واسيني الأعرج: الجائزة لا تصنع كاتباً بل تسمح للكتاب أن يصبح مرئياً
واسيني الأعرج: الجائزة لا تصنع كاتباً بل تسمح للكتاب أن يصبح مرئياً
حاورته: أسمهان الفالح: الإمارات
واسيني الأعرج ابن تلمسان الذي قال في روايته مملكة الفراشة: (نحن لا نصنع أقدارنا كما نشتهي، ولكن الحياة ترتب كل شيء في سرية تامة)، صنع لنفسه مملكة أدبية، ركائزها روايات كتبت بلغة شاعرية ونفس روائي معتق، ناقش الكثير من الموضوعات، فأعماله مفتوحة على عوالم التاريخ والحب والفلسفة، لذا كان غزيراً في إنتاجه، متجدداً في أعماله، التقته (المجلة العربية) في معرض الكتاب بالشارقة، فعاد بنا الأعرج بمرايا وأحلام وذكريات شديدة الخصوصية إلى الحكي، والنبش في أوراق العمر، وما أكثرها.. ليخط لنا جزءاً من سيرة لم تسعها دفات الكتب.
اعتنق واسيني الأعرج الحرف، فتعبد في محرابه، وبحث عن دفين أسراره بين دفات الأولين، ولم يأل جهداً في تجريب شتى فنون القول شعراً ونقداً وقصة. غير أنه لم يجد ضالته ومستقره إلا في عالم السرديات، فتميز إنتاجه بالغزارة والثراء في هذا المجال. فما سر انجذابك إلى جنس الرواية تحديداً؟ ولم عجزت سائر الأشكال الأدبية الأخرى عن استيعاب هواجسك ومشاغلك الفكرية؟
- بدأتُ قاصاً، وقضيتُ مدة من الزمن في كتابة القصة القصيرة، لأن نشر الرواية في ذلك الوقت سواء في الجزائر أو في العالم العربي عموماً كان أمراً صعباً، فقد تنتظر خمس سنوات حتى يرى وليدك البكر النور، بينما بإمكانك نشر القصة في الجرائد والمجلات. وقد كنت أعتقد أن نفسي قصصي بامتياز، إلى أن التقيت صديقاً عراقياً، وهو أستاذي في جامعة وهران، فقال لي: لم تقمع نفسك يا بني؟ إن نفسك في الكتابة طويل، فأغضبني رأيه كثيراً وقلت إنه لا يجيد القراءة. لكن وبعد فترة تأمل، اكتشفت أنه على حق، فكثير من القصص التي كتبتها يمكن أن تكون روايات، ولكنني عمدت إلى اختزالها حتى تستجيب وخصائص القصة القصيرة، بعد ذلك خضت تجربة الرواية، فاستقبل أول عمل لي بشكل جيد. وقبل الرواية جربت الشعر الرومنسي، إلا أني أقنعت نفسي بأنني لست شاعراً وطفقت أفتش عن نفسي بين مختلف الأجناس الأدبية.
نبه جورج لوكاتش إلى ضرورة (أن تكون الرواية أمينة للتاريخ، على الرغم من بطلها المبتدع وحبكتها المتخيلة). فإلى أي حد حرصت في روايتك (الأمير عبدالقادر) على أن يكون التاريخ آمناً ومتناغماً مع جماليات التخييل الإبداعي وغير منتهك ومتناقض مع مرجعه؟
- لابد أن نؤمن بأن الرواية التاريخية ليست هي التاريخ، لأننا في لحظة التسليم بأن الأمر سيان ننسحب حينها من العالم الروائي التخييلي لنضطلع بوظيفة التأريخ، وبالتالي سأكون مؤرخاً وروائياً فاشلاً. فالرواية التاريخية هي الرواية التي تأخذ المادة التاريخية وتشتغل عليها، بمعنى أن الرواية التاريخية غير منفصلة عن المادة التاريخية ملتصقة بها تحاول الالتحام بما هو جوهري. فمثلاً شخصية الأمير عبدالقادر لم تختلف كثيراً عن الشخصية التاريخية، لكن الاختلاف كان في مستوى الخيارات لا غير. فإستراتيجيتي ليست تكرار ما قيل عن الأمر. سؤالي كان: ماذا سأضيف لهذا الركام الذي قرأته؟ فأخذت زاوية نظر محددة، واشتغلت عليها (علاقة الأمير بالمسيحية، وهي علاقة موجودة تاريخياً، غير أنها مهملة)، ثانياً، كيف سأجعل من هذه العلاقة وسيلة تخييلية، لأن ثمة الكثير من الجوانب المسكوت عنها، مثلاً علاقة الأمير مع ضباطه، وفي الحروب نحن لا نعرف غير المادة التاريخية لأن ما يدور داخل هذه الحروب نجهله، وعلاقته بزوجته وما كان يدور بينهما من أحاديث لا ينقله لنا التاريخ. فاشتغلت على لغة الأمير وضمنتها في حواراته.
أصحيح أن البعد السيرذاتي يعد نوعاً من الترف الأدبي يمارسه الكاتب بفضل تجربة زاخرة أم أنها بوح وخلاص من المكبلات؟
- إذا تناولنا السيرة الذاتية كلحظة يريد فيها الكاتب أن يبوح بنرجسيته وأن يعلي من خلالها صوت الأنا ويضخمها، فتلك ستكون لحظة ترف فكري، لكني لا أتفق مع ذلك الرأي لأنني أؤمن أن السيرة الذاتية هي رواية أيضاً، ومثلي الأعلى في السيرة الذاتية هي (تقرير إلى جريكو) لصاحبه (نيكوس كزانتزاكي)، هذا الكاتب اليوناني العظيم الذي كتب سيرة ذاتية من أجمل ما يكون، ويوم كتبت (سيرة المنتهى)، تمثلت تجربته لأنني لا أريد كتابة نص يكرر ما قيل، بل أردت كتابة نص أسير فيه على هدي معلمي.
كثيراً ما نعت واسيني الأعرج نفسه بالهشاشة، ولعلنا لاحظنا ذلك في روايات (طوق الياسمين، ضمير الغائب، سيدة المقام...) التي تضمنت تلوينات عاطفية مختلفة اقترنت بشخصية مريم، وهي على ثباتها ذات أوجه لا تنتهي. فهل تتخطى مريم كونها مجرد شخصية استعارية إلى نقطة فارقة في مسيرتك الأدبية كان نتاجها هذه العناوين المتعددة التي جهدت أن ترمم فشلاً داخلياً لازمك سنين عددا؟
- لما قرأت (مدام بوفاري) اكتشفت هشاشة الإنسان وضعفه. سأل أحدهم مرة (فلوبير) كاتب (مدام بوفاري): (أنت تتحدث عن مدام بوفاري وتدافع عنها بشراسة فمن تكون هذه الشخصية)؟
فقال: (مدام بوفاري هي أنا). فاندهش لإجابته. أنا أيضاً حين قرأت هذا الكلام أحسست بدهشة، لكن لما قرأت هذا المؤلف، اكتشفت أشياء كثيرة أولها الهشاشة الداخلية للإنسان، وأمام سلطان اليأس تستبد بالإنسان حالة من الانكسار الداخلي قد تؤدي به إلى الانتحار مثلما حصل مع بطلة فلوبير (تزوجت من شخص لم يقدر جمالها وثقافتها، فعشقت بعد ذلك شاباً فاكتشفت أنه أسوأ من الأول، فعاشت على الكتب إلى درجة اليأس، وآل بها الأمر إلى الانتحار).
وهذه قمة الهشاشة لأن أخطر شيء على الإنسان أن يضيع بين طرق متعددة ويجرب كل الطرق دون جدوى. أنا أدور في هذا الفلك، فمريم هي أنا.. صحيح أن الشخصية موجودة ولها شبيهها تاريخياً، ولكن مريم في نهاية الأمر تجسد مشكلتي الداخلية، أحزاني، أفراحي، هي ليست بعيدة عني.
لم كان حضور الذات الأنثوية عموماً جامحاً متضخماً في سائر رواياتك؟
- أنا كبرت في مجتمع نسائي فورثت رهافة المرأة، فقد عشت مع أخواتي وعماتي وخالاتي، أما الرجال في تلك الفترة بما فيهم أبي فقد كانوا يعملون في فرنسا. فتعرفت على أسرار المجتمع النسائي عن كثب، وخبرت صنوف الظلم الذي يسلط على المرأة باسم الذكورة والرجولة. ومع الزمن تكونت لدي عاطفة عميقة تجاه المرأة.
هل كانت روايتك (ليالي إيزيس كوبيا) استجابة لجملة مي زيادة الشهيرة التي توجهت بها ذات يوم لجمهور قرائها: (سيأتي بعدي من ينصفني). وإلى أي حد ترى أن واسيني الأعرج أنصف (مي) واستعادها من النسيان بهذه المحاكمة الرمزية لكل من تسبب في مأساتها؟
- صعب أن أقول إنني أنصفت (مي زيادة)، هي محاولة لأنصف نفسي في نهاية المطاف، فحين يسلط الظلم على شخص معين ولا يسمع له أحد، فالقهر يكون أكثر وطأة على الشخص من الظلم نفسه. أنا سمعت صوت مي زيادة وهي في قبرها، فقد قرأت جملة لها هناك: (أتمنى أن يأتي بعدي من ينصفني) فشعرت أنني معني بهذا الصوت على الرغم من أنه لم تكن لدي فكرة كتابة الرواية مسبقاً. كانت زيارة القبر حافزاً لكتابة الرواية، فبحثت في قريتها وبلدتها وذهبت إلى فلسطين أين ولدتْ، واستغرق الأمر ثلاث سنوات، وزرت الجامعة الأمريكية واطلعت على وثائق كبيرة يمكن أن تفيدني في هذا المشروع، حتى إن الذين قرؤوا الرواية قالوا لي: (أنت كشفت عن أشياء كنا نجهلها عن مي خاصة علاقتها بابن عمها)، وكنت سأتقدم بشكوى مؤخراً كشاهد مدني في قضية مي زيادة في بيروت، فلم ينصحني المقربون مني بذلك.
كلما ازدادت قبضة الرقابة على الإبداع بحث الكاتب عن طرائق فنية جديدة يقول فيها كل شيء دون أن يفطن الرقيب إلى ذلك. فهل يمكن اعتبار الرواية أحد عوامل الابتكار الفني والابتعاد عن المباشراتية في الأدب؟
- قد يلجأ العديد من الكتاب إلى الرمزية لتمرير خطاباتهم، لكن أظن أننا وصلنا إلى مرحلة انتفت فيها الرقابة. صحيح أن العمل قد يصادر، بيد أنه مع الوسائل الحديثة يمكنك نشره على الإنترنت. فأساليب الرقابة لم تعد نافعة، والمنع يحفز الآخر على البحث عن الكتاب أكثر.
لماذا ظلت السينما الجزائرية بعيدة عن الرواية على عكس ما تعرفه السينما المصرية؟
- في مصر، لديهم صناعة سينمائية مهيكلة ومؤسسة، ولديها تاريخ طويل، وكانت الرواية ولا تزال رافداً من روافد السينما، أما في الجزائر فقد كرست فرنسا زمن الاستعمار صناعة السينما، ولكن حينما استقلت الجزائر أخذ الفرنسيون أجهزتهم وصناعتهم. فعمل الجزائريون على بناء السينما الوطنية ولو باحتشام، أما سينما الحياة أو السينما اليومية فلم تستطع الاشتغال على الرواية والمسرح نظراً للتكاليف الباهظة. ولكنهم اشتغلوا مؤخراً على أربع روايات وحولوها إلى مسرحيات، غير أن التجربة السينمائية في مستوى الرواية تبقى محدودة جداً.
انطلاقاً من تجربتك الذاتية هل يمكن للكاتب أن يصل بخيباته وفجائعه حد الرقص وسط ما يمكن أن نصطلح عليه بـ(الخراب الجميل)؟
- ليس ثمة خراب جميل.. السؤال كيف نجعل من لحظة الرماد والخيبة لحظة إيجابية نحو إنتاج نص متميز يقول هذا الرماد، ولكنه يتخطاه في الآن ذاته؟ هذا الإحساس تملكني عندما كنت أكتب (نساء كازانوفا)، وتختزل قصة رجل مقعد يشرف على الموت ويريد أن يتصالح مع نسائه الأربع، لوجود اعتقاد سائد بأن الرجل حينما يشرف على الموت ينبغي أن تسامحه زوجاته حتى يدخل الجنة، الأولى سرق لها مالها وبنى من خلالها إمبراطوريته المالية وصولاً إلى الأخيرة التي كان سيخطبها لابنه، إلا أنه اشتراها بماله فظلت رغم ذلك متعلقة بابنه. وأجمل لحظة انتقام عندما رزق بولي عهد وصدم بأنه ليس من صلبه بل هو ابن ابنه. فقبل أن يحولها إلى رماد حولته إلى حطام، قبل أن تنتهي حياته ويقضي بنوبة قلبية. هي ليست رواية انتقامية، ولكنها تضع الأشياء في مكانها الطبيعي رغم القسوة.
في أي خانة يصنف واسيني الأعرج روايات أحلام مستغانمي؟ وهل يمكن تصنيف النص الأدبي بمدى جماهيرية صاحبه؟
- أحلام قيمة أدبية لديها جمهورها الخاص الذي يقرأ لها وهم يعدون بالآلاف، لذا ينبغي أن يتم الاهتمام بها نقدياً باعتبارها ظاهرة لم تتكرر بعد.
ما تقييمك للرواية السعودية اليوم؟
- أثبتت الرواية السعودية في السنوات الأخيرة وجودها بقوة، يكفي أنها تحصلت على جوائز كثيرة من بينها البوكر في ثلاث مناسبات، وقد اكتسب الشباب حرية أكثر في الكتابة، فطرقوا مواضيع اجتماعية وسياسية حساسة من قبيل، الإرهاب والصراع بين الرجل والمرأة.
هل تصنع الجائزة الأدبية كاتباً؟
- وجود الجوائز مسألة مهمة كثيراً، وهي تصب في مصلحة الأدب باعتبارها تشجع الكتاب على التنافس النزيه، ولعل من أبرز تلك الجوائز، جائزة الشيخ زايد، وكاتارا، وجائزة السلطان عويس..
وفي المقابل، على الكتاب التعامل مع الجوائز على افتراض أن هناك لجنة محكومة بذائقة. فمن الخطأ، أن نشكك في مصداقية لجنة التحكيم بمجرد عدم الفوز. فقد كنت عضواً في الهيئة العليا لجائزة الشيخ زايد أربع سنوات، ولم ألاحظ ولو لمرة إخلالاً يحسب على المحكمين، فالنقاش يتم بشكل ديمقراطي والنتائج أيضاً موضوعية، وهذا ما أشهد عليه. لكن كل جائزة لديها رهاناتها وإستراتيجيتها وعلينا أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار. وعموماً فإن الجائزة لا تصنع كاتباً بل تسمح لكتاب بأن يصبح مرئياً.
لم أصبح النقد متأخراً عن الإبداع؟
- أصبحت (اللايكات) تعوض النقد، فقيمة الكاتب اليوم مرتهنة بما يحصده من علامات إعجاب على شبكة التواصل الاجتماعي، وإن هذا إلا وهم ومحض زيف، فهذه الإعجابات لا تعدو أن تكون مجرد فقاعات، والفقاعة لا تترك شيئاً خلفها، وهنا يكمن وجه الخطورة.