حبيب غلوم: الدراما الخليجية يغلب عليها الصراخ والنواح
أسمهان الفالح: الإمارات
تزدحم مخيّلته بالذّكريات، فيقطع مساحة ممتدّة تدور بين الخاصّ والعامّ، ويرتحل ما بين أمكنة عدّة، فيحلّ في الشّرق والغرب ينهل من معين المعرفة الثرّة ويستزيد، ومن هنا تنساب الحكايا، ويحلّق حبيب غلوم حرّاً في سيرته، يستدعي صور من رحلوا وكان لهم عميق الأثر في تكوينه المسرحيّ حتّى لكأنّهم بعض من أناه وهم بعض منه، فهو المسكون بأكثر من آخر، إنّه المفرد في صيغة الجمع، يبوح لنا بهواجس جيل بأسره، ويروي انكساراته وأحلامه المجهضة.
وحبيب غلوم ممثّل ومخرج وكاتب إماراتيّ، حاصل على الدكتوراه في الأدب المسرحيّ من جامعة مانشستر في بريطانيا، تقلّد الكثير من المناصب العلميّة حتّى أصبح المخرج الأوّل في وزارة الإعلام والثّقافة وعضواً مؤسّساً لمسرح رأس الخيمة الوطنيّ، وهو يشغل حاليّاً وظيفة مستشار ثقافيّ. بدأ مشواره الفنّي في الثّمانينات على الرّغم من معارضة أسرته آنذاك، وشارك كممثّل ومخرج في العديد من المسرحيّات والمسلسلات الدراميّة، ومن أعماله: رحلة حنظلة، حكاية لم تروها شهرزاد، مجاريح، الخوف، المهجّرون، خيانة وطن والشّهد المرّ...
واتّجه غلوم في السّنوات الأخيرة إلى إنتاج المسلسلات التّي تشارك فيها زوجته الممثّلة البحرينيّة هيفاء حسين. وهو يطمح إلى تأسيس أكاديميّة للفنون في الإمارات لتخريج مواهب مبدعة في الفنّ. كان للمجلّة العربيّة لقاء مع حبيب غلوم على هامش مهرجان المسرح الصحراويّ بالشّارقة في دورته الـ 12 وهكذا كانت إجاباته كاشفة عن الكثير من البداهة والثّقافة العالية والخبرة والمراس الصّعب.
حبيب غلوم والمسرح، قصّة حبّ لا تنتهي... هل لك أن تحدّثنا بداية عن أطوار هذه القصّة وأبرز ما يميّزها؟
المسرح قصّة عشق يناهز عمرها الأربعين عاماً، فقد بدأتُ مسيرتي الفنيّة منذ أواخر السّبعينات بأدائي لدور (هاملت)، وشغفي بالمسرح جعلني أنتقل بتجربتي من طور الموهبة والهواية إلى سبيل التّأهيل والدّربة ونيل الاعتراف الأكاديميّ، فقد تخرّجت سنة 1987 من معهد الفنون المسرحيّة، قسم التّمثيل والإخراج، بتقدير عامّ امتياز عن أدائي لدور الحلاج في مسرحيّة (مأساة الحلاج) لصلاح عبدالصّبور، إخراج أحمد عبدالحليم. وحصلت على شهادة الماجستير في مصر سنة 1995، وكنت أوّل إماراتيّ ينال درجة دكتوراه في الأدب المسرحيّ من جامعة مانشستر في بريطانيا سنة 1999 عن أطروحتي (تأثير المتغيّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة على المسرح الخليجيّ).
فالمسرح بالنّسبة لي عمل جادّ يتطلّب تضحيات جساماً وصبراً لا يفنى، ويكفي أنّني كنت من أوائل النّاس الذّين اشتغلوا في الدّورات المسرحيّة ردحاً من الزّمن طويلاً وساهموا في دعم الشّباب وتدريبهم حتّى اشتدّ عودهم وصاروا اليوم نجوماً في الإمارات يشار إليهم بالبنان. وكنت أوّل من قدّم مسرحيّة مونودراما (مسرح الممثّل الواحد)، وأوّل من خرج بالعرض المسرحيّ إلى الفضاء الخارجي بعيداً عن العلبة الإيطاليّة، فقدّمت مسرحيّة (المنديل) المأخوذة عن (عطيل) لشكسبير في مهرجان المسرح التّجريبي الأوّل في القاهرة سنة 1988، وأعقبتها بمسرحيّة (في قصر الغوري) سنة 1989 في إطار نفس المهرجان ضمن نسخته الثّانية. هذا إلى كوني من المخرجين الإماراتيّين القلائل الذّين يهتمّون باللّغة العربيّة تنظيراً وتجريباً.
ما الذّي أضافه لك التّكوين الأكاديميّ وماهي الآفاق التّي فتحها أمامك؟
المعرفة تثبّت خطى الإنسان في شتّى المجالات العمليّة لأنّه سينجز المطلوب منه بدراية وحسب منهج أكاديميّ ورؤية ثاقبة، وقد أفدت من دراستي المعمّقة للمسرح الشّيء الكثير سواء كممثّل أو كمخرج أو كمدرّب في الدّورات والورش المسرحيّة، إذ حصّنتني المعرفة من خلط الأوراق مع بعضها البعض فلم أجمع بين المدارس والمذاهب المسرحيّة في العرض ذاته، وكنت حريصاً على إيصال الفكرة بشكل عميق للطّاقم الفنّي العامل معي لإيماني الرّاسخ بأنّ على الفنّان أن يفهم كي يبدع ويوصل هذا الإدراك والوعي للمشاهد بمنتهى البساطة والسّلاسة.
أين تجد نفسك أكثر، أمام الكاميرا كممثّل أو خلف الكواليس كمخرج؟
لكلّ عمل فنيّ متعته الخاصّة أمام الكاميرا، ففيما يخصّ المسلسلات الدراميّة المسألة تتطلّب تواجداً لحظيّاً سيّما وأنّنا نعمل دون (بروفات)، ما يطرح صعوبات عدّة على الفنّان تجاوزها من خلال الحضور الذّهني والاستعداد النّفسي، فلا خيار ثانٍ لدينا والحال أنّنا في عصر متسارع يشهد تنافساً محموماً بين المنتجين الذّين يشترطون الدّقة والجودة والسّرعة في الإنجاز وبأقلّ التّكاليف الممكنة ممّا يشكّل عامل ضغط كبير أيضاً على المخرج. أمّا عن المسرح فيتيح للممثّلين تجويد أدائهم والتّناغم فيما بينهم وسرعة التكيّف مع المكان بحكم التّدريبات اليوميّة المكثّفة فلا يجد المخرج حينها عنتاً في تفجير الطّاقة الإبداعيّة الخلاقة لديهم والوصول إلى ذروة العطاء.
(هارون الرّشيد) عمل أثار ضجّة كبيرة في الوسط الفنّي لأنّه لم يكن أميناً في نقل التّاريخ إسقاطاً وتحريفاً. فما تعقيبك على ذلك؟
ارتأينا أن نسلّط الضّوء في هذا العمل الفنّي الضّخم على الحياة الأسريّة لهارون الرّشيد وما شهدته من خيانات ومناوشات حدثت داخل القصر أكثر من خارجه وذلك قبل أن يتسلّم مقاليد السّلطة ويؤول إليه أمر البلاد والعباد، وهو خيار مدروس باعتبار ما يحفّ بحياة هذا الخليفة العباسيّ من تناقضات لم تكن محلّ إجماع من قبل المؤرّخين، فمنهم من صوّر إغراقه في التّرف والملذّات والمجون، ويذهب فريق ثان إلى أنّ هارون الرّشيد كان من خيرة الخلفاء سيرة وسريرة وتمسّكاً بالدّين وإجلالاً للعلماء، ثمّ إنّ العمل الدراميّ لا يتسّع لكلّ تلك التّفاصيل ولا يحتمل الشّتات. ومن جهتي أنزّه العمل عن الإسقاط والتّحريف وأشيد بالتزامه الأمانة والموضوعيّة في نقل الأحداث، لكنّ الحكم يبقى في النّهاية للمشاهد إذ لا نستطيع الاتّفاق حول عمل فنيّ واحد نظراً لاختلاف الرّؤى وتباين وجهات النّظر. وعموماً حقّق المسلسل نجاحاً منقطع النّظير بفضل تظافر جهود عدّة أطراف، فالفنّانون أدّوا أدوارهم بحرفيّة عالية والجهة الإنتاجيّة سخّرت كلّ الموارد البشريّة والماديّة اللازمة ليتمّ إخراجه في أبهى حلّة. وقد تمّ عرضه في رمضان على 18 قناة في نفس الفترة وهذا يعني أنّ نسبة المشاهدة عالية بحكم العرض والإعادة.
(خيانة وطن) عمل دراميّ ضخم، توجّه برسالة مشفّرة إلى مختلف شرائح المجتمع الإماراتيّ ولا سيّما الشّباب منهم. ففيم تتمثّل فحوى الرّسالة؟ وإلى أيّ حدّ نجحتم في بلوغ الهدف المنشود؟
يشكّل (خيانة وطن) مرحلة مفصليّة في مسيرتي الفنيّة لأنّني قمت بدور مزدوج في إطار هذا العمل، فأنا المنتج والممثّل في ذات الآن. وتكمن ميزة المسلسل في كونه يمسّ ثوابتنا القوميّة والوطنيّة ويحثّ الشّباب على الالتزام بها لئلا تتداعى أركان المجتمع وينهار بنيانه. وقد لاحظنا تفاعلاً كبيراً من مختلف الشّرائح العمريّة في الدّولة ورسالتنا، حتّى أنّ الصّحف المحليّة أشادت بالعمل مشيرة إلى ما يتضمّنه من شحنة دلاليّة عالية ومن مقاصد بعيدة المرمى لافتة إلى أنّ د.حبيب غلوم استطاع أن يغيّر صورة أو ملامح الدّراما الإماراتيّة.
هل تؤمن بدور التّنازلات في الفنّ؟
يضطرّ الفنّان أحياناً إلى تقديم بعض التّنازلات ليجامل صديقاً مخرجاً أو منتجاً، ومع أنّني لا أحبّذ كثيراً هذا الموضوع لأنّ التّفريط في وجودك الفنّي والتخلّي عن أجرك الأساسيّ يظهر مردوده السّلبي مستقبلاً، فإنّني لا أجد ضيراً في التّنازل عن شيء من مردود الممثّل الماديّ أمام عمل مميّز طرحاً ومضموناً باعتبار أنّ المردود المعنويّ يغطّي الفارق. وقد تجد نفسك مجبراً على القبول بدور ليس في حجمك فنيّاً مقابل تعويضك ماديّاً شريطة ألا يدخل العمل في إطار التّفاهة والإسفاف وتقديم قضايا لا تمتّ إلى الواقع بصلة أو فيها تجنّ صارخ عليه. فالمبدع الحقيقيّ يفرض على نفسه رقابة ذاتيّة ويحاول أن يكون موضوعيّاً في خياراته عقلانيّاً في توجّهاته.
صرّحت في أحد اللّقاءات التّلفزيونيّة بأنّ (الدراما الخليجيّة يغلب عليها النّواح والصّراخ وتقديم أنماط سلوكيّة غير سويّة، وأنّ معظم الفنّانين الخليجيّين ينصرفون عن معالجة مشاكل المجتمع لينشغلوا بتفاهاته طمعاً في الكسب الماديّ). فهل يمكن اعتبار هذه الهنات سبباً مباشراً في رفض حبيب غلوم للعديد من العروض خلال السّنوات الأخيرة؟
هذا ليس كلامي فقط بل كلام شريحة كبيرة من المشاهدين الذين عبّروا عن تذمّرهم من ظاهرة التّكرار في الأعمال الدراميّة الخليجيّة بشكل عامّ، واستهجنوا ما لاحظوه من تجنّ على الواقع المعاش من خلال طرح قضايا وأفكار شاذّة بالقياس إلى زمان وقوعها ومكانه، ولكن نحن نأخذها كقصّة حقيقيّة ونبني عليها أحداثاً وبالتّالي تصبح هذه القصّة ظاهرة اجتماعيّة موجودة في الخليج بكثافة، وهي لعمري مغالطة كبرى ضحيّتها المشاهد الأجنبيّ على وجه الخصوص. ومثال ذلك إثارة بعض الأعمال الدراميّة لمشكلة دخول أنثى لصالون رجاليّ لقصّ شعرها. هذا الأمر قد يكون حدث لمرّة واحدة في فترة زمنيّة بعينها لكن لا يخوّل للآخر طرقها كقضيّة تستوجب النّقد. ومن جهتي، أبرّئ الممثّلين عن هذه الصّورة السلبيّة التّي تمّ ترويجها عن الدراما الخليجيّة وأحمّل المسؤوليّة للمنتجين لتقديمهم لقضايا في غير محلّها.
ما هي الحلول الكفيلة برأيك بعودة الدراما الخليجيّة إلى جادّة الطّريق؟
تعاني الدراما الخليجيّة من ندرة كتّاب السّيناريو، لذلك نرى أنّ القلّة يأخذون على عاتقهم مسؤوليّة تقديم أكثر من عمل في السّنة ما يؤدّي إلى غياب الدّقة في الطّرح واجترار الأفكار المستهلكة، فتطالعنا بعض المسلسلات باهتة الحضور مغرقة في الإسفاف. ومن الحلول التي قد تسهم في تجاوز هذه الهنات والحصول على نصوص مكتملة عميقة في مضامينها ومقاصدها، التأنّي في كتابة الأعمال الدراميّة، والتّركيز على أهمّ المحطّات في عرض القضيّة، ومعالجتها بشكل عقلانيّ وحضاريّ بدل الاستعجال والدّخول في متاهات الحلول الإخراجيّة لحلّ بعض الهفوات والنّقائص في هذا النصّ أو ذاك.
ما هي التحدّيات التّي يواجهها مسرح الطّفل اليوم في الإمارات؟
أشرفت على إدارة مهرجان الإمارات لمسرح الطّفل منذ عقد ونيف تقريباً، وقد ترسّخ لديّ خلال تلك الفترة الزمنيّة الطّويلة من التّسيير والمراس الصّعب اعتقاد بأنّ هذا الفنّ الموجّه إلى النّشء لا يمكن أن يتطوّر ويبلغ الأهداف المرجوّة منه مالم يحصل تغيير جذريّ في عقليّة المواطن ونظرته إلى الفنّ من ناحية وفي تعامل الدّولة مع الموازنات المخصّصة لوزارة الثّقافة عموماً ولقطاع المسرح بشتّى فروعه على وجه الخصوص من ناحية أخرى، فلئن استثنيا الشّارقة وما توليه من عناية فائقة بالمسرح حتّى غدت الرّكيزة الأساسيّة لهذا القطاع بل ومنارة للثّقافة والعلوم والإبداع في دولة الإمارات وفي الوطن العربيّ، نسجّل غياباً لافتاً للمسرح في سائر الإمارات التّي تمثّل حوالي 95 بالمئة من أرضنا ولعلّي لا أبالغ إذا قلت إنّها مناطق خاوية من الإبداع والفنون، لذلك يبقى التحدّي الأكبر الاهتمام بالمسرح في المقام الأوّل كي نتمكّن من تقديم عروض مسرحيّة بشكل يجذب الأطفال ويأسر الألباب (أزياء/ موسيقى/ خدع بصريّة...) لكن أنّى لنا أن نحقّق هذا المبتغى أمام ضعف الميزانيّة المخصّصة لدعم المسارح، فالدّعم السّنوي ويقدّر بحوالي 150 ألف درهم لا يكفي لإنتاج مسرحيّة واحدة ذات جودة عالية، فلكي نقدّم عملاً بالمواصفات المطلوبة يلزمنا ضعف هذا المبلغ على الأقلّ.
يعيب غلوم على المناهج الدراسيّة عدم احتفائها بالفنون كما تستحقّ، ويحمّلها مسؤوليّة فقدان الطّفل الكثير من شحنات المحبّة والخير والمال. فهل أنّ الفنّ يحارب التطرّف؟
على هامش ختام مهرجان المسرح المدرسيّ، كان لي لقاء منذ سنين خلت مع معالي وزير التّربية (حسين الحمادي)، وتكلّمنا عن أهميّة أن تتصدّى الوزارة للمشاكل الجديدة التّي استشرت في مجتمعاتنا ومدارسنا خلال الآونة الأخيرة مثل التّنمر والتّوحد. فسألني: كيف السّبيل إلى ذلك؟ فقلت له: تعتمد مناهجنا المدرسيّة أساساً على المعلومة والأرقام، في حين يتمّ تهميش المواد التّي تخاطب الرّوح والوجدان ما يجعل أولادنا في عزلة تامّة عن العالم. واقترحت عليه إدماج الموسيقى والرّسم والمسرح ضمن مناهجنا كما كانت قبل ثلاثين سنة. فتمّت الاستجابة بشكل سريع ودخلت هذه المواد حيّز التّطبيق. ورغم ما واجهنا في البداية من صعوبات لعلّ أهمّها نقص مدرّسي المسرح، فإنّنا نفخر بهذه الخطوة ونأمل أن نعيد بتظافر الجهود مكانة المسرح المدرسيّ، لما له من دور فعّال في تنشئة الطّفل وتكوينه النّفسي، إذ لا طاقة لنا على مواجهة التطرّف بمعزل عن الفنّ وما يحمله من نظرة إيجابيّة للحياة والتطلّع إلى المستقبل بتفاؤل وبعين راضية، عكس السوداويّين الذين يرتكبون الفظائع باسم الدّين طمعاً في الجزاء كما يزيّن إليهم. فلو أقبلوا على الفنون لما كان هذا حالهم ولما تسبّبوا في أذيّة غيرهم.