعصاباً في محاربة الإفراز؛ في ظل بقاء الغدّة.
قدمت للقارئ العربي جنساً أدبياً هو (أدب البيت)، من خلال يومياتك الفيسبوكية التي نشرت لاحقاً ورقياً في كتاب (يدان لثلاث بنات)؛ ما الذي في جعبتك منه حالياً؟
- ليس عدلاً أن أقول إنني سبّاق في هذا الباب. قد أكون متميّزاً فيه، لكنني لست سبّاقاً. مع تسجيل ندرته في المشهد العربي بحكم المخيال الاجتماعي المبرمج على التعتيم على كل ما يتعلق بالبيت، ثقافة الحريم. فالبيت العربي يفتح على الداخل لا على الخارج. وإذا كان سفر المرأة مشروطاً بمحرم، فكيف بالدخول عليها في البيت. أنا نفسي حين باشرت تجربتي في هذا الجنس الأدبي اصطدمت بإكراهات كثيرة داخل محيطي الصغير، لكنني تحدّيت الأمر وواصلت فيه حتى صارت بناتي الثلاث أشهر من بعض الكاتبات. حالياً أنا بصدد الدخول في تجربة ثانية سميتها (مسافر في البيت) أرصد فيها يومياتي مع ابنتي الرابعة (خيال) المولودة قبل أيام. وما يميز تجربتي في هذا الحقل كوني أمزج طفولتي في قرية (أولاد جحيش) مع طفولات بناتي.
حاولت ردم الهوة بين الشعر والقصة والرواية والنص المسرحي، لماذا لا يستعين الفضاء المسرحي بالرواية الجزائرية التي أثبتت نجاحها عربياً وعالمياً؟
- ثمّة تجارب في هذا الاتجاه. غير أن الأمر لن يتكرّس بشكل صحي، ذلك أن المبالغة في الاقتباس من الرواية خارج الدواعي الجمالية مضر بصحة الفن، إلا إذا توافرت أرضية تجعل حوار الجماليات ثقافة وذائقة عامتين. الفنانون في الفضاء العربي عموماً يتصرفون بصفتهم جزراً، مما جعل نظرتهم إلى بعض تقوم على الحكم الجاهز. قد تجدين كاتباً مكرساً لا يملك خلفية عن المسرح، ومسرحياً مكرساً يتعامل مع شعر رديء لأن ثقافته الشعرية ضحلة ولا تستمد عمقها من نظرة شاملة للفن.
ماذا عن المسرح الجزائري واقعه وآفاقه، ونحن نعلم جهودك في مجال الإبداع المسرحي وورش التدريب التي تعقدها؟ وهل هناك تصاعد في الاهتمام بالمسرح من قبل الأجيال الجديدة في الجزائر؟
- لن نغامر إذا قلنا إنّ المسرح في الجزائر ارتبط بالنضال في مفاهيمه المختلفة، منذ دخوله الفضاء الجزائري. وهو بهذا من الفنون التي لم تقع في المداهنة والمجاملة لسلطتي الاحتلال والاستقلال معاً. وأرى أنّ هذه الميزة هي ما دفع الحكومة مؤخراً إلى أن تكتفي بممارسة التقشف على مستوى حقل المسرح فقط. وعلى المنظومة المسرحية الجزائرية المستقلة أن تنطلق من هذا البعد النضالي لتتجاوز الوضع، بنضالها من أجل ابتكار نوافذ جديدة للانتشار والاستمرار، فأيّ وقوع للمسرح في مخالب السلطة سيشكّل سقوطاً لقلعة الثقافة الحرة.