سميحة خريس: الكتابة لحظات سعادة لا توصف
سميحة خريس: الكتابة لحظات سعادة لا توصف
حاورها: عذاب الركابي: مصر
سميحة خريس كاتبة مجربة من طراز رفيع، تكره السكون والمراوحة في مكان واحد، مبعث الضجر والخواء والترهل.. النص لديها كيمياء لغة فاتنة متفجرة، وطقوس لها قدسيتها كما الصلاة، وحلم آسر يصعب سجنه أو تأجيله كما الحرية، وكل هذا عدو للافتعال والزخرف اللفظي!
وهي تمتلك ترمومتر إبداعها السردي، وتتحكم في شخصياتها عبر لحظات رصد لا تخلو من مراوغة ومشاكسة، بل (مصارعة حرة) على حد تعبيرها، تستلذ أجواءها، ثمرتها الشهية الطعم الآسرة نص مثير مشاكس ومستفز بأسئلته!
سميحة خريس الكاتبة (الذات - الآخر) معاً في إبداع، ظل الفلسفة الموصول بشجرة شوبنهاور (أنا الآخرون). هي الجزء الحي المتجسد في الكل: (أدس في النص شظايا من كسر مرآتي الخاصة)..!
سميحة خريس.. الكتابة-حياة، الكتابة-حب!ولحظات الحب تمنح أنين الروح الخفي خلوداً. هي لا تخاف الحب، بل تخاف غيابه من حياتها. مبدعة تولد كتابة، وتعيش كتابة، وتعشق كتابة، موكب فرح، وطرب روح، وكرنفال سعادة باقية إلى أبد الأبد، ما بقيت الكتابة ولادةً، وحباً، وحلماً، وحريةً، وحياةً..!
صحافة وإعلام، قصة قصيرة، رواية، وكتابة سيناريو. مغامرة شاقة-عذبة، ما الأقرب إليك من فنون الكتابة هذه؟ وأعني أيها يجيب أكثر عن أسئلتك الروحية - الإنسانية؟
- منحني العمر متسعاً للعب في كل الساحات، لقد تجاوزت الستين، إنه عمر مديد لا بد من تأثيثه بالتعريج على كل البساتين، دفعتني نفسي التواقة إلى المغامرة، ورغبتي الملحة في البحث والتجريب إلى ارتياد صنوف كثيرة، لعلي كنت في البداية أبحث عما يليق بقدراتي وتجربتي، ثم بت أنصاع لشروط المرحلة، وأحاول التأقلم على فنون أقدر على نقل الرسالة وإشاعة الخطاب، كتبت ما ظننته شعراً في مرحلة المراهقة لأني كنت أظن بكل سذاجة أن الأدب هو القصيدة وحدها، ولأن قصائدي كانت عرجاء لا تعرف انتماء إلى النوع التقليدي أو ما اجترحه العالم من شعر النثر أو التفعيلة، انتقلت بسرعة إلى القصة القصيرة، هناك كنت ألملم حكايا صغيرة تطلع لي من زوايا الحجر أو ملامح الناس، كما أحاول تحميل النص دراما الحدث متمسحة بلغة أقرب إلى الغنائية، لكني طلعت من تلك المرحلة باكتشاف انتمائي الحقيقي إلى الرواية، حبي للإفاضة حين أكتب الحدث، رغبتي في نبش المخفي من طبيعة البشر، إمساكي بتعقيد العالم من حولي مما يجعله مادة فريدة للفن، نعم الرواية أقرب إلى روحي وأنسب لقدراتي، حتى عندما كتبت السيناريو المرئي والمسموع معرجة على المسرح، كنت أفشل في الهروب من تقنيات الروائية، ولعل الأخير أنتج تحت إلحاح رغبتي في تجريب صنف يلاقي رواجاً جماهيرياً ويترك أثراً مباشراً في الناس.
ثلاث مجموعات قصصية فقط، وكم هائل ست عشرة رواية.. لماذا كل هذا الاهتمام والحب للرواية؟ أهو (زمن الرواية) كما يروج النقاد فعلاً؟
- لا أفاضل بين نوعين، ولا أرجح كفة نوع أو أصغر آخر، الأمر كما أسلفت، أن هناك ما يناسب طبيعتي، ما يتسع لكل الفوضى والتعقيد التي تمخر عباب ذهني، لهذا ترجح كفة الرواية عندي، أحياناً تندفع القصة مطالبة بالجلوس إلى المائدة، لا أدفعها، أدخلها في النص الفضفاض الكريم القابل لكل الفنون إذا ناسبت ذلك، أو أحتفظ فيها على حدة، حتى يصير لدي عدد من القصص تصلح مجموعة أدفعها للنشر، قلت مرة إنها فتافيت تساقطت من عباءة الرواية عندي، وقد تكون الكون بأسره لسواي. وأنا لم أكتب الرواية وفق ما يروج له النقاد بأنه زمن الرواية، لقد كتبتها في سن مبكرة استجابة لنفسي، وقبل أن أقرأ كلمة في النقد والتنظير، ولكن لدي تفسير استوى وتشكل بعد سنوات من التجربة، تصور يشرح لي على الأقل سبب تسيد الرواية، ذلك أننا في أواخر القرن العشرين كنا نروج للحديث عن عصر السرعة ونظرية (الساندويش)، إلى الأكل السريع والقراءة السريعة، كانت هذه محاولة لتسييد القصة القصيرة فناً يناسب العصر. فإذا بالسوق يخالف توقعاتنا وينحاز إلى الرواية، اسأل الناشرين عن الأمر، أعتقد أن كل الأزمنة وهي تتغير والمراحل وهي تحترق تدفع الروائي للوقوف على مفترق طرق على علو كاشف، متأملاً ما فات، متفحصاً ما يعيشه، ماداً رؤيته إلى ما آت، مستشرفاً العالم من مسافة معقولة، ملتصقاً به في ذات الوقت. هذا الإجراء يطلب نصاً زخماً محملاً بالحياة بكل عناصرها، وتلك هي الرواية، ليس أنه زمن الرواية، بل هي رواية هذا الزمان.
يرى العبقري ماركيز أن القصة القصيرة كالسهم في الهدف، والرواية أشبه بوضع قوالب الطوب في البناية.. مارأيك بهذا الفرق؟ هناك من يرى أن القصة القصيرة أصعب.. ما رأيك؟ لماذا الرواية فضاؤك الأرحب؟ أهي مساحة البوح الأعظم؟ أم أن لقب الروائي هو الأكثر حضوراً وأناقة؟ أم ماذا؟
- لعلي أجبت جزئياً عن هذا السؤال، وأظن ماركيز العبقري وصفه بدقة، نعم إذا لم تنقلك القصة إلى الهدف بسرعة السهم المنطلق، فإنها انزياح إلى الرواية في غير مكانه، لا تحتمل القصة الثرثرة والتفاصيل، وهذا ليس أمراً سهلاً، أنا رغم إدراكي لهذه الخاصية وربما بسبب من طبيعتي (الروائية) وقعت فيه في بعض القصص، بهذا المعنى نقول إن كتابة القصة ليست أمراً سهلاً، والذين يستسهلون وهم كثر، (حكواتية وهواة)، ذلك لا يعني أن كتابة الرواية أسهل، فشروطها عسيرة ومطباتها خادعة، لنراقب ما تلفظه المطابع كل يوم من الروايات والمجموعات القصصية السقيمة لندرك خطورة الأمر، الفن كله مخاض عسير، وبقدر ما أدعو إلى العفوية في اتيانه أدعو إلى الاحتراف في تشكيله، واحترامه كما احترام المتلقي.
الشخصيات الورقية بورتريه، صورة فوتوغرافية لشخصيات في الواقع؟ كيف علاقتك بشخصياتك الورقية؟ تتدخلين فيها كثيراً؟ تتحكم في رؤاك؟ هل هي النموذج الأقرب لشخصيات قابلتها وعرفتها في الواقع؟ أم الخيال الصانع الأمهر لها؟
- الصور الفوتوغرافية تلتقط ما تيسر لعين الكاميرا، وقد تكون هناك لقطات عبقرية ترصد التماعات في الروح عبر نظرة أو حركة أو تشكيل جمالي، لكن الشخصية الروائية معقدة، لا تكتفي بالمشهد الذي يبدو للنظر، ولا بالحكاية التي تصنع الشخصية، بل يجب أن تغوص في كهف عميق لتلك الشخصية. ورسم الشخوص في الرواية متعة خاصة بالنسبة لي، إنها فسيفساء الإنسان التي ألعب عليها، وفي هذه الرحلة العجيبة أكتشف إمكانيات مذهلة للشخصية المكتوبة، نعم أريد فرض خط سيرها، ورؤاها، وأتعامل معها كما لو كانت دمية في مسرح العرائس، لكنها تنبعت من ركام الحروف في محاولة لتتشكل لحماً ودماً وإرادة مستقلة، تدفع بالحدث إلى حيث لم أتوقع، تشاكسني، تفرض منطق نموها الخاص داخل النص. وفي عمل روائي وظفت تلك المصارعة الحرة التي تحدث عند الكتابة لأنجز رواية (خشخاش) التي تتعرض للصراع بين الكاتب والمكتوب، وتحيل إلى معنى فلسفي أوسع وأعمق من الظاهر، حيث كلنا مكتوبون. لكن حتى لا يأخدني الأمر إلى مبالغات أعترف أن الخيوط النهائية في يد الكاتب، إنها صنيعته الفذة التي منحها من روحه.
في كتابه (الإنسان العابر والأدب) يقول آندريه مورو: (إن الأدب بمجموعه متخيل). ويقول مويان: (الروايات يجب أن تكون خيالية خلابة). والسرد واقع-الخيال، والخيال-الواقع، وفي روايتك الأخيرة (فستق عبيد) مزاوجة رائعة بين الاثنين.. كيف تم ذلك؟
- في روايتي (فستق عبيد) كما غيرها من أعمالي، كنت أتخيل عوالم خاصة وشخوصاً جديدة وأحداثاً، ولكنها لا تنفلت من الواقع، إنها تسكن في المدن التي أعرفها أو أتمناها، وتنصاع للقوانين التي وضعها البشر أو تلك التي يجب أن يضعوها، وتتحرك بموجب المنطق الذي يمكن فهمه أو مخالفته، لا شيء ينفلت عن الواقع أو عكسه، العكس أيضاً واقعي. حتى في رواياتي التي عمدت فيها إلى شيء من الفنتازيا مثل (الصحن) و(نحن) و(خشخاش)، فإن تلك المخلوقات التي تقع لها أحداث بعيدة عن المنطق، تحاول الوصول إلى منطقها الخاص، وتعكس معاني حقيقية وترمز إلى أسرار ينطوي عليها الكائن البشري.
الروايات الجديدة أغلبها سيرة ذاتية لماذا؟ ألهذا الحد تصحر الواقع وغاب التاريخ؟ أم هي فرضية هنري ميللر في أن الرواية الأوتوبوغرافية- رواية السيرة هي رواية المستقبل؟ أم ماذا برأيك؟
- أخالفك الرأي بأن أغلب ما يكتب من روايات اليوم هي سيرة ذاتية، فللسيرة الذاتية شروطها الواضحة، قد تقع بعض الأعمال في هذا التصنيف، ولكنها نصوص عابرة في خضم تيار استعادة الواقع والتاريخ الذي تفيض به الكتابات الروائية، معظم الكتابات الجديدة تحاول الحفر في أرجاء الكون لاستخراج الأحجار القديمة والحديثة، فالواقع سيمنحنا دائماً مادة حية للكتابة والتاريخ لا يزال قادراً على إمدادنا بدسم خرافي لكتابات المستقبل، لهذا كثرت الروايات التاريخية والملحمية، كما كثرت النصوص التي تعالج الواقع الاجتماعي مترصدة شرائح عريضة من البشر. ولكن إذا توقفنا عند كل كتابة على الإطلاق، فإن فيها شيئاً من الذات، إذا كنا عاجزين عن الانفصال عن الواقع كيف لنا إذاً أن ننفصل عن أنفسنا؟ في كل كتابة يطرح الكاتب فكرته أو رسالته، وهذا شيء غير يسير من ذاته، يحمل الشخوص صوته، يعطيهم من ملامحه، ينحاز إلى أفكاره ومفاهيمه، ويحارب الذوات المغايرة، قد يكون ذكياً قادراً على إقناعك بأنه يكتب عنك وهو يكتب عن نفسه، ربما لأن التجارب واحدة أو الأوجاع والأفراح والأماني واحدة، لا أظن كاتباً يفر من انعكاس المرايا في نصه على روحه حتى لو اختلفت الأزمنة والأمكنة والطبائع.
النصوص التي تكتبها النساء توضع تحت المجهر لاكتشاف كم التطابق بين حياة الكاتبة وحياة الشخصيات الورقية، وكاتبات كثر يدافعن بشدة عن اختلاف تلك الحكايا عن حكايتهن الشخصية، طبعاً هذا أمر عادي، الحكايا تختلف ولكن في إهاب كل شخصية مكتوبة نزر ولو يسير من المؤلف، عن نفسي أقول إن الشخصيات حتى الرجال منهم، الذين كتبتهم يعكسون مني الكثير، لا في صورة سيرة ذاتية، ولكنهم يحملون صوتي، ما أعتقده وما أدينه وأنبذه، يشبهونني في تركيبهم النفسي، أليست نفسي أقرب إلي من سواها؟ أليست معلمتي الأولى حول ما يجول في النفس البشرية؟ من خيرها وشرها، صلاحها وفسادها، أمنح شخوصي هذا القبس. ثم إذا ما كتبت عن الآخرين، ألست أراهم عبر فهمي الخاص؟ أحلل أفعالهم بواسطة قدراتي وتقييمي؟ كيف للنص إذاً أن يهرب مني؟
لا أكتب سيرة ذاتية مباشرة، لا تمتلك سيرتي الذاتية زخماً كافياً يؤهلها كي تصير نصاً ابداعياً، ولكني بتوزيع نفسي في النصوص أسعى إلى فهم ذاتي وذوات الآخرين عبر تلك النماذج المشابهة التي تصنعها الحروف، أدس في النص شظايا من كسر مرآتي الخاصة.
متى تعطين الكلمة لقلبك في غفلة من حراس عقلك اليقظين؟
- في البدايات كنت أظن أني أكثر عفوية، أضع قلبي على الورق إلى أن اكتشفت استحالة الأمر على هذا النحو، لأن اللغة التي أستعين بها لكتابة البوح جزءٌ من منظومة عقلية ضابطة لإيقاع الأدب والفن، والقلب أيضاً، من تلك البدايات العفوية تتعقد القوانين لتصير صحوة العقل كاملة، ولأن القلب أحلى وأكثر رفعة وصدقاً فإنه لا يترك أرض المعركة، يحدثك في خلسة والناس نيام، يتسلل في نعس العقل أو استراحته، يهمس لك بما يفرحك وما يحزنك، يهزأ كثيراً بقوانين العقل، ويترك آثار لعبه وعبثه في النص الأدبي بالمقدار الذي يسمح له العقل بذلك، المشكلة أني لا أكتب الشعر الذي يفجر الكلمات كما لو أنها حرة من سياط العقل، فالرواية العملاقة منظومة عقلانية تحسب حساب كل شيء وتتحكم بالمقدار العاطفي الذي يغشى النص، إنهما فرسا رهان يمضيان معاً في سباق لا ينتهي.
حصلت على جوائز إبداعية عديدة، آخرها جائزة كتارا عن رائعتك (فستق عبيد) ما أثر الجائزة على الكاتب؟ أهي مسؤولية أعظم، وخوف. أم حافز أكثر على الكتابة؟ ماذا تقولين؟
- تكتسب الجوائز قيمتها من أسماء الفائزين، وليس العكس، إلا إذا كنا نتحدث عن القيمة المادية فقط، وفي تقديري أن الجائزة يجب أن تكون اعترافاً بالإنجاز، شد على يد المبدع وشكره وحضه على الاستمرار، ولا بد أن ينقضي الفرح الطفيف الذي تمنحه الجائزة في وقته، إذا امتد ليصير تقييماً وغروراً قد يقضي على المبدع إبداعياً وفي أضيق الحدود إنسانياً، للجوائز خطرها، وللمبدع تحدياته في الخروج من دائرة الخطر بالوعي وبالتواضع اللازم أمام عملية الإبداع، وما يلحق بها من تبجيل وجوائز واحتفاء. الكاتب الحقيقي لا تقوده الجائزة إلى التخلي عن مسؤولياته ولا تخلصه من خوفه الإيجابي ولكن تضيف إلى حوافزه حافزاً جديداً وقد بات محاسباً أمام شريحة أوسع من القراء والنقاد.
سميحة خريس كاتبة وساردة من طراز رفيع وإعلامية متميزة.. ما رأيك بصحافتنا الثقافية، البعض يراها مرآة مهشمة، وصحافة علاقات ومجاملات ومنافع متبادلة، وأنها غير مواكبة لهذا التفجر الإبداعي؟ ما رأيك بهذه الاتهامات؟ ماذا تقترحين لصحافة نزيهة منافسة ومعبرة عن الواقع الثقافي؟
- بداية، تجب الإشارة إلى أن الصحافة كلها في أزمة حالياً، لا يخفى على الجميع تداعيات الحال على الصحافة الورقية والذي بدأ قبل جائحة كورونا وبسبب نمو سوق الصحافة الإلكترونية والتي في تركيبتها تحفل بكم كبير من النتف الإخبارية ويختلط فيها الحابل بالنابل، وقد لا تكون قابلة حتى الآن لتأسيس منهج ثقافي رصين، ما بالك إذاً بالصحافة الثقافية؟ لقد شهدت أزمنة ذهبية للثقافة في الصحافة حين كانت الثقافة رافعة العمل الإبداعي، وحين كان هناك تصور بضرورة الثقافة عبر برامج وصفحات تعنى به، وأعلم أن هذا الزخم القديم شابه بعض الخلل، مثل المجاملات ورفع أنصاف المبدعين وحرق آخرين، كما لعبت الشللية دوراً في انحرافه، أنا شخصياً حرصت أن لا أصدق كل مجاملة أتلقاها، ولكن في الغالب الأعم أعطتنا الصحافة الثقافية في أوج عطائها مشهداً ثقافياً جميلاً جديراً بالتنويه به، والغريب أن هذا الفيض بدأ ينحسر مع تفجر النتاج الإبداعي الثقافي، وحين صار المبدعون في أمس الحاجة له لتسليط الضوء الكاشف الجاد على نتاجهم، ولخلق مدارس فكرية يجري تحليلها وفحصها والحوار حولها.