الفنان الفرنسي أوليفيه جاردين ألهمته الموضوعات الإنسانية
الفنان الفرنسي أوليفيه جاردين ألهمته الموضوعات الإنسانية
حاورته: آلاء حسانين: مصر
دشن جاليري بهلر بالقاهرة يوم الثلاثاء 18 فبراير معرضاً بعنوان: (جدل) لعدة فنانين عالميين، منهم الفنان الفرنسي (أوليفيه جاردين)، وخلال ذلك، كان هذا الحوار.
قبل عشرين عاماً، أغلق أوليفيه بيته على نفسه، وعلى ولديه المصابين بالتوحد، وعاش في عزلة اختيارية مدة عشر سنوات كاملة، عازماً على معالجة أبنائه بالرسم.
يحكي أوليفيه عن هذه المرحلة من حياته، بتأثر شديد، ففي معرضه الذي أقامه لأول مرة في القاهرة في جاليري بهلر، حمل معه من باريس إلى القاهرة، لوحات تتميز بثيمات محددة، يمكن ملاحظتها من أول وهلة.. حيث لمعظم شخوصه أعين شاخصة، أو نظرات محدقة للفراغ، للبعيد.. حتى لو كانت الشخصية مشغولة بشيء آخر، مثل مداعبة حيوان أليف، تظل عيونها شاخصة للأعلى. وعند سؤال أوليفيه عن شخصياته، من هم؟ وإلى ماذا يحدقون؟ وما الذي ينتظرونه؟ قال إنهم ربما ينتظرون الأمل، أو المستقبل، الذي لابد سيجيء محملاً به.
وعلى الرغم من أن أوليفيه رسم كثيراً نفسه، وزوجته، ووالديه، إلا أنه قال إنه يرسم الإنسان، في نفسه، وفي زوجته، وأولاده.. وهذا أكثر ما يهمه، بل هذا ما يمثله له الفن، فهو لا يرسم سوى موضوعات إنسانية، يمكنها أن تمس أي إنسان في العالم، فما يجمع بين البشر، أعمق مما يفرق بينهم، فالحزن والألم والحب واليأس والأمل، هذه موضوعات إنسانية خالصة، توحد بين البشر، مهما كانوا.
سألت أوليفيه عن طفولته، واكتشافه للرسم، وعن اللحظة التي قرر فيها أن يمتهن الفن بقية عمره.. وعلى الرغم من يقيني بأنه قد لا تكون هناك لحظة بعينها، إلا أني أحب طرح هذا السؤال، لربما تكون هناك لحظة، تبرق فيها عينا طفل، أمام لوحة، أو مقطع شعري، أو شعلة خافتة تضيء داخله شيئاً، ليركض بعدها إلى آخر العالم، وهو يقول: لقد وجدتها.
نشأ الفنان أوليفيه جاردين في حي بالفيل الباريسي، وهو حي يتميز بتنوعه الإنساني، حيث يعيش فيه أعراق وديانات مختلفة، وعبّر أوليفيه عن سعادته الشديدة بنشأته في هذا الحي، حيث تربى وسط أفارقة وعرب وطليان وصينيين، وهذا ساهم في ثرائه الإنساني، وجعله قادراً على التسامح مع جميع الناس، مهما بلغت درجة اختلافهم.. لأن هذا المزج بين الثقافات هو ما يرسم لوحة ثرية ونابضة للحياة، حيث لكل لون، لكل خط ونقطة، وحتى مساحات الفراغ، دور في تشكيل هذه اللوحة، واكتمالها.
رسم أوليفيه منذ سن الرابعة، كل ما وقعت عليه عيناه، وفي المدرسة، اكتشف فان جوخ، وكان أول فنان سبب له حالة من الصدمة، ثم بعد ذلك، بدأ باكتشاف العديد من الفنانين الذين أحبهم أيضاً، مثل سوتين، ومودلياني، وغيرهما.
فقد بدأ محاولاته برسم الوجه ومن ثم تعبئته بألوان مختلفة، وخلال مراحل حياته الأولى، كان أوليفيه منشغلاً برسم بورتريهات لفنانين مختلفين، بالإضافة لرسم موضوعات كلاسيكية، لكن الحدث الدرامي الذي قلب حياته، وجعله يهتم بالموضوعات الإنسانية، حيث صارت فيما بعد شغله الشاغل، هو إنجابه لولدين مصابين بالتوحد، حيث قضى معهما عشر سنوات محاولاً، ليلاً ونهاراً، أن يقوم بعلاجهما، مستخدماً الفن والرسم والألوان، إضافة للمحبة الأبوية، في أجل تصوراتها.
في لوحات أوليفيه، لاحظت تركيزه على ثيمة مهمة، وهي مسألة (تدوير الحب) فقد رسم طاقة الحب التي يتم تدويرها، الرجل يمنح زوجته حباً، تمنحه بدورها لطفل، أو لحيوان أليف تحاول ترويضه.
في إحدى لوحات أوليفيه، رسم رجلاً يروض حيواناً بأصابع عازف، وقد يكون هذا الحيوان المتوحش، هو المرض، بينما الرجل الذي يحاول جاهداً، أن يعزف على ألمه، ويروض حيواناً، خارجاً عن السيطرة، مستخدماً طاقة الفن والحب، هو أوليفيه نفسه. هل نجح أوليفيه في النهاية بأن يجعل شخوصه تنظر إليه؟ هل نجح، بعد عشر سنوات، أن يستعيد نظرات طفليه الشاردة، من على الجدران والهواء والأيام المجهولة؟ هو الذي، بألوان حمراء وصفراء وبرتقالية، حاول جاهداً، مثل من يلوح بعصيّ مشتعلة، أن يجعل طفلين صغيرين، هما طفلاه.. ينظران إليه وحسب.
أحب أوليفيه الموسيقى، وساعدته على تجاوز الأيام الصعبة، كما ساعدته علاقة الحب الوثيقة بزوجته، في الحفاظ على اتزانه النفسي، إذ إنه، بصفته معالجاً على وجه الخصوص، كان بحاجة إلى هذا الحب العظيم، ليتمكن بدوره من تدويره، إلى أولاده، وفنه، وإلى الإنسانية جمعاء.
خرج أوليفيه من عزلته بعد عشر سنوات، حيث تحسن ولداه كثيراً، وبدأ بعد ذلك، برسم هذه المرحلة، وأحضر معه إلى القاهرة، اللوحات التي يعتبرها بداية لتأسيس حقبة جديدة لديه.. فقد قرر حينها أن يرسم حالته هو، وما يخصه، مستعيناً بالدراما التي عاشها، والحزن الشخصي.
يقول أوليفيه: بعد تلك المرحلة، قررت أن أقطع المرحلة القديمة تماماً، وفعلت ذلك بحزم، كجزار يمسك بسكين ويقطع لحمه.. قررت أن أتخلص حتى من كل ما تعلمته، وألقي بالألوان بحرية، أتركها تندلق وتنسكب، وظللت لأشهر لا أعرف ماذا أرسم، حتى أدركت أنه من الممكن أن ينبثق النور من قلب العتمة، وأن الحزن والمعاناة العميقتين قد تخلق حالة فريدة، تجعل للفنان بصمته الخاصة التي يتميز بها، كما تسهل عليه التواصل الإنساني مع الناس. وهذا جُلُّ ما يريده شخصياً من الفن، فقد أوضح أوليفيه بأنه لا يرسم لأجل المال، ولا يهتم لأمره، فجل ما يريده أن يقبض على الحالات الإنسانية، ويتواصل عبر فنه مع الناس، ويستمر بالاستماع للموسيقى. وعند سؤاله عن مقطوعاته الموسيقية المفضلة، فقد قال إنه يحب الاستماع إلى الفنان اللبناني إبراهيم معلوف، كما أنه أحب أذان الفجر كثيراً حين قدم للقاهرة، بالإضافة إلى أن الغناء الصوفي في الجوامع والكنائس يجعله يعيش حالة روحية فريدة.. حيث تدفعه الموسيقى عموماً للرغبة في الخلق والرسم، والانجراف مع الفن إلى حيث يبحر أو يغوص.
يرغب أوليفيه بأن يرسم للأبد، ويمتن للفن كثيراً، حيث يقول: كنت شاباً صغيراً، مجهولاً، لا أحد يعرفني.. غير أن الفن قد فتح لي أبواباً كثيرة، حيث عرضت لوحاتي في أهم المتاحف بباريس، بالإضافة إلى أني أستقبل الحب من أناس مختلفين في جميع أنحاء العالم. ويرى أوليفيه أنه من المهم جداً للفنان أن يخلص للفنان، وأن يرسم بحب وشغف كبيرين، وكل شيء آخر، سيأتي إليه لا محالة.
وقبل ختامي لهذا الحوار الرائع، سألت الفنان الفرنسي أوليفيه جاردين عمّا يرغب به بعد، فقال، بعدما بكى بكاءً شديداً: لا أريد سوى أن أظل صديقاً للفنان عبدالرازق عكاشة، وقد كان الفنان المصري الفرنسي عبدالرازق، الذي جاء مع الفنان أوليفيه من باريس، وشاركا سوياً في معرض بعنوان (جدل) الذي أقيم في جاليري بهلر بالقاهرة، قد ساعدنا على إتمام هذا الحوار، من خلال ترجمته الفورية لأسئلتي وإجابات الفنان أوليفيه، وعندما سمع ذلك، بكى الفنان عبدالرازق أيضاً، وارتفع صوت بكائهما، واختتم الحوار بتنهيدات كثيرة.