إبراهيم عبدالمجيد: ليست الكورونا وحدها تبعدنا عن الأحلام
حوار : داليا عاصم: مصر
إبراهيم عبدالمجيد، صاحب مسيرة إبداعية مميزة، من رموز جيل الستينات الأدبي في مصر والعالم العربي، انطلقت سردياته حاملة نسيم الإسكندرية بسحره وفانتازيته. خلق عوالم روائية تستنطق التاريخ، وتحلق في فضاءات خيالية، وتهبط بنا للواقعية، وخلدت الإسكندرية الكوزموبوليتانية، محصناً إياها من شبح النسيان. قدّم عبر رحلته مع الكتابة على مدار أكثر من 45 عاماً أكثر من 20 رواية، وعشرات المجموعات القصصية والروايات القصيرة (النوفيلا) والمقالات. تحولت أعماله إلى أعمال تلفزيونية وسينمائية، وحصد الكثير من الجوائز بمصر وخارجها، منها: جائزة نجيب محفوظ، جائزة الدولة للتفوق في الآداب، جائزة ساويرس في الرواية لكبار الكتاب، جائزة كتارا، وجائزة الشيخ زايد، وترجمت أعماله للغات عديدة، منها: الإنجليزية والفرنسية، تميز مشروعه الروائي بثلاثيته عن الإسكندرية.
في حواره مع (المجلة العربية) روى لنا كواليس أحدث رواياته، وكشف عن ثلاثية جديدة من نصيب القاهرة، فإلى الحوار:
في رواية السايكلوب مغامرة سردية جريئة بميثولوجيا يونانية، عدنا معك بها لأبطال رواياتك السابقين؛ هل هي مساءلة أو محاسبة؟
- هي حالة يمر بها كثير من الكتاب، فما نكتبه في الرواية يخايلنا كأنه الواقع الحقيقي. العمل الإبداعي بمثابة وطن حقيقي للكاتب. أصعب اللحظات أو الأوقات بالنسبة لي هي حين أنتهي من كتابة رواية وأنتبه إلى ما حولي من خير وشر، فرغم أني أعيشه إلا أن الإبداع يأخذني إلى عالم أجمل، فليس بين شخصيات الرواية من يمكن أن يخرج منها ليخدعك أو يخونك أو ينغص عليك حياتك، حتى أشرارها لا يفعلون ذلك. هكذا تحدث بيني وبينهم حالة من التوحد تجعلني أبحث عنهم في الطرقات، وأنتبه متأخراً أنهم من ورق وخيال، ولا يساعدني إلا الدخول في رواية أخرى. ومن ناحية أخرى جرت العادة أن يستعيد الكتّاب شخصيات تاريخية معروفة لتكون هناك مقارنة ولو خفية بين العصور، لكني فجأة سألت نفسي مادامت شخصياتك حقيقة أمامك أو في روحك فلماذا لا تستعيدها. تبدأ من الخيال دخولاً في الخيال، لكن أثناء الكتابة حدث ما يمكن أن تقولي عنه مساءلة مع شخصية مثل (دميان) من رواية (لا أحد ينام في الإسكندرية) الذي أجمع من قرأها أنه مات مبكراً، وكان شخصية أخاذة غير عادية، تمشي وراءه النساء في الطرقات، ففي وجهه طاقة نور تراها النساء وتجذبهن. حين عاد دميان من الصفحات ومشى في الشوارع والنساء تزفه بالغناء قال الحمدلله أني مت مبكراً ولم أرَ ما أراه في الشوارع السكندرية. وهكذا أردت أن أعتذر له، لكنه لم يلمني على موته المبكر، وإن كان هناك لوم فعلى عودته!
هل يصاب المبدع بلعنة شخوصه، فتتلبسه أو يتوحد معها، كالفنان الذي يندمج في دوره؟
- هذا حقيقي، فما أكثر ما بكيت وما أكثر ما ضحكت وسط الليل. وما أكثر ما مشيت أبحث عنهم في أماكن الرواية، فشخصية مختار كحيل في رواية (في كل أسبوع يوم جمعة) التي جعلته فيها يقطن وسط البلد بالقاهرة؛ كنت كلما مررت على المنزل الذي أسكنته فيه قريباً من مقهى التكعيبة أكاد أصعد أدق بابه لأقابله، واستبدت بي الحالة حتى تناولت حبوباً مهدئة، لكن فتح الله علي برواية جديدة وقتها فخرج من روحي.
في السايكلوب رمزية مخاتلة، ماذا قصدت باختيار اسم هذا الوحش الأسطوري؟
- أنا لا أعرف بالضبط، لكن لدي شعور أن هناك نهايات غير طيبة لما يحدث حولي. السايكلوب في الأساطير اليونانية هو وحش أسطوري بعين واحدة يأكل البشر، وله حكاية مع يوليسيس حين حبسه والبحارة الذين معه في كهف يأكل منهم واحداً كل يوم، حتى استطاع يوليسيس كثير الحيل أن يصنع له النبيذ مما يحضره السايكلوب من الغابة من عنب، وسقاه فشرع بالانبساط، وسأله السايكلوب عن اسمه فقال (لا أحد)، ثم حين استبد به السكر فقع يوليسيس عينه وهرب، وخرج السايكلوب وراءهم يصرخ، وانضم إليه زملاؤه يسألونه من فقأ عينه الوحيدة فيقول لا أحد، وهرب يوليسيس. نهاية الأسطورة لا تجعل الرمز سياسياً، فرغم السايكلوب الذي ينتظرنا يمكن الانتصار عليه، ورغم إحساسي بالنهايات السيئة لما حولي لدي أمل في النجاة.
رواية العابرة عودة جريئة للواقعية بموضوع شائك في مجتمعاتنا العربية، هل وضعت مخططاً روائياً للكتابة عن التحول الجنسي؟ كذلك وجدنا فيها مونولوجات عامية تمثل الأبطال بتلقائية مع الفصحى في سرد الوقائع، وفيها عدت لأسلوب الكولاج بتوثيق أحداث سياسية واجتماعية مرت بمصر خلال السنوات الأخيرة؛ هل ترسم كل ذلك قبل الكتابة؟
- في الروايات التي بها معلومات تاريخية أو معاصرة أقوم بالبحث قبل الكتابة وأحياناً خلالها، كما فعلت في ثلاثية الإسكندرية. الأمر نفسه في العابرة، فموضوع الترانسجيندر أو العابرون من جنس إلى آخر هو موضوع طبي لا نفسي، لذلك يحتاج إلى معلومات، بحثت عنها فيما كتب عن الموضوع في محركات البحث. أما الأحداث فقد عاصرتها، فلم تحتج مني إلى بحث كبير، لأنها تدور في زمننا. أما هل أرسم مسيرة الرواية قبل الكتابة؟ لا، لم يحدث أبداً. بعد البدء تأخذ الشخصيات روحي، وتكتب هي الرواية وتتخيل وتتحرك وتصنع هي الأحداث. تكون مهمتي هي البناء الفني وتتابع الفصول. الكولاج هنا فيما بينها يمزج بين الأفكار والأحداث ومتى يكون الخيال ومتى يكون الواقع. البناء الفني هو مهمتي التي أبذل فيها كل الجهد، غير ذلك تصنعه الشخوص.
(ما أكتبه هو الوطن، وما حولي من حياة هو المنفى)؛ هي مقولتك الأثيرة، كيف تتعامل في (الزمن الكوروني) الذي حول منازلنا إلى منفى؟
- لُذت بكتابة رواية لن أتحدث عن موضوعها كعادتي. صارت الكورونا بالنسبة لي أخباراً على الإنترنت، وساعد على بقائي رغم قسوته، وما أعانيه من مشاكل صحية في الحركة احتار فيها الأطباء وتعاطيت فيها كل ما قالوه من أدوية، وأقوم بكل تمارين العلاج الطبيعي، ولا تقدم. صار البيت واسعاً بالرواية التي أكتبها. مدرب أنا على العزلة، فالرواية تفتح لي كل الشوارع والحدائق والبحار المغلقة.
قلت إن دخولك عالم الأدب كان مصادفة؛ هل رويت لنا عن وهج البدايات؟
- في سن الثالثة عشرة في مكتبة المدرسة الإعدادية؛ كنت أحب القراءة، كانت هناك حصتان كل أسبوع للقراءة الحرة في المكتبة، نجلس فيها، وكل يختار ما يريد أن يقرأه. اخترت قصة أطفال عنوانها (الصياد التائه) للكاتب محمد سعيد العريان ولم أكن طبعاً أعرف شيئاً عن الكاتب. جلست أقرأ فيها، وكانت عن صياد تاه في الصحراء ويبحثون عنه. أخذت روحي وبكيت عليه فرآني المدرس وسألني عن سبب البكاء قلت له الصياد ضاع، فقال لي: (دي مش حقيقة يا إبراهيم). أخذني الذهول واندفعت اقرأ ثم وجدت نفسي أكتب وأنا في سن الرابعة عشر. كتبت والله قصصاً وروايات ضاعت طبعاً لأنها كانت ساذجة حتى عرفت أن الكتابة جوار الموهبة تحتاج إلى دراسة وفهم لتاريخ الأدب والمذاهب الأدبية فاندفعت أقرأ في النقد والفلسفة والتاريخ وغيرها، ولما عدت للكتابة اختلف ما أكتبه عن سذاجة القديم وانضممت لعدد من الشباب في قصر ثقافة الحرية بالإسكندرية في نادي الأدب، وتطورت الأمور وتشجعت وتقدمت لمسابقة في القصة القصيرة على مستوى الجمهورية ففزت بالجائزة الأولى، وكان يوماً صار فيه الفضاء كله ملائكة ترقص فرحاً، وهكذا مشيت في الطريق.
كانت لك بداية قوية مع القصة القصيرة، منها مثلاً (خطابات العشاق التي طيرها الهواء)، لماذا ابتعدت عن ذلك الفن؟
- أنا بدأت بكتابة الرواية ولم أنحز لها؛ لأنه زمنها. لكني أيضاً مبكراً كتبت القصة القصيرة، وأحزن جداً لأن شهرتي كروائي غلبت على القصة القصيرة في هذا الزمن. أعشق القصة القصيرة، وكتبت فيها خمس مجموعات قصصية، وبينها قصص أخذت شهرة كبيرة، وأجمل ما يحدث لي حين تكون هناك مناقشة في جامعة ما لرسالة عن قصصي القصيرة. وفي يوم بالصدفة منذ خمس عشرة سنة وجدت صفحة لبعض شباب المملكة العربية السعودية على جوجل يناقشون فيها قصة (الشجرة والعصافير) فكانت سعادتي كبيرة جداً. أما زمن القصة القصيرة فللأسف ليس حقيقياً، لا لعيب فيها؛ لكن لأن الحكي أصبح حاجة، وكأننا نتحلق حول الراوي الشعبي، لكن كل منا الآن منفرداً مع كتاب. أتمنى أن تعود القصة القصيرة إلى المشهد بقوة. وربما ما نشاهده حولنا من استسهال لكتابة الرواية وتسليعها ينتهي بها إلى الخلف.
كنت من أوائل من كتبوا النوفيلا أيضاً، لماذا لم تكرر تلك التجربة؟
- أنا لا أقصد، لكن العمل الفني وشخوصه هم من يحددون ذلك. والنوفيلا فن جميل فيه إيجاز القصة القصيرة، وفيه اتساع روح الرواية، وفيه مساحة كبيرة لخلفيات فلسفية؛ لكني حين كتبتها لم أكن أقصد، هي التي أرادت ذلك. في السنوات التي كتبت فيه (الصياد واليمامة) و(ليلة العشق والدم) 1978-1982 كتبت (المسافات) وهي رواية. وفي السنوات التي كتبت فيها (البلدة الأخرى) و(لا أحد ينام في الإسكندرية) 1988-1996 كتبت (قناديل البحر)، وبعد ذلك كتبت (شهد القلعة). ربما هو المكان الذي تجري فيه الأحداث يحاصر الشخصيات بالنهايات فتكون النوفيلا التي هي أقرب إلى الشعر في بنائها والصورة السينمائية.
(البلدة الأخرى) عمل مميز عن أوجاع الغربة، نستشعر أنها تلامس سيرتك الذاتية، هل يتحكم الروائي في اللاوعي أم أن ذاته تسكب بعضاً منها أثناء الكتابة؟
- الكتابة في الأصل خبرات حياة، يضاف إليها خبرات الآخرين التي تأتي بالصدفة أمام الكاتب، ويضاف إليها القراءة والمعرفة بقضايا الإنسان الفلسفية الكبرى في الكون، تستطيعين أن تضيفي إليها خبرات إضافية من مواقع مثل فيسبوك وتويتر الآن. الخبرات الشخصية تتسلل لكن مع الشخصية الروائية التي تعيد ترتيب الأحداث والأفكار وتجعل الخبرات عملاً فنياً لا سيرة. هناك دراسات كثيرة عن الرواية والسيرة، ويكاد يكون الموضوع أساسياً في موضوعات النقد الأدبي، لكن أي سيرة حين تدخل في الرواية لا يمكن الاستدلال منها على المؤلف إلا من بعيد جداً، كأن تقولين لقد سافر إلى البلد الذي كتب عنه الرواية. السيرة اعترافات ووضوح، لكن الفن غامض لا يمكن تفسيره بدقة نهائية.
في كثير من رواياتي جوانب من حياتي، لكنها ليست سيرة. رواية (أداجيو) فيها الكثير من حياتي، لكنه ذهب لبطل الرواية، وما يجمعني به هو حب الموسيقى والألم الذي خبرته أنا في الحياة والذي خبره هو في الرواية. (هنا القاهرة) فيها من السيرة، ومن سيرة جيلي؛ لكن لا يمكن أن تكون دليلاً على كاتبها. (الإسكندرية في غيمة) و(طيور العنبر).. وغيرهما؛ فيها من حياتي لكنها صارت في الرواية عملاً فنياً لا علاقة له بوضوح السيرة وصراحتها. الحقيقة الرواية غطاء لبئر الأسرار.
تحولت بعض من أعمالك لمسلسلات، فلماذا لم تتجه للسينما وهي في أمس الحاجة لروايات محكمة الحبكة؟
- أين هي السينما في مصر الآن؟! هناك ثلاث روايات بعتها للسينما والتليفزيون ولم تنفذ منذ أكثر من عشر سنين. كنا ننتج أكثر من ستين فيلماً في السنة وصرنا ننتج خمسة عشر فيلماً، بينها فيلم أو اثنان جادان والباقي أعمال تجارية. أنا لست ضد الأعمال التجارية، فالجمهور أنواع؛ لكن لماذا نحرم الجمهور الجاد من أعمال جيدة؟ كانت السينما والتيلفزيون تلتهم الروايات فصارت الآن تعيد كتابة أعمال أجنبية، أو تقوم ورش من الشباب بالتأليف. باختصار صناعة السينما تم تدميرها كما تم تدمير دور العرض نفسها. كلما أصدرت رواية يتصل بي منتجون وشباب من كتاب السيناريو متحمسون جداً ثم يغيبون في الفضاء.
في حوار سابق لنا قلت لي جملة رائعة (مخزوني لم ينضب)، ما دور الذاكرة في حياة الكاتب، وما معنى تصريحك: (أكتب ما يمليه عليّ النسيان)؟
- خبراتي في الحياة كبيرة جداً، في طفولتي وصباي كان الشارع هو الوجود أكثر من البيت. كنا نقابل بشراً غرباء لديهم من الحكايات الكثير جداً. وكان أبي يعمل في السكة الحديد فكان في الصيف إذا انتقل للعمل في الصحراء يصحبني معه لأرى شيئاً جديداً، فكنت أقابل بشراً من البدو وخلاء عجيب، وحياة غير المدينة ظلت تمشي معي. عملت في سن مبكر في شركة الترسانة البحرية بالإسكندرية لأني في الأصل حصلت على دبلوم صنائع قسم كهرباء ثم ذاكرت الثانوية العامة والتحقت بكلية الآداب. جئت القاهرة فأحببت الليل وفيه رأيت ما لا يرى من غرائب، وسهرت في ميادين الحسين والسيدة زينب وغيرها، ودخلت معترك السياسة وسُجنت مرة لثلاثة أسابيع تقريباً بسبب معارضتنا لحضور إسرائيل في معرض الكتاب عام 1985. أؤمن بما قاله فرويد (ما يُنسى ينام ويستقر في اللاشعور ويظهر حين يشعر اللاشعور بحاجتك إليه). لذلك قلت إن النسيان هو الذاكرة الحقيقة. وهكذا يمكن أن أنسى اسم من أقابله الآن لأول مرة بينما لا أنسى أسماء من قابلتهم في الطفولة. ثم إن العالم حولي مليء بالغرائب، المهم أن يعرف الكاتب ما يختاره منها.
الجوائز العربية تثير الجدل؛ لكن فوزك بجائزة كتارا أثار ضدك حملة (جدانوفية) قاسية، بصراحة، هل أفادت الجوائز الرواية العربية؟
- تضحكني هذه المسألة دائماً. لقد كنت أول فائز بجائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية عام 1996، وكان هذا مفاجئاً طبعاً لبعض الكتاب الذين يجلسون حول نجيب محفوظ من كتاب الستينات الذين وضعوا سوراً حولهم متصورين أنهم الكتاب فقط. شنوا حملة رهيبة عليّ ونعتوني بالعمالة لأمريكا لأن الجائزة من الجامعة الأمريكية، فسخرت منهم في حوار وقلت عمالة بألف دولار، طيب لو بألفين كان ممكن! المسألة هي أني الفائز وليس هم. في جائزة كتارا التي كنت أحد الفائزين الخمسة بها في أول عام، ولم تكن العلاقات ساءت بين قطر ودول الخليج ولا مع مصر. قاد الحملة أحدهم مازال حياً وربنا يعطيه العمر، وانضمت إليه شاعرة لا تشكل لي أي مشكلة، وانضم إليهم ناقد كبير أعرف أن انضمامه لأنه ليس مشرفاً على الجائزة ولا دخل له بها فهو مشهور عنه محاباة أصدقائه. لكن من دافع عني كثيرون محترمون منهم صلاح عيسى وسمير فريد رحمهما الله، وعدد كبير من الشباب. المهاجمون حولوا الموضوع لسياسة ولم يهاجموا أحداً فاز بعد ذلك، وبعد أن ساءت العلاقات بين دول الخليج وقطر وبينها وبين مصر مما يوضح لكِ أن الهدف هو أنا وليس الجائزة. وفي العام التالي فزت بجائزة الشيخ زايد في الأدب فضحكت وقلت أنا تابع لمن الآن يا بشر؟! من يفوز بالجوائز هو أعمالي وليس أنا، حتى فلوس الجائزة أوزعها على الأولاد ولا آخذها. أما عن فائدة الجوائز فهي مادياً مفيدة رغم الحسد الذي يواكبها، وفي الوقت نفسه تساعد على انتشار أكثر للكتاب، لكنها للأسف صارت هدفاً الآن، فصار هناك من يكتب من أجل الجائزة. وعموماً أنا رأيي قلته دائماً: الجوائز مثل (الجواز) قسمة ونصيب.
تأسيس دار للنشر، ما الذي دفعك إلى هذه الخطوة؟ في حين أنك مؤخراً اتجهت للنشر خارج مصر؟
- دار النشر أسستها لابني زياد، كان لا يستقر في عمل حكومي بعد تخرجه من الجامعة، فشجعته على العمل بالنشر، وأسست الدار، وأعطيناها اسم روايتي (بيت الياسمين)، وهو محب للثقافة والأدب، ويديرها منذ سنوات، وصرت أنا بعيداً بحكم الصحة والوقت. دوري لا يزيد عن قراءة بعض الأعمال إذا طلب هو مني ذلك. أعطيته أكثر من كتاب لي من باب التشجيع وآخرها كتاب (رسائل من مصر) الذي قمت بترجمته. معظم أعمالي بين دار الشروق والدار المصرية اللبنانية. لجأت للنشر في الخارج شوقاً لما فعلته في أول حياتي، والآن لم يعد هناك خارج وداخل؛ العالم صغير.
إذا فرضنا أنك تكتب نهاية لرواية بطلها فيروس كورونا الغامض، كيف ستكون؟ (مأساوية أم حالمة؟)
- سأقول لك رأيي في التنبؤ وليس في المتنبئين: كل كاتب ينشد عالماً أفضل وهو يكتب، الصدق الفني والمعرفة الخفية بالواقع تجعله أحياناً يصدح بما يمكن أن يأتي، لكنه عادة لا يكون على دراية بذلك. الكاتب ليس عرّافاً لكنه مستشرف، وتسبق مشاعره ما حولها. يوماً ما بعد حرب الكويت الأولى عام 1991 جاءني كاتب شاب يحمل روايتي (بيت الياسمين) مندهشاً جداً، وكانت قد صدرت عام 1986 ويطلعني على صفحة يقول فيها أحد الأبطال لزميله: (حتقوم حرب في الكويت والبترول يولع). كان ذلك قبل غزو الكويت بخمس سنوات. كيف كتبت ذلك؟ ببساطة لأن شخصاً يحلم أن يسافر إلى الكويت ولا يكف عن الكلام عن رغبته ومعاناته هنا حتى ضجر منه أحد أبطال الرواية وقال له كف عن الحديث ستقوم حرب في الكويت والبترول يولع. عام 1992 كنت أنشر روايتي القصيرة (قناديل البحر) مسلسلة في مجلة نصف الدنيا، وكنت أعطيتها لهم بخط يدي وأذهب كل أسبوع أراجع المسودة بنفسي. يوماً ما وأنا أصعد السلم إلى المجلة، وكانت في مبنى صغير غير الموجود الآن؛ حدث الزلزال الشهير، ورأيت الكل يفرّ إلى الشارع ففعلت مثلهم. في اليوم التالي ذهبت لأراجع المسودة فوجدت مونولوجاً لبطل الرواية يقول فيه: (هذه البلاد التي تسمي مصر والتي تقع في الجزء الشمالي الشرقي من قارة أفريقيا سوف تتعرض لحركات تكتونية عنيفة تهز الأرض والجبال)، اندهشت جداً، وببساطة أدركت أن مونولوج البطل لأنه يشعر بالاغتراب الشديد، فهو مقاتل من حرب أكتوبر يرى الأمور تمشي عكس ما كانوا يتوقعون من رغد وعيش كريم.
بعد ذلك نشرت رواية (في كل أسبوع يوم جمعة) عام 2009 قبل الثورة بعامين، وكان يوم الجمعة في الرواية يوم النهايات والبدايات، وأنتِ تعرفين كيف كانت أيام الجمع في وقت الثورة وبعدها. كان سبب الاختيار هو أن يوم الجمعة حقيقة في تراثنا يوم للنهايات والبدايات. توافق الأمر مع ثورة يناير، لكني كنت متوافقاً في الكتابة مع المعنى التراثي لليوم. الكتّاب لا يقصدون التنبؤ، لكنه الصدق الفني وصدق الشعور بما يكتبون وخوفهم من الظلام وحنينهم إلى النور؛ هذا يأتي بالنبوءات التي لا يعرفها الكاتب إلا بعد أن تحدث. لقد قلت مرة ضاحكاً في إحدى الندوات أني كتبت رواية (لا أحد ينام في الإسكندرية) حتى إذا وقعت نبوءة ما تقع بعيداً عنا، هناك في الأربعينات أثناء الحرب العالمية الثانية. أما الكورونا، فالمأساة والأحلام معاً مؤثران في القارئ، المهم الصدق الفني، وعموماً ليست الكورونا وحدها تبعدنا عن الأحلام!