مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

د. سعيدة حمداوي: الرواية السعودية لها اسمها وقيمتها الفنية

حاورها: د.حسن حجاب الحازمي ونايف إبراهيم كريري: جازان


يتعدى الاهتمام بالأدب السعودي مساحته الجغرافية والإقليمية ليجد اهتماماَ عربياَ وحتى دولياَ، وضيفة حوارنا لهذا الشهر قدمت من الجزائر تحمل في ذاكرتها وبين اشتغالاتها الكتابية والنقدية، توجهاً كبيراَ نحو الأدب السعودي، وبالأخص فن الرواية، الذي يُعد في السنوات الأخيرة وجهة لكثير من المهتمين والباحثين والمطلعين، ولذلك جاء حوارنا مع الناقدة الدكتورة سعيدة حمداوي، التي كان تواجدها في السعودية من خلال استقطاب واتصال علمي وبحثي بجامعة جازان، جاء محمّلاَ بالكثير من الأسئلة التي حظيت بإجابات بالغة الوضوح حول ما تهتم به من قضايا في الأدب السعودي، كالرواية والإنتاج الروائي المحلي وتحقيق بعض كتبها لجوائز إقليمية، والحركة النقدية التي تقرأ أبعادها المختلفة واهتماماتها المتعددة وحقولها المتنوعة بعيون مغاربية لإنتاج شرقي، وهو ما أعادنا إلى زمن الأسطورة التي كانت تروى على شكل حكاية شعبية، وفي الحوار الكثير من القضايا والمحاور الأخرى التي ندعوكم إلى قراءتها:


ما أسباب هذه الزيارة إلى جامعة جازان؟
- لقد سعدت بزيارة مدينة جازان، ولم أشعر إطلاقاَ بأنني فارقت بلدي، إنما كسبت بلداً آخر في جعبتي بالمملكة العربية السعودية، وبالنسبة لهذه الزيارة فهي تأتي في إطار علمي يندرج ضمن الزيارات العلمية البحثية والتبادل المعرفي بين جامعتين، جامعة العربي بن المهيدي بأم البواقي، وجامعة جازان، وذلك من أجل أخذ الخبرة، وتبادل المعارف بين الأساتذة المتخصصين في مجال النقد الأدبي، ومجال السرديات. وبالمناسبة فهذه المنطقة غنية بالكثير من المبدعين، والكثير من النقاد الذين فعلاَ استفدت من قراءاتهم سواءً قبل أن أصل إلى المدينة وحتى وأنا فيها، ففي كل يوم أكتشف اسماَ جديداَ، وأكتشف قلماَ جديداَ، وأتأكد من أن هذه المنطقة تتنفس الإبداع، وتتنفس التميز، فهنيئاَ لهذه المنطقة، وهنيئاَ لنا بالإنسان الجازاني.

الرواية السعودية
ما الأعمال البحثية التي يمكن أن تنتجها هذه الزيارة؟
- نعم بطبيعة الحال فقبل أن أحضر إلى جازان، قد كانت لي هناك مجموعة من الأبحاث والمقالات التي كتبتها عن إعلان النقد هنا في المنطقة، أقصد بذلك الجهود النقدية للدكتور حسن بن حجاب الحازمي، والأعمال النقدية للدكتور مجدي الخواجي، إضافة إلى أسماء أخرى من مختلف مناطق المملكة مثل، الدكتور معجب العدواني، وسعدت كثيراَ بقراءة كتابه الأخير، الذي كان بعنوان (إعادة كتابة المدينة العربية في الرواية الغربية)، فهو يحمل رؤية جديدة استشراقية، اتكأت على منجزات الراحل إدوارد سعيد فيما يسمى بالاستشراق المخيلي والطبقي، خصوصاً أن مثل الدراسات قليلة جداَ في وطننا العربية ورائدة في مجالها، وما قرأتهُ جعلني أفكر جديةً في أن أكتب دراسات حول التجربة النقدية في المملكة العربية السعودية وبالتحديد النقد الروائي، لأنه ثري جداَ ولهُ طريقته ورؤيته للنص الروائي، وأيضاً لدي مشروع آخر هو عن الجزائر في الرواية السعودية، وهذا ما نسعى لتبلغيه لطلبتنا، سواءً في الجامعة الجزائرية، أو حتى لجامعتنا العربية لم لا.
وما الموضوعات التي ستكون حاضرة في كتاباتك البحثية عن الحركة النقدية الروائية السعودية؟
نعم بالنسبة للمنهج الذي سأعتمده، والتي أعتمدها هي متمثلة في تصنيف النتاج النقدي الروائي بحسب المناهج وهذه تقريباَ هي الطريقة المثلى، وسنجد أن الناقد الدكتور حسن حجاب الحازمي يختار البنيوية السردية، وأيضاَ اختار البنيوية التكوينية، واختار أيضاَ أسلوبية الرواية. والدكتور مجدي الخواجي اعتمد البنيوية النفسية، وبالنسبة للدكتور معجب العدواني فقد اختار القراءة الاستشراقية. إضافةً إلى خطاب جديد تشكل وبدأه الدكتور حسن حجاب الحازمي حيثُ اهتم بما يسمى بخطاب نقد النقد وهذا الخطاب جديد ويحتاج إلى معرفة، ويحتاج إلى رؤية بالمناهج النقدية، ووجدت بأن الكتابة أو الدراسة في هذا المجال ستكون ثرية خصوصاً مع صدور كتابه الجديد (النص والنص الموازي)، والذي اعتمد فيه على التأويلية، القراءة التي تعود إلى مرجعية القارئ، وهي دراسة ملهمة جداَ ستضيف لمسة جديدة للمشهد النقدي في المملكة العربية السعودية.

المشهد الإبداعي
فيما يتعلق بالمشهد الإبداعي الروائي السعودي، هل ترين أن هناك أعمالاً إبداعية توازي الحركة الروائية العربية؟
- نعم، الرواية السعودية أصبح لها اسمها، وأصبح لها قيمتها الفنية، وأصبح القارئ يقبل عليها، أتحدث عن الجزائر، وأتحدث عن طلبتي خاصةً، وذلك أنه هناك العديد من الدراسات الآن في الجامعة الجزائرية سواء كانت دراسات ماجستير أو دكتوراه تهتم بالرواية السعودية، وقد أشرفت على مجموعة من النصوص الروائية التي بالفعل تستحق الدراسة، ومن ذلك مثلاَ: رواية (جاهلية) لليلى الجهني، وأيضاَ (جنية) لغازي القصيبي، وأيضاَ رواية فسوق لعبده خال، والعديد من الأعمال الأخرى، وما قرأته عن الرواية السعودية في مواقع التواصل الاجتماعي والشبكة المعلوماتية، التي قربت كثيراَ الإبداع السعودي إلى الوطن العربي، وإلى الجزائر على وجه التحديد، فالآن أصبحنا بمجرد ضغطة زر نحصل على مجموعة من الروايات السعودية، وهو ما لم يكن سهلاَ الحصول عليه سابقاً لأنها غير موجودة حتى في معارض الكتب حين نزورها في الجزائر، فلا نجد تقريباَ أعمالاً نقدية أو روائية ولا قصصية ولا شيئاً من كل هذا الإبداع، ولا أعرف لماذا، فأنا تقريباَ أواظب على حضور هذه المعارض، لكني لا أجد أي نص من النصوص، في مجال الإبداع أو النقد، وهذا شيء مؤسف، والآن باتت الشبكة المعلوماتية تتيح لنا فرصة الانفتاح ومعرفة الرواية والروائيين السعوديين، أنا قرأت جميع أعمال غازي القصيبي تقريباَ، وقد أعجبتني رواية أبو شلاخ البرمائي، وفي مشاريعي الكتابية القادمة سأكتب هكذا مقالة حول هذه الرواية وربطها بالنص السينمائي، لأنه قد عُرض كمسلسل، وأيضاَ النص المسرحي، لأنه عُرض أيضاَ كمسرحية، فأردت أن أبين شخصية أبو شلاخ البرمائي بين كونها شخصية ورقية كما يقول رولان بارت في النص الروائي، وكيف تحولت؟ وهل بقيت معالمها واحدة في النص السينمائي أو في المسلسل الذي عُرض؟ وما هي الإضافات؟ وما الأشياء التي جعلت الشخصية السينمائية تختلف عن الشخصية الروائية وعن الشخصية المسرحية أيضاَ، وهذا العمل إن شاء الله سيكون بين أيدي القارئ قريباَ.
وكيف تنظرين إلى هذا الحضور الإبداعي الروائي السعودي على شبكة الإنترنت والمواقع الإلكترونية؟
- بحسب ما أراه أجد أن هناك نقلة نوعية بالنسبة لنشر الروايات السعودية عبر المواقع الإلكترونية، وهذا شيء نادراَ ما نجده في بقية جهود الروايات العربية الأخرى للانتشار عربياَ وعالمياَ، فالروائي السعودي حريص جداَ على أن يصدر عمله في الشبكة المعلوماتية وأن يُقرأ من قبل الطرف الآخر وأن يُتاح للقارئ العربي، فقد قرأت جميع أعمال الروائي عبده خال، وهو من الروائيين المواظبين على عرض أعمالهم الروائية على الشبكة، وأفدت من كتابيه (قالت عجيبة) عن الأساطير الشعبية، لأني أدرَّس الأدب الشعبي في الجامعة الجزائرية، باعتبار أن الأدب الشعبي والحكاية الشعبية هي أصل الرواية، فمن لم يقرأ الحكاية الشعبية فهو لم يقرأ الرواية.

الإنتاج الروائي
كيف تنظرين إلى كل هذا الإنتاج الروائي السعودي، وبخاصة في السنوات الأخيرة؟
- بالنسبة للحركة الأدبية هو عامل إيجابي، لأن هذا الانتعاش أكيد قد صاحبه ركود، هذا الركود كان مبرراَ له أو كان لهُ أسباب التزام الروائيين السعوديين بهذه الحالة من السكون كان نتيجته أن تزايد أو تزايدت عدد الروايات، لأن الروائي الآن أصبح لا يصدر عملهُ الروائي حتى يتأكد من أنه سيقرأ أو يتأكد من قابليته للقراءة، والآن الروائي أيضاَ يحرص على أن يخرج عمله في أجمل حلة، إن شئنا أن نقول ذلك فالأمر صحي جداَ بالنسبة للساحة الإبداعية، وأيضاَ سيتلوه ركود هذه هي الحركات الإبداعية أو الإبداع تكون فيه لحظات جمود ثم نهوض ثم جمود لكن هذه طبيعة الأشياء.
هذا الانتشار ذهب بعض النقاد إلى القول إن الزمن هو زمن الرواية، هل أنت مع هذا الرأي؟
- بطبيعة الحال لأن الإنسان هو كائن حكائي، هو كائن يحب الحكاية، يحب أن يستمع، يحب أن يعرف التفاصيل، يركز على الأحداث، حتى في حياتنا البسيطة نحن نعيش سرد، بالتالي الاهتمام بالرواية ليس شيئاَ جديداَ، يمكن أن تكون القصائد الشعرية أو الشعر مسيطراً في فترة من الفترات لكن لم يكن هو المهيمن، نعم السرد كان موجوداَ، والشعر كان هو الأبرز، لكن مع هذا التطور الذي شهدته وسائل الطباعة، وأيضاَ تشجع المبدعون على خوض تجربة الكتابة الروائية، لأن هناك تقريباَ تحول من الشعراء من كتاب الشعر إلى كتابة الرواية، الأمر ليس هو أن الرواية هي التي انتعشت، إنما هناك تحول بالنسبة للشعر في حد ذاته، لأنه جرب هذه العوالم فلم يجد ما يستطيع أن يرضيه في هذا الجانب الحكائي الغريزي بالنسبة إليه، فبالتالي وجد في القصة أولاَ، لأن أغلب الشعراء تقريباَ كتبوا الشعر ثم وجدوا في القصة هذا المجال الذي يجعلون فيهِ حضوراَ أكثر لمشاعرهم، لعواطفهم، للعالم، للمجتمع، والشعر لم يمكن له أن يستوعب كل هذا الكم، ويمكن أيضاَ بالنسبة تغير طبيعة الإنسان في حد ذاته، أصبح الآن الإنسان يعيش وسط مجتمعاته ويعيش في وسط بيئات مختلفة، وشخصيات مختلفة، فكانت الرواية هي المجال الذي يمكن أن يعبر من خلاله المبدع عن حياته، عن تجاربه عن كل هذه الأمور.

الأدب الشعبي
لديك اهتمام بالأدب الشعبي، وكتبتِ عنه كثيراَ، ما سبب هذا الاهتمام بين الأدب الفصيح والشعبي؟
- هو ارتباط الأب بابنه، أو الأصل بالفرع، لأن أول من أصَّل لقواعدها، القواعد التي ندرس بها الرواية، أو ما يسمّى بالسرديات، وفلاديمير بروب لم يعد إلى الرواية ليستخلص القاعدة، إنما عاد إلى الأصل، وأصل الرواية هي الحكاية الشعبية، لأنها نقية، صافية لم تدخل إليها أو لم تتأثر بأي جوانب فرضها التاريخ، وقد طبقَّ فلاديمير بروب ما يسمى بالوظائفية أو الوظيفة، طبقها على مئة حكاية شعبية، كما أنه حرص على أن يؤسس بمشروعه النقدي السردي انطلاقاَ من هذه النصوص التي وجدها فعلاَ مجالاَ خصباَ لتأسيس القاعدة، فالقاعدة تأسست من خلال الأدب الشعبي وهناك، وهذا ليس فقط بالنسبة لي، لكن حتى للمتخصصين في مجال السرد، تجدهم مرتبطين بالأدب الشعبي والحكاية الشعبية على وجه التحديد، وهناك عندنا في الجزائر الناقد عبدالحميد بورايو ونطلق عليه فلاديمير الجزائر والعرب إن شئنا أن نقول، فهو الآن يهتم بالنص الروائي، لكنه الآن يعود إلى الأدب الشعبي، لأنه النص الذي يمكن أن يؤسس منه والمصدر الذي يمكننا أن نؤسس من خلاله قاعدة سردية صحيحة.
الحكايات الشعبية ميالة إلى الأساطير، كيف تجدين حضورها في الأعمال الروائية الحديثة؟
- نحن نقول أدب شعبي فنحن نقول أسطورة، أو الحكاية الأسطورية، أو الحكاية الخرافية، حتى الآن النص الروائي إن أراد أن يعبر بوابة التجريب يجب أن يقتحم عوالم الأساطير، يقتحم عوامل العجيب والغريب، عليه أيضاَ أن يستخدم هذه اللغة العتيقة، وهذا ما يجعل النص حين يشحن بهذه الشحنات القديمة والعتيقة، يجعله أكثر تجريبية أو أكثر تجديداَ، لأن هناك من يقول إنّ العالم العربي أو العرب لم يعرفوا السرد، لكن هذا أمر ليس صحيحاَ، لأن العرب عرفوا السرد من زمنٍ بعيد جداَ، فإن كان للغرب الملحمة، فالعرب أيضاَ لديهم سير شعبية، كسيرة بني هلال، وسيرة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، والأميرة ذات الهمة، وبيبرس هذه كلها أشكال وهناك من النقاد من يصنفها في خانة السيرة الشعبية.
وماذا عن ألف ليلة وليلة؟
- ألف ليلة وليلة هي نصٌ مصدر بالنسبة لبعض النقاد كتودروف، فهو عندما أسس لنا ما يسمى بالتتابع في الأحداث أو التضمين والرؤية التي ينطلق منها الراوي، عاد إلى ألف ليلة وليلة واستخلص هذه الحكاية التي تقبع في الحكاية أو ما يسمى بالسرد العنقودي، أي أن هناك حكاية بين شهر زاد وبين شهريار حكاية إطار، وداخل هذا الحكاية الإطار هناك حكايات أخرى، فهذه القاعدة أسسها زيفيطان تودروف، واستخلص من خلالها أن النص ليس فقط حكاية واحدة إنما هو مجموعة من النوات، أي مجموعة من الحكايات التي ترتبط فيما بينها لتشكل لنا الحكاية الإطار، وهذا لا يتأتى إلا بالعودة إلى النص الشعبي أو النص الأصلي، لأن ألف ليلة وليلة يعتقد البعض أنه نص شعبي، لأن عوالمه عوالم قديمة، واحتل لغة بالنسبة للقارئ يجد أن فيها نوع من البساطة والعامية.

الأسطورة والإبداع
وماذا عن ليفي شتراوس وما الذي قدمه للنظرية النقدية الروائية من خلال إشارته إلى الأسطورة؟
- أي نعم بالنسبة لشتراوس هو قدم ما يسمى بالبنيوية الأنثروبولوجية وهي أن يدرس الأسطورة في ذاتها ولحد ذاته فيحيط فقط بالبناء الخاص بهذا النص، وتأثر في رؤيته بالدراسات اللغوية للصوتيات عند ياكبسون، وبالخطط التواصلية وقدم رؤيةً جديدة بالنسبة للنقد ككل، وهو ممكن ليس لهُ أثر كبير في النقد السردي كبقية النقاد، لكنه قدم أو انطلق منه بقية المتخصصين في مجال السرد، أخذ منه الكثير من المبادئ، ورؤية شتراوس تصلح للنصوص التي هي مرتبطة بالأساطير والأنثروبولوجية والدراسات المتعلقة بالإنسان القديم، وأيضاَ درس نمط الأكل وغيره من الأنماط التي تهتم أكثر بحياة الشعوب.
هناك من يرى أن الأسطورة في فكرتها العامة قد تتكرر من شعب لآخر، ولكن قد تختلف في بعض تفاصيلها، فهل يمكن أن تُكرر الأعمال الروائية والإبداعية نفسها؟
- بالنسبة للأسطورة أكيد أن لكل شعب أسطورته الخاصة، التفكير سيكون واحداً بالنسبة لكل الشعوب، فالأسطورة في حد ذاته هو تفكير بسيط في ظواهر الكون، التفسير الذي لا يطرح بدائل عقلية واسعة، لأن الإنسان في تلك الفترة لا يعرف كيف تتشكل الأرض أو كيف تتشكل الغيوم أو الأمطار، فهو يحاول دائماَ أن يعيد هذه الظواهر إلى مصادر الإله أو إلى مصادر بسيطة أو ساذجة نوعاَ ما، ولكل شعب منطلقاته مثل الشعوب اليونانية التي كانت تؤمن أكثر بفكرة أنصاف الآلهة، بالنسبة لنا كعرب كنا نؤمن أكثر بالخوارق أو الأشياء العجيبة، فلكل شعب خصوصيته، وله أداته التفكيرية لكن تبقى الأسطورة هي واحدة بالنسبة لجميع الشعوب، وأكيد أن الروائي حاول أن يوظف هذه الأبعاد وهذه المرجعية، لأنها مرجعية بالنسبة للروائي، وحاول أن يستثمرها لبناء عوالمه النصية وهي أيضاَ تدخل في التجريب الروائي حين يريد أن يجدد أو يدخل إلى قاعة المجددين أو التجريبين فهو يستعين بمثل هذه الجذور القديمة، الأسطورة أو الحكاية الشعبية أو الألغاز أو الحكم مثلاَ، وهذه كلها يضمنها في عمله حتى يمنح نصه بعداَ آخر، بعداَ مختلفاَ عما هو موجود.

الجوائز الأدبية
برأيك لماذا لم يفز أديب عربي بجائزة نوبل منذ أن نالها الروائي نجيب محفوظ؟
- أكيد أن هذه الجوائز لا تخضع فقط للجانب الجمالي أو الفني، أكيد أن لها أيضاَ خلفياتها الأيديولوجية، وخلفياتها السياسية، وخلفياتها العقدية، حتى حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل كان له خلفيات وكان له أيضاَ أبعاد، حتى أن البعض اتهمه بأنه كان يكتب إرضاءً لإسرائيل، أو إرضاءً لجهة معينة، فحتى أن حصوله على الجائزة لم يكن نيلاَ مستحقاَ، دائماَ تدخل هناك ناحية أيديولوجية فتفسد علينا، وقد أفسدت علينا فرحة نيله لجائزة نوبل، وفي الجزائر كان من المفروض أن تنال جائزة نوبل للآداب الروائية أسيل جبار، وهي تكتب بشكل جيد باللغة الفرنسية، ورفضت أن تترجم أعمالها إلى اللغة العربية، إما بسبب أيديولوجي، وقد يكون لأمر آخر. لكنها رشحت أكثر من مرة لنيل جائزة نوبل للآداب، ولا أعرف كيف توقفت الأمور ونالتها جنسيات أخرى، أو ثقافات أخرى هذا الأمر، وكما قلت دائماَ تقحم زاوية ومرجعية معينة حتى تفسد علينا نيل فرحتنا بهذا الألق العالمي، لكن هذا لا يعني أن الرواية العربية ليست عالمية، بل هي عالمية وتقرأ وتترجم ويتم الاحتفاء بها، ويتم العودة إليها، وحتى الاهتمام باللغة العربية الآن أصبح يمر من خلال الرواية، ويتخذ السرد خاصةً كمجال لمعرفة عقلية الشعوب وثقافة الشعوب.
مثل هذه الجوائز التي منحت لروايات سعودية قد يراها البعض من باب المجاملات؟
- أنا قلت لك إن الجوائز دائماَ تفسد متعة قراءتك للرواية، أو دائماَ تجعلك في شك، لكن القارئ الذكي القارئ الخبير سيكتشف أن النصوص فعلاَ كانت تستحق الفوز.
وكيف تنظرين إلى فوز رواية (موت صغير) للروائي السعودي محمد حسن علوان بجائزة البوكر العربية مؤخراً؟
- فعلاَ كانت تستحق، وهذه ليست مجاملة إطلاقاَ، فلا يمكن أن نجامل في هذا الميدان فرواية (موت صغير)، ورواية عبده خال (فسوق) والروائية رجاء عالم الذين فازوا أيضاَ بالجائزة قبلها، فرواية (فسوق) رواية جريئة، وكانت تستحق أنها تنال الجائزة وتفوز بها. وكما هو الحال في رواية (موت صغير) فليست مجاملةً لكن فعلاَ سواءً من ناحية اللغة، أو ناحية تشكيل شخصية ابن عربي وكأنها شخصية عادت من التاريخ. وقد تحدثت الرواية في جانبٍ من جوانبها عن الأمير عبدالقادر، وتأثره بشخصية ابن عربي، في حدثٍ من الأحداث نجد أن الأمير عبد القادر يعود إلى المخطوطة، والأمير عبدالقادر تعرض للنفي، وهو مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، وكان قوياً وشرساً لقن فرنسا دروساَ كثيرة وكبيرة، لكن كانت هناك للأسف خيانات في هذه الحرب فتم نفيه إلى فرنسا، ثم اختار أن يكون في سوريا في دمشق، وله وقفات عديدة، وبخاصةً أنه أوقف مجزرة كانت ستقع وتصفية للمسيحيين وقد فروا إليه في بيته لإنقاذهم، هذا الموقف يحسب للأمير، ويحسب على أنه ليس فقط جزائرياً إنما توجهُ إنساني، وإنهُ فعلاَ جعل الإسلام دين يحتوى كل الديانات الأخرى، ويحتوى كل من يختلف عنه، فالأمير عبدالقادر حين اتجه إلى دمشق تأثر كثيراَ بقراءة مخطوطة ابن عربي، وكتب شعراَ في التصوف، ودفن بقرب قبر ابن عربي، فالروائي علوان الروائي عاد إلى الأمير عبدالقادر، وعاد إلى مرحلة تاريخية مهمة.

الرواية التاريخية
قد تكون رواية (موت صغير) أشبه بالبحث التاريخي؟
- بحث تاريخي فعلاَ، وأنت تقرأ تشعر بأنك لا تقرأ فقط رواية، وهذا ما كنا نتحدث عنه، الرواية لا تمنحك فقط الحدث التخيلي، لكن تجعلك تعيش بواقع، تجعلك تصبح مثقفاَ من جميع النواحي، حينما قرأت رواية موت صغير نجد فعلاَ أن هناك جهداً ضخماً من طرف المؤلف، فوجدت في هذه الرواية أيضاَ حديثاً حول الجزائر، وحول منطقة بياجة وهي كانت منطقة معروفة بألقها، وقد كتب ابن خلدون جزءاً من مقدمته فيها.
حينما يكون موضوع الرواية المادة التاريخية هل هذا ينفي عنها صفة أن تكون عملاً إبداعياَ له التزامات وشروط الروائية؟
بالنسبة للرواية التاريخية هي تأسست كما تعرف مع الأستاذ جورج زيدان، الذي فهم أن الرواية التاريخية، أن تأخذ مثلاَ عصراً من العصور أو شخصية من الشخصيات، ثم تقحمها في قصة تخيلية قصة فيها شخصيات زمان ومكان وهكذا، حين نقرأ جورج زيدان نجد أن هناك فصلاً فيه أحداث تخيلية لا نصدق أنها فعلاَ وقعت، وهناك المادة التاريخية والإطار التاريخي، ولهذا المتخصصون في مجال السرد أن التسمية الدقيقة هي الرواية التاريخية، يعني رواية فيها جزء من التاريخ، لكن الآن الروائيين العرب تغيرت نظرتهم لتوظيف المادة التاريخية فجعلوها جزءاً لا يتجزأ من النص التخيلي في حد ذاته، حتى أنهم أطلقوا عليه اسم التخييل التاريخي، وفرقوا بين أن يكون التاريخ وأن تكون المادة التخيلية بالحجم ذاته، أو تكون المادة التاريخية أقل حضوراَ من النص التخيلي، فهناك الأمر نسبي، وهناك الكثير من مثل هذه الرواية موت صغير للروائي علوان هنا تخييل تاريخي، لأن هناك أحداثاً تاريخية فعلاَ موجودة شخصية، شخصية تاريخية، لكن هذا لا يمنع من أن الروائي قلبها وشكلها بشكل جديد فعلاَ، تحس أن هناك بعداً تاريخياً لكنك تعيش تلك الأحداث التخيلية على أساس رواية، وهذه تقريباَ الآليات التي تجعل فعلاَ العمل الروائي تاريخياَ بامتياز.

النقد الروائي
كونك ناقدة إلى ماذا يمكن أن نعزو تفاوت الأعمال الروائية لدى المبدع؟
- مؤكد أن الروائي تتفاوت أعماله ودائماَ أحد الأعمال التي يصدرها الروائي سيكون لها حضور أكبر بالنسبة للأعمال الأخرى، وبالتالي فالقارئ يحكم على الأعمال التي ينتجها الروائي انطلاقاَ من النموذج، حين تكون هناك رواية نموذج تلقى إقبالاَ فالقارئ ينتظر أن ينتج الروائي أعمال أفضل من هذا العمل، ونجد ذلك مثلاَ عند الروائية أحلام مستغانمي، فهناك من ينتقد أعمالها الأخيرة، ويرى أنها أقل جودة من عملها الأول، وهذا شيء طبيعي ليس فقط عند أحلام إنما عند باقي الروائيين، عندنا مثلاَ واسيني الأعرج فهو يكتب الآن واقتحم عالم الكتابة الروائية بمختلف الاتجاهات، كتب عن التاريخ، أو التخيل التاريخي، كتب عن الذاتية والسيرة الذاتية، كتب عن الأوضاع السياسية، ولم يترك شاردةً ولا واردةً إلاّ وكتب عنها، وكتب أيضاَ عن التراث، ولكن تبقى روايته (نوار اللوز) كنموذج، وهي رواية جمع فيها ما بين التراث الشعبي متمثلاً في السيرة الهلالية، والهلاليون الذين أتوا من اليمن، وتنقلوا وصلولاَ إلى الجزائر ولهم جذور فيها حتى اليوم، فهو جمع بين التراث الشعبي والعالم التخيلي للعادي الذي تعيشه الشخصية، ولهذا دائماَ نحكم على عمل من أعماله بأنه جيد والبقية نحاول أن نحاكمها، ونضعها في كفة العمل الجيد.
كيف تنظرين إلى الحركة النقدية، هل هي مواكبة للعمل الإبداعي خصوصاً الروائية في السعودية؟
- بحسب ما اطلعت، ولا أعرف هل اطلاعي شامل، فهناك فعلاَ تأخر بالنسبة للنقد الروائي عن مسيرة الأعمال الروائية، حتى بالنسبة للدراسات العليا مثلاَ يتم استحضار الأعمال الروائية المعروفة، أما الأعمال الحديثة مثلاَ لا نجد لها قبولاَ أو اهتماماَ، وكان من المفروض أنه حين صدرت رواية (موت صغير)، مثلاَ أن يتم الاحتفاء بها وأن تلتقط من طرف الباحثين والنقاد، لا أقول النقاد الكبار لكن حتى لهؤلاء المبتدئين خاصة في الدراسات العليا الجامعية لأن النقد هو موطنه الجامعة، فالأعمال الجيدة دائماَ نجدها في أدراج وفي مكاتب الجامعة، وفي المكتبات الجامعية، ولهذا أي بلد يريد أن يطور منظومته النقدية عليه أولاَ أن يهتم بأعماله الروائية وأن يقحم هذا الجيل الجديد في هذه الأعمال، وقد وجدت أن هناك نوعاً من البطء، هكذا أرى.
كانت هناك دعوة إلى إيجاد تجمع نقدي خليجي كيف تنظرين لمثل هذه الفكرة، وهل يمكن أن تكون مثل هذه التجمعات داعمة للجهويات الإقليمية الإبداعية وانعزالها، أم داعمة لها؟
- لا، أرجح الرأي الثاني، نحن نحتاج أولاَ أن نجمع أو نؤسس ذوات على الأقل المستوى الإقليمي، فمثل هذه الفكرة محمودة ومشكورة لأنها تحاول أن تبعث أو تؤسس لقيمة المثقف العربي، والخليجي، ومن المؤكد أن هناك وعياَ بأن المثقف الخليجي يجب عليه أن يبرز أو أن يغير النظرة عنه التي يمكن أن تكون نظرة مقصودة، والهدف منها الحط فقط من الشخصية الخليجية، وهي تحط من الشخصية العربية، وكما قلت كل ما يسيء لبلدي فهو يسيء لنا جميعاَ، ويسيء لمنظومة عربية ككل، فنحن نشارك في ملتقى عالمي، نشارك باسم الأمة العربية، وبالتالي هذه الفكرة نتمنى أن تتسع لأن الأشياء تبدأ إقليمياَ ثم تبدأ الخطوات تتسع شيئاَ فشيئاَ، ثم يتم حصرها في مجالها الطبيعي والمجال العربي.

الشرق والغرب
ما سبب ضعف تداخل الحضور بين الشرق والغرب في عالمنا العربي على المستوى الثقافي أو الفكري أو الأدبي أو الإبداعي؟
- أكيد، أكيد فعلاَ هناك تقصير بالنسبة لنا كمثقفين وكباحثين عرب، وحدود الانفتاح ضئيلة جداَ لا تعبر عن حقيقة الترابط بين المجتمعات العربية. نحن أمة واحدة والمفترض أن تكون هذه العلاقات البحثية هي ديدن الحياة التي نعيشها، لكن فعلاَ نشهدُ نوعاً من الحضور الضئيل جداَ سواءً هنا في المشرق العربي وحتى في المغرب، ولولا وجود هذه الملتقيات التي يتم فيها استدعاء أسماء نقدية هنا وهناك وإلاّ انعدم هذا التواصل والحضور.
وهل هذا الحضور الضعيف قد يكون سببه الاختلاف في الاهتمامات البحثية والنقدية؟
- هو أكيد لكل شعب من الشعوب خصوصيته سواءً ثقافياَ أو حضارياً أو تاريخياً مع أنه تقريباَ الروابط التي تجمعنا هي أكثر مما نختلف حوله، فهناك منطلقات نختلف فيها كالمنطلقات البحثية، فتأثير المدرسة الفرنسية الفرانكفونية في المغرب أكثر من تأثير المدرسة الأنجلوسكسونية، وأرى أنه العكس بالنسبة للمشرق حضور الدراسات الإنجليزية، هي الطاغية، لكن هذه الملتقيات واللقاءات تجعل هذه الحدود بين المدرستين أو بين الثقافتين، أو بين الخصوصيات الموجودة عند كل بلد عربي تزول، فأنا حين أقرأ الرواية السعودية أو السعودي حين يقرأ الرواية الجزائرية يجد أن هناك نوعاً من التقارب والتشابك بين هموم الشخصيات أو حتى الأيديولوجيات التي يسعى الروائي إلى بثها في نصه الروائي، فلا نجد تقريباَ أي اختلاف، لأن الهوية التي يحاول الروائي أن يوصلها إلى القارئ هي تقريباَ هوية واحدة، هوية الشعوب العربية المستضعفة التي كانت نيل الاستعمار، والتي تسعى إلى أن تؤسس نفسها ونهضتها، فهذه تقريباَ هي مواضيع واحدة ولا يوجد اختلاف كبير فيها.

 
ذو صلة