د.شربل داغر: جزء واسع من تاريخنا السردي مهمل
د.شربل داغر: جزء واسع من تاريخنا السردي مهمل
داليا عاصم: مصر
يأخذك الحوار مع الشاعر والمبدع اللبناني الموسوعي شربل داغر إلى آفاق غير محدودة من التحليق في أفق الكلمة واللغة والشعر والرواية والنقد والفن. فهو مثلما يراوغ اللغة في قصائده، ويشاكس الشعر؛ فإنه يكسو إجاباته بحسٍّ إبداعي فطري يدهشه هو شخصيّاً، ويكشف له جوانب لم يكن يعرفها عن نفسه. فهو يؤمن بأن الحوار يطلعه على خبايا نفسه وذاته.
أطلقَ عليه النقاد رائد (ما بعد قصيدة النثر)، وهو يعتقد في خصوصية (القصيدة بالنثر) عن الشعر في تاريخها وأبنيتها وشعريتها. وهو بخلاف الكثير من الشعراء المعاصرين تتزايد مدونته الشعرية باطراد، إذ صدرت له عام 2019 مجموعتان شعريتان، فيما صدر له على مدار إنتاجه أكثر من 60 كتاباً بالعربية والفرنسية، ما بين الأدب والشعر والنقد والرواية. التقته (المجلة العربية) في القاهرة في حوار طويل محرِّض على الشعر وعن الشعر:
صدر لك مؤخراً في القاهرة مجلدان من المجموعات الشعرية، ولقيا صدى كبيراً. كيف رأى شربل داغر الناقد نصوصه عند العودة إليها وجمعها؟
- كنت متردداً منذ سنوات في إصدار أعمال شعرية جامعة لي، والسبب الأول أنني، في دراساتي النقدية، أنتقد إصدار الأعمال الشعرية (الكاملة) للشاعر، لأنه يصدرها وهو على قيد الحياة. الأمر الآخر هو أنني تعلمتُ من خلال عيشي في أوروبا لسنوات كثيرة أن الأعمال (الكاملة) تصدر بعد وفاة الشاعر، ويُصدرها نقاد يحققون ويدققون في شعره، ويَجمعون معارف مزيدة عن شعره وشخصه، بما يوثق ويؤكد تجربته. لذلك عمدت في السابق إلى إصدار (مختارات) من شعري، ولعدة أسباب. أولاً: لأن الكتاب يتنقل بصعوبة بين أنحاء العالم العربي ولا يصل إلى بلدان عربية أحب أن أتفاعل فيها مع نقاد وشعراء. هكذا صدرت لي (مختارات) سابقة في الجزائر وتونس ومصر. أما تجربة إصدار (مجموعات شعرية) تامة لي، فقد أتت فكرتُها من الدكتور هيثم الحاج علي، رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، في مناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس معرض القاهرة الدولي للكتاب. الفكرة راقت لي، وصدرت تسع مجموعات في مجلدين من دون مجموعاتي الشعرية الأخيرة.
هذه الأعمال عزيزة على قلبي، فهي وضعتني أمام امتحان: أن أعود إلى شعري كله وأن أفحصه بالضرورة.. لم أتضايق من قراءة شعري الأول، بل وجدتُ فيه أحياناً أموراً استغربت حدوثَها وورودَها في قصيدة. يرد، على سبيل المثال، لفظ (الحاسبات الإلكترونية) في قصيدة تعود للعام 1979. كما تنبهت إلى أمر آخر، وهو أن مجموعتي الشعرية الأولى، (فتات البياض)، التي صدرت عام 1981، اشتملت على نبذة مقتضبة على غلافها الأخير تفيد أنني أتذمر من (أسلوبية قصيدة النثر)، طالباً من الشعر التوجه صوب (كتابة متعددة).. وأنا أعد هذه المجموعات للنشر انتبهت إلى أنني اتبعت هذا المسار، بمعني أنني طلبت التجديد بصورة دائمة، وأنني اتجهت دوماً نحو فتح الحدود بين أنواع الكتابة.
هل هو مشروعك الكتابي؟
- تماماً، هذا ما أراحني بمعنى ما. وجدتُ، في هذه المجموعات المختلفة، إلحاحات المعنى، مثل: الوسواس والهاجس والرجاء؛ وجدتها تتردد في شعري، بل كان هناك شاغل أساس هو التعويل على التجديد وفتح النوافذ المغلقة بين أنواع كتابية. فالقصيدة بالنثر قابلة أن تستوعب هذه الأنواع والأساليب فتكيفها وتوظفها في تجديد القصيدة.
كيف تزاوج بين صرامة الباحث الأكاديمي وبين الكتابة الإبداعية؟
- الكاتب في نظري هو محترف كتابة، أياً كانت أشكال الكتابة التي يمارسها أو يرغب في ممارستها. الكتابة عندي ليست هواية بل باتت احترافاً. والاحتراف مثل أي احتراف آخر يقوم على مقادير من الانضباط ومن التقيد بقوانين اللعبة. في كرة القدم نلعب بأقدامنا ولا يسمح لنا اللعب بأيدينا بينما في كرة اليد نلعب بأيدينا ولا يسمح لنا اللعب بأقدامنا. الكتابة مثل أي فن، أي رياضة، أي ممارسة، أو سلوك إنساني. لدينا صورة رومانسية نمطية عن الشاعر بأنه الهائم، فيما الباحث هو الصارم، الجالس على كرسي.. هذه الصور ربما كانت تناسب مناخات أخرى في ثقافتنا القديمة. الباحث مثل الشاعر -على الأقل في تجربتي- يجلسان إلى الحاسوب، ويتعاملان مع الحروف ذاتها ومع جانب كبير من الألفاظ ذاتها. ما يختلف هو كيف يُقبل هذا وذاك على الكتابة وبأي قواعد؟
في البحث تمرست في قواعد كتابته وكتابة الأطروحات، وهي تعتمد على سلسلة من القيود والعقود ارتضيتُها، وعلى أساسها أمارس الكتابة البحثية، متوقفاً عند: المدونة، والمنهج، والسبيل التحليلي الإجرائي.. أما في الشعر، فالإقبال على القصيدة إقبال مختلف: أقبلُ على القصيدة بعكس ما يُقبل الشعراء. أتخيل بعض الشعراء -ساخراً- قبل أن يكتبوا القصيدة، يلبسون بدلة رسمية ويضعون ربطة عنق ويصعدون إلى منصة ويتمايلون أمام الجمهور (الوهمي) ويبدؤون بكتابة القصيدة.
أكتب القصيدة وأنا أمشي ولحسن الحظ أتوقف أثناء المشي وأدون. أحياناً أكتب قصيدة بكاملها أثناء المشي، وأحياناً بصحبتي هاتفي الجوال.
اعتبرت القصيدة بالنثر تمرداً على الشعر والقصيدة معاً، هل شربل داغر هو الذي رأى ذلك في أشعاره؟
- الناقد الذي فيَّ هو الذي لفت نظري إلى هذا الأمر. القصيدة بالنثر حسبما درست -وبدايتها فرنسية- نُظر إليها بوصفها جزءاً من تاريخ القصيدة وتاريخ الشعر. فشاعرها الأساس، شارل بودلير، كتب الشعر بالقافية والوزن وكتب القصيدة بالنثر. وهذا يصح في بدايات الشعر بالنثر في العالم العربي عند توفيق صايغ وأدونيس.. لكن تفكيري في هذه القصيدة نقلني وجعلني أنتبه إلى أن بناء هذه القصيدة وما سعت إليه هو نوع من التواصل مع ماضي الشعر، وأنها في الوقت نفسه خروج عليه ليس بالمعنى المتعارف عليه. أبو نواس مثلاً شاعر عباسي كتب القصيدة وخرج عليها، لكنه بقي في إطار الشعرية العربية القديمة. بناء القصيدة بالنثر اعتمد على أنواع أدبية لم تكن من معين الشعر، كالحوار وهو يخص المسرح والرواية. بودلير أدخل الحوار إلى القصيدة، وأنا أكاد أكون الشاعر العربي الوحيد الذي جعل من الحوار قصيدة شعر، ومنذ شعري الأول. في قصيدة بودلير هناك بناء سردي في أكثر من قصيدة.. وهناك أمثلة أخرى تُظهر أن هناك أنواعاً وأساليب كتابية أخرى دخلت إلى هذه القصيدة.
هذا ما فعلته في شعري، هذا ما وصل عندي، في عدد من نصوصي، إلى تغيير بناء القصيدة ككل. لدي مجموعة نصوص بدأت أكتبها منذ العام 2005 لا تشبه بناء القصيدة، إذ إن بناءها يقوم على حوار أشبه بالحوار المسرحي. ولهذا البناء الشعري، في عدد من نصوصي، مستلزمات الديكور والملابس والهيئة.. وغيرها، وهي ليست بمسرحية شعرية. هذا ثمرة الخروج، هذا ابتداع نصوص غير مألوفة وغير معهودة، لا في النثر ولا في الشعر.
كيف نصنف هذه النصوص؟
- أصنفها بأنها من الشعر، لأنها تقوم على مقادير قليلة من الإيقاع، ولكن على مقادير عالية من التخيل الشديد وتعنيف اللغة وتبديل أبنيتها، وعلى مقادير من التعابير الشعورية والانفعالية. كل هذه الصفات تتشكل في نصوص لها جمالية مغايرة. بهذا المعنى أصبح الشاعر مختلفاً.. هذا الكلام يلزمني أنا، ولا يلزم غيري من الشعراء بالنثر. وأقول إن القصيدة بالنثر خرجت على الشعر والنثر المتعارف عليه في الأدب العربي. وهذا ما يغويني فيها، ويجدد رغبتي في كتابة الشعر.
هل تعتقد أن هذا نتاج مرحلة ما بعد الحداثة، وتأثر الأدب والسرد العربي بشكل عام بها؟
- كلام صحيح، كتبت في أكثر من نص عن شعري عن أثر الحاسوب على القصيدة. هذا أمر تلقائي لدي على الأقل.
الأساس في هذا التغير هو موقفي مما يجري، منذ العام 1986 دخلت إلى عالم الحاسوب، حينما كنت في باريس. وهذا صدم أصدقائي، وبخاصة أنني لم أكن أتعامل قبل ذلك مع الآلة الكاتبة. تعاملت بإيجابية مع هذا العالم ومتفرعاته لدرجة أنني أصبحت أكتب شعري وأفكار بحوثي على هاتفي الجوال. كتبت ذات مرة مقالاً بعنوان (هاتفي الجوال مكتبي).
الأساس الذي تغير هو تفاعلي وتعاملي مع الزمن، وكيف انتبه لممكناته، وكيف أتعامل معها وأعبر عنها. هذه الطريقة تؤدي في أحوال كثيرة إلى تغيري الشخصي وعلاقاتي في الإقبال على الكتابة وأنواعها. في عدد من نصوصي ذات الطابع الحواري يحضر الهاتف الجوال والكاميرا والشاشة..
هذا زمننا.. لماذا نبقى غافلين عنه ونبقى في عالم سابق بالأحرى؟ أنا أؤيد الانفتاح على هذه المستجدات والوجهات التأليفية والتعبيرية. لولا هذا التفاعل لما كنت كتبت كثيراً من نصوصي كما خرجت إلى القارئ.
جمعت في أحد كتبك الشعرية بين ويتمان وبودلير ورامبو ونيتشه في بوتقة واحدة. ما الذي قادك لهذه التجربة؟
- هذا الكتاب خروج على المعتاد، وانتهيت فيه إلى غير ما كنت قد بدأت به. بدأت الفكرة بأن أكتب كتاباً عن الكتابة، وكنت أكتب عن نيتشه وكتابه (هكذا تكلم زرادشت).
أخذت معي الكتاب مثل رفيق رحلة: قد نتحاور، قد نتفق، قد نختلف، قد نتصادم، قد نتباعد وغيرها من الأحوال. أثناء شروعي في الكتابة حضرني ثلاثة شعراء هم: وولت ويتمان وبودلير ورامبو. كان ويتمان الأكثر غموضاً بالنسبة لي، ووجدت تقاطعات عديدة بينه وبين الآخرين، وهو ما أسميته الخروج من عهد الطاعة.
كان هذا الكتاب عبارة عن مجموعة كتب، كل واحد مخصص لصحبة شاعر من الشعراء الأربعة. في الكتاب تنوع شديد، تتماهى فيه سيرتي مع سيرة غيري، خاصة بيني وبين رامبو.. وهو صديق قديم لي في الشعر والكتابة منذ بداياتي.
لا نلاحظ التركيز على الأنا في كتاباتك بمعنى التمحور حول الذات، في حين أن الشعر يدور غالباً حولها؟
- هذا صحيح ويفرحني. فيه قصد وفيه طبع وفيه ثقافة تتعامل مع القصد والطبع وتثقلهما. أنا بطبعي إنسان محب للحياة وأتعامل معها بكثير من الشغف والنهم والنطنطة والبصبصة وكل الأمور التي تخرج عن المألوف الاجتماعي والتي تنتسب إلى عالم الطفولة وهو عالم طفولة مسموح به اجتماعياً لكنه حين يستمر عند الإنسان أو الشاعر يصبح أمراً مريباً عند الناس والشعراء.
في تصوري للشعر، لا أحب وظيفة الشاعر الخطيب الذي يقف على منصة ويقف لإطراب وتطريب الجمهور. هذا نحبه في الغناء كعرب. لا أحب الطرب في الشعر.. ولن يجدوا هذا في شعري ولا أكتبه. لذا أنا بالضرورة لست شاعراً منتفخ الشخصية متوهماً بقدرته. أتضايق من قراءة شعراء منتفخي الشخصية، وأعتبره مضاداً للحداثة، لأن الحداثة هي الإنسانية التي تساوي بين البشر، وتمد أسباب الشراكة والتفاعل بينهم.
لذا تجدين الغنائية ضعيفة في شعري، وإن ظهرت فإنها تتغنى بما هو ليس مطروقاً في الشعر العربي. أحياناً أتغنى بما يؤلمني ويصدمني وبما لا أجده في الحياة. بهذا المعنى، تدعوني القصيدة إلى أن أتأملها وأتأمل نفسي فيها، وأعبر فيها عن قلقي وتيهي وحيرتي، وعما يعذبني ويبهجني، وعن لذاتي الخاصة عن أحزاني الخاصة. فإن وجدت هذه التعبيرات صدى لدى القارئ، فهذه متعتي الخالصة، ولا أطلب أكثر. قصيدتي لا تطلب التصفيق، وصعبة السماع ومكتوبة بنفس كتابي وليس بنفس وزني أو سمعي أو تطريبي. هذا لا يعني أنها بعيدة عن العواطف والقضايا الكبرى بل تتناولها من موقع إحساسي الشخصي بهذه.
أعلنت مؤخراً عن قرب إصدار سيرتك الذاتية، والآن وأنت بصدد نظرة تأملية ومراجعة لهذه السيرة، هل ترى أن الشعر في حياتك نوع من التورط أوقعك فيه محمود درويش؟
- الشعر بالنسبة لي ورطة كنت أتهيبها وأتجنبها. هذا الموقف المتردد لازمني لسنوات وسنوات. إذ إن مجموع شعري صدر في العشرين سنة الأخيرة، ولم يصدر لي أي كتاب شعري بين (فتات البياض) في العام 1981 وبين (تخت شرقي) في العام 2000. ما عنى هذا توقفي عن الشعر، بل قلة إقبالي عليه. محمود درويش ورطني بالمعني النشري للكلمة فقط، وأصر على عرض (فتات البياض) على ناشر.. لكن الشعر لازمني طوال حياتي، وانطلق بعد العام 2000، وأصبح أشبه بالمياه التي تتفجر من مياهها الجوفية التي اختزنتها لسنوات وسنوات. هذا يفسر أنني نشرت أكثر من 13 مجموعة شعرية وأكثر من (مختارات) و(أنطولوجيات)، بين عربية وأجنبية، خلال السنوات العشرين الأخيرة.
صرحت بأن شعر أنسي الحاج لا يعجبك؛ لماذا؟ ومن يستميلك من الشعراء؟
- ما يؤسفني أن كلامي عن أنسي الحاج اقتُطع جزئياً. ما قلتُه وقصدتُه هو أنني حينما بدأت اطّلع على الشعر في بداياتي، صدر له كتاب: (ماذا صنعت بالذهب؟ ماذا فعلت بالوردة؟)، و(الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع).. في هذين الكتابين غنائية عالية وأنا لا أحبها في الشعر. قرأتُ، في سنوات تالية، أعماله الأولى، ومنها: (لن)، و(ماضي الأيام الآتية).. وغيرها؛ وأعجبتني للغاية. وإذا كان لي أن أختار شاعراً انجذبت إليه، فسأختار أنسي الحاج.
في عناوين دواوينك دلالات كثيرة عن العبور وعشق الرحلة بشكل عام، فما هي علاقة شربل داغر بأوجه المدن؟
- هذا سؤال يفرحني ويجعلني أتحدث عن جوانب حيوية فيما عشت وفيما أكتب. لي كتاب صدر بعنوان (في الهواء الطلق) ويتحدث عن علاقتي بالمدن التي عشت فيها. وهو يرتبط بطريقة عيشي وإقامتي في مدن مختلفة لاسيما في باريس طوال 18 عاماً. هذا عدا مدن كثيرة زرتُها أو أقمتُ فيها، هنا وهناك في قارات العالم. إلى هذا، اشتغلت في نهاية العام 1981، في مجلة (كل العرب)، وكتبتُ المادة الأساسية لبايها الافتتاحي: (كل الدنيا)، الذي كان يقوم على جولة مع صور ملونة في إحدى المدن.. فضلاً عن أنني كنت أنساق وأنجذب كثيراً لتصوير المدن نفسها.
أنت صاحب مقولة (للقصيدة حياة مزيدة)، مشيراً لعلاقة مع القصيدة أبعد من الحيز المكاني والاجتماعي للشعر. ما هي الأبعاد الأخرى التي قصدتها؟
- قصيدتي تقودني إلى عوالم لم أعرفها، عوالم من التخيل والمشاعر والأوضاع لا ألبث أن أتخيلها. أي تكون القصيدة حياة مزيدة وإضافية على حياتي. هذا ما يشدني إلى الشعر والذي أصوغه بقدر ما أكتشفه في الوقت ذاته. لذلك تمثل القصيدة تحديّاً وبيتاً من هواء وممرات في الفضاء.
أرى في ذلك رداً قوياً على من يدعون باختفاء وتراجع الشعر، أليس كذلك؟
الرواية تحضر بقوة في بلادنا وبلاد غيرنا. هذا يعود إلى الرواية، كفنٍ، بل إلى السينما والتلفزيون وحاجتها إلى مدونة سردية يعتمدون عليها في السيناريو. في الرواية قربى من العالم المعاش، وهي قريبة بالتالي من الجمهور. أما الشعر فطبيعته مختلفة.
لا يمكن أن نجري مقارنة بين الشعر والرواية، لهما كيانان أدبيان مختلفان وجماليات مختلفة. عالم التخيل والابتكار الشديد وعالم اللغة المنتقاة والمميزة هو عالم القصيدة؛ فيما تبقى الرواية هي أقرب إلى اللغة المستعملة أو اللغة المدروسة. وهما بالتالي عالمان مثل عالم كرة القدم وكرة التنس.. هذا الخلاف لا معنى له أبداً. حاجة الناس إلى الشعر حاجة موجودة ولو تراجعت مؤقتاً، وهي حاجة إلى الانفعال والدهشة، وتبقى ملازمة للعنصر البشري في أي وقت وأي زمان.
(أثناء القصيدة) أحدث كتبك، استلهمته من الناقد الفرنسي الكبير جيرار جينيت، وفي عنوانه دلالة على ترصدك للزمن، أليس كذلك؟
- هو كتاب فكري في الشعر، وهو عزيز علي، يعود إلى سنوات بعيدة. فأنا بقدر ما شغلتني القصيدة شغلني التفكير في الشعر وفي القصيدة. هذا ملازم لي، ليس في دراستي الأكاديمية بل في عيشي الأليف مع القصيدة وفي مختبر الشعر. كانت لدي حاجة قديمة ومستمرة وأنا أكتبه، وبعد أن أكتبه أفكر: ما الشعر؟ ما القصيدة؟ ما الذي يجعلني أنساق إليها كطفل ينساق إلى فقاقيع الهواء بدهشة الطفل وتفكر الإنسان الذي هو أنا؟ كيف ولماذا أتت وعلى هذا الشكل؟ هذا يفسر كثيراً من شعري الذي جعل من الشعر موضوعاً للقصيدة. كما أنني كتبت نصوصاً قصيرة أثناء كتابة القصائد تتحدث عن الشعر ومسائل الإيقاع والتخيل والانفعال والعالم الذي يبنيه. هذا الكتاب يجمع نصوصاً تعود إلى بدايات تجربتي الكتابية، وهذا الكتاب أعتقد أنه غريب في المشهد الشعري العربي والمشهد النقدي.
لا أكتب سيرتي الشعرية ولا النقدية، وهو قريب من النقد الشعري وبعيد عنه في ذات الوقت. يتوقف عند بناء القصيدة، ولكنه لا يدرسها بالحزم الأكاديمي، بل هو نوع من التنزه الفكري في حديقة القصيدة وفي بستان الشعر عموماً.
تركيبتي الشعرية والنفسية تظهر في هذا الكتاب، ولقد اخترت له عنواناً راق لكثيرين، وهو كلمة (أثناء) التي لها في العربية معانٍ متعددة، ومنها أثناء ما يجير في كتابة القصيدة أنقل القارئ في العوالم المحيطة للقصيدة ما فعلت فيها وما فكرت فيه. هو كتاب (ينضج) مع العمر، ما بين القراءة والكتابة، بين التفكر والتخيل، بين الوقوف في القصيدة، وبين النظر إليها من خارجها. هذا كتاب يبلغ خطته التأليفية مع بلوغ تجربتي الشعرية.
تغوص في أبحاثك في تراث السرد العربي وإرهاصاته الأولى، ما الذي يؤرقك تحديداً؟
لا يؤرقني، لكنه يحرِّضني..
ما استوقفني هو أن كثيراً مما هو مقبول ومطلوب في الدرس الجامعي للسرد العربي الحديث لا يستند إلى تاريخ سليم. قلة من الباحثين العرب، مثل الدكتور محمد يوسف نجم، توقفوا عند 60 سنة وأزيد من السرد قبل رواية (زينب). هذا ما جعلني أعود إلى هذا التاريخ والتدقيق فيه، فوجدت أن هناك مئات من الروايات صدرت غالباً في بيروت والقاهرة، ويظهر فيها بوضوح استنادها إلى مفهوم الحكاية العربية القديمة، من جهة، وإلى الرواية الأوروبية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، من جهة أخرى.
هناك من يقولون إن رواية (زينب) تتوافر فيها المواصفات الفنية للرواية، فنُسقط ما سبقها تماماً، كما لو أن تاريخ السرد يكتفي بالروايات (المكتملة) فنياً: كما لو أن للاكتمال -إن صح وجوده في (زينب) من دون غيرها قبلها- وصفةً ثابتة. فيما كتابة السرد، ولا سيما الرواية الحديثة؛ متغيرة..
أقول بكل أسف: إن جزءاً واسعاً من تاريخنا السردي سقط في الإهمال.. سقط من دون درس.
في مصر، كانت هناك عشرات المجلات قبل العام 1910، عام صدور (زينب)، التي تنشر الروايات المتسلسلة والمترجمة. وهذا ما ظهر في بيروت قبل ذلك.. وهو كمٌّ هائلٌ من المواد لا نجد اهتماماً بحثياً به قبل ثلاثين سنة إلا عند الدكتور محمد يوسف نجم.
في هذا السياق، حققت روايتين هما: واحدة لخليل الخوري في العام 1859 واعتبرها أول رواية عربية. ذلك أن البعض، مثل الدكتورة رضوى عاشور، اعتبرت أن (الساق على الساق) هي أول رواية عربية. لكن هذا الكتاب ليس رواية، هو في أحسن الأحوال سيرة ذاتية متخيلة وواقعية في بعض مناحيها للشدياق.
كما حققتُ رواية أخرى لفرنسيس مراش. الغريب أن له عملاً سابقاً عليها هو (غابة الحق) التي حققت وطبعت ونشرت أكثر من مرة، وهي لو قورنت بالرواية التي حققتها لبدت هزيلة بجوارها: (غابة الحق) مجموعة من المواعظ والمقالات حول التقدم والتمدن وفيها خيط سردي رفيع يربط بينها، أما الرواية التي حققتها، وتعود إلى العام 1872، فهي مكتملة البناء السردي.
عملي بسيط للغاية، لكنه يفيد أن هناك 60 عاماً سابقة على رواية (زينب)، ولا يعنى بها الدرس.
وماذا عن رواية (الحمار الذهبي) التي يقال إنها أول رواية في التاريخ كتبت في الجزائر -والتي لا نعرف عنها الكثير؟
- هذا يعكس قلة التفاعل والحوار بين الشعوب العربية. هناك إشكالية كبيرة بين ما ينتمي إلى القص الشعبي، وهو قصٌّ لم ينقطع في العالم العربي وبين ما ينتمي إلى الرواية بمعنى (novel Roman).
هناك خلط شديد في ثقافتنا بين المفاهيم السردية، سواء القديمة أو الحديثة، عدا أن مفهوم الرواية جديد، ناشئ في أدبنا.
كمبدع وناقد أحياناً، هل تعتقد في مقولة (موت الناقد)؟
- المشهد الثقافي عموماً هو مشهد النقد، وتبدل كثيراً في العقود الثلاثة الأخيرة. هذا يعود إلى جملة عوامل ذكرنا بعضها في الحوار بكل منطلقاتها ومتطلباتها. هناك العولمة بصورة عامة وكل منطلقاتها. وهناك قيمة الصورة التي تتعاظم والتي تتحول إلى صورة صادمة وعنصر جذب، هو الغرابة أو الصدمة الانفعالية لاستثارة المشاعر والانفعالات، والتي يعتقد البعض أنها فجائية بينما أعتقد أنها مبرمجة لأنك لا تصدمين إلا لأنك مبرمجة وفق طريقة أخرى.
النقد الآن يتبع مدرسة (الدراسات الثقافية). في بداية حياتي انتسبت إلى المدرسة البنيوية، وعليها عولتُ في أطروحتي الأولى. لكنني عولت فيها أيضاً على نظرية (الإرسال)، أو (التلفظ). واعتبرت، منذ ذلك الوقت، أن النظرية البنيوية ألزمت نفسها بحدود فلا تلتفت إلى علاقة النص بسياقه أو خارجه، وأسقطت بذلك المجتمع والتاريخ، واكتفت بالكلمة المكتفية بنفسها ولنفسها.
تنبهت، في بناء القصيدة، إلى أن هناك من يتكلم فيها، وأنه يتوجه إلى مخاطب، وأن المتكلم يتحدث عن ضمير غائب. وقلتُ لا يمكن لدارس القصيدة أن يغفل عن أن لها مبنى حواريّاً بمعنى ما.
هذا ما قادني إلى الجمع بين البنيوية وبين المدرسة التلفظية أو الإرسالية في الشعر. أشدد على هاتَين المدرستَين للسبب التالي: وهو أن قيمة البنيوية -الحاسمة في تقديري وعلى خلاف مع غيرها- تتعين في كونها تتولى درس النص بوصفه بناء لغوياً.. وهذا الأمر حاسم. ذلك أن النقد السابق على البنيوية كان يتعامل مع النص وفق منظور جزئي: ما الاستعارات في القصيدة؟ ما نوعها..؟
الشاعر قبل كل شيء هو بنّاء. علينا أن ندرس بناء قصيدة وفق ما هي عليه من تشكلات، ما يتجلى في وزن وإيقاعات وفي جمل نحوية وغيرها.
لهذا أقول: بأنه، مع الحفاظ على مكتسبات البنيوية والتي قدمت للنقد أدوات تحليلية ومقاربات صالحة؛ علينا أن نبني عليها وأن نقدرها ونعدلها ونغيرها. ما نعيشه اليوم هو نوع من الاستنسابية والتذوقية في النقد.
المؤسف أنه بينما تقوم الدراسات الثقافية في إنجلترا والولايات المتحدة على جهود طيبة وذات مصداقية أحياناً في بناء المنهج والتحليل؛ فإنها في بلادنا تحولت، في قسم كبير منها، إلى النقد الانطباعي والذوقي القديم، إلى ما قبل ظهور البنيوية. بات الناقد (الثقافي)، اليوم، يكتب نقداً من دون قواعد ولا منهج ولا طرق في التحليل نستطيع معها أن نستوقف الناقد ونفهم كيف بنى رأيه وعلى أي أسس، فنستعيده ونعارضه ابتداء مما يقترح من منهج وتحليل. أما مع الناقد الذوقي فهو يستذوق وحسب، ومن دون إقناع مدعم منهجياً.
لك تجارب في الكتابة الروائية، وفي رواية (ابنة بونابرت المصرية) نجدك تسائل التاريخ وتستنطقه. حدثنا عن هذه التجربة.
- الرواية بدأت معي مثل بحث، فما كنت أعرف قبل كتابتها أن هناك آلافاً من المصريين واللبنانيين والسوريين والأثيوبيين.. وغيرهم هاجروا من مصر بعد اندحار قوات بونابرت في حملته الشهيرة، وانتقلوا للعيش في فرنسا وارتُكبت بحقهم مجازر وقُتل منهم المئات. بدأت أقرأ حول هذه الفترة بدون غرض الكتابة، إلى أن وقعت ذات يوم على كاتبة فرنسية من مارسيليا عاشت تلك المرحلة وكتبت يوميات نُشرت بعد موتها بسنوات في مجلدين كبيرين فوجدت شخصية مثيرة للغاية بالمعنى الروائي والكتابي.. واستبد بي حماسي إلى أن سافرت إلى مارسيليا وزرت بيتها ونزلت في فندق يعود تاريخه للفترة نفسها، وقابلت المؤرخة الفرنسية التي نشرت مذكرات الكاتبة. وقابلت أناساً كثيرين وكشفت نصوصاً قديمة ووثائق. وجمعت مادة هائلة. ثم توقفت ما جدوى كل ذلك؟ هنا خطرت لي فكرة الكتابة حول هذه المجموعة البشرية.
هذه الرواية يختلط فيها كلام الكاتبة بكلامي، ولم أصرح بهذا بل تظهر فيه هذه السيدة وعبدالرحمن الجبرتي.. وغيرهم، بعد أن عدت إلى كم هائل من الكتابات والمعلومات في كل تفاصيل الحياة في تلك الحقبة.
عملت لسنوات بالصحافة وفي الحقبة الذهبية لها ومع عمالقة ورموز الثقافة العربية. كيف ترى الصحافة (الثقافية) تحديداً الآن؟ وبرأيك لماذا اختفت المعارك الثقافية الكبرى؟
- الصحافة عموماً والصحافة الأدبية بشكل خاص، عرفت بين بيروت والقاهرة وبغداد، لاسيما بين الحربين العالميتين؛ سجالات نشيطة ومغذية للفكر والنقد والشعر، وكان يتوكل بها أسماء كبيرة. المشهد تغير وأعتقد أن الجهود مالت إلى المجلات الدورية الشهرية والفصلية، وعرفنا معها أسماء أخرى كبرى اعتنت بمظاهر التجديد الأدبي والنقدي. الآن تغير المشهد تماماً، وتحول النقاش خارج الصحافة وخارج الدوريات إلى وسائل التواصل الاجتماعي. لهذا منافع ومساوئ في الوقت ذاته. المنافع هي اتساع رقعة السجال وشموله، إلا أنه يتسم -للأسف- بالتحزب الشديد و(الشللية) والتسرع في إطلاق الأحكام وغيرها. الغائب الأكبر في المشهد، طوال القرن العشرين، هو الكتاب الجامعي وكتاب الباحث. أرى الجامعات في العالم العربي تتراجع ويتراجع المستوى العلمي والمعرفي وتتراجع البحوث، وأعتقد أن في هذه البيئة بالذات ما لها أن تجدد النقد وتعطيه جدوى وفائدة مرجوتين.
لنقترب من شربل داغر الإنسان، ماذا يحب وماذا يكره -عدا الكتابة الابداعية؟
- أحب الحياة أكثر من القصيدة والكتابة، وإذا كان مِن دافعٍ لي في اتجاه الكتابة والقصيدة فهو من قبيل تجديد الحياة والإكثار من لحظات العيش في حياة أرغبها وأريدها وأطمع بها. لا أفهم إقبالي على الكتابة إلا بالقدر الذي تمكنني فيه من أن أقبل على الحياة. لا أعرف الضجر عدا أنني أكرهه كرهاً مميتاً. ولا أعرف أنني عشت لحظات أو أوقاتاً قلت فيها ماذا علي أن أفعل وما هذه الحياة الرديئة التي عشتها؟ أنا شخص يحب الحياة واللعب بالحياة ويحب العيش برغبة وبلذة في هذه الحياة ويبتعد بقدر المستطاع عن كل ما هو تقليدي ومكرر ورتيب ومستعاد في الحياة. أريد أن أقبل عليها مثل هدية. الحياة بالنسبة لي، هدية أعطيت لي وأريد أن أتنعم بها وأعيشها حتى النفس الأخير.
الكتابة تلقي بثقل كبير على المبدع خصوصاً الشاعر، فهل قابلت ذات يوم صدة كتابية؟
أحياناً تعصاني الكتابة ولا تنقاد إليَّ بسهولة، ولكنني أصبحت مع العمر والتجربة والخبرة أتوصل إلى إقبال ميسر على الكتابة ولكن بشرط -خصوصاً في الشعر- ألا أستعيد ما سبق أن كتبته. هذا ما لاحظه الدارسون لشعري، إذ إنني أجدد وأبدل بقدر ما تتبدل وتتعدل علاقتي بالحياة وبما أحب وأكره. لي مجموعة شعر جديدة ستصدر في الربيع المقبل من سيقرؤها سينتبه إلى أن لغتي فيها مختلفة جداً، وهي أقرب إلى اللغة المستخدمة في الفيسبوك وغيره.
بهذا المعنى يمكننا القول إنك روضت الكتابة؟
لا أحب كلمة ترويض مطلقاً، لأن الكتابة واللغة تهزمنا كلنا نحن الكتاب. الكتابة تقع أبعد منا، واللغة تشملنا وتتعدانا وتبقى بعدنا. وبالتالي أي كاتب لا يمكنه أن يقود الكتابة ويروضها بل يتدبر سبيلاً أو مسلكاً معها، وهي تتيحه وفق إمكانات الكتابة واللغة، والكاتب يبقى متضمناً في اللغة إن يجدد فيها.