عواض العصيمي: الكاتب الذي لا يقرأ في النقد مثل الكاتب الذي لا يقرأ الروايات
أحلام حادي: جدة
(طيور الغسق) للروائي السعودي عواض العصيمي نص مختلف حقاً يدوّخ قارئه بتعقيده التقني: تعددية الحكايات ورواتها، وتداخلها، وتقويضها بعد نسجها. ولا يملك إلا أن يوافق متلقيها داخل الحكايات نفسها التي ترويها شخصيات متعددة في أنه (حكي متقن يخطف الألباب).
نص يشهد على تطور الرواية السعودية فكراً وتقنية ولغة، وعلى عمق وعي مبدعيها بشروط اللعبة السردية وأسرارها. وهو ما يشف عنه حواري الطويل مع العصيمي، وفيه يتبيّن القارئ تشعّب قراءاته في مجالي الإبداع والنقد وغيرهما، ويستشعر نبرة الثقة والاعتداد بذاته الإبداعية، نبرة تثير الإعجاب لأنها -ببساطة- نبرة مَن كافح في تثقيف نفسه وتجويد فنه، ومارسه بعشقٍ وفرح، فأثمر كتابة أصيلة فريدة، ولن يخفى عليه أيضاً أنها نبرة ممزوجة بمرارة أليمة كابدها من استعلاء عنصريّ في تلقي نصوصه الإبداعية، ربما كان باعثها الغَيْرة ومحدودية الأفق الإبداعي والنقدي على حد سواء.
صرَّح بعض الروائيين أنهم يمرون بمرحلة إعداد معرفي متأنٍ، قد يمتد أعواماً قبل شروعهم في الكتابة الروائية لتأسيس قاعدة صلبة تدعم أطروحاتهم الفكرية والحقيقة التي ينشدونها؛ هل سلكت سبيلهم قبل كتابتك (طيور الغسق)؟
- قبل كتابة رواية (طيور الغسق)، كتبت أربع روايات وأكثر من مجموعة قصصية. وجميع هذه النصوص كتبتها في فترة ما يمكن أن أطلق عليها مسمى (الاستواء الكتابي)، وأعني بذلك اللحظة التي أجدني فيها حاضراً بقوة لأكتب. ولكن تسبق هذه اللحظة جرعة كبيرة من القراءة قد تمتد إلى شهور أو سنوات مع تفاوت في كثافة القراءة وطولها بين دورة كتابية وأخرى. وبدهي أن القراءة ترفع الاستعداد للمغامرة الإبداعية وتمنح الكاتب التدريبات الجمالية والتقنية الممكنة للتفكير في كتابة نص روائي جديد يتحرى أن يكون مختلفاً عن سابقه. القراءة في نتيجتها العامة هي ما يكون عليه الكاتب في طور جديد من تشكله معرفياً وثقافياً، بل حتى في تشكله ذهنياً وروحياً، تمهيداً لوضع نفسه بكليتها في خدمة لحظة فارقة يسميها لحظة النص أو ما شاء أن يسميها. وهي لحظة غيبية، غير معلومة البدء والخاتمة، (إني لا أقرر ما أكتب، يحدث أن تمتلئ الروح برغبة خفية في كتابة شيء ما، ثم تقفز) كما يقول الكاتب المصري إبراهيم عبدالمجيد. فالكاتب لا يمكنه التحدث بثقة عن الإمساك بهذه اللحظة في صراعه المستمر مع الوقت، لكن الرهان عليها مهم في التشبث بأمل أن يعيش تجربة كتابية جديدة بكل تفاصيلها ومفاجآتها وتحولاتها. أي كما يعيش المغامر تجربة إضافية من ركوب الأخطار يخشى أن تفوته لذتها وجمالها، لأن هذه العناصر في غاية الأهمية لإدخاله حياة جديدة لم يذق مثيلاً لها من قبل.
يُقر الأدباء والفلاسفة بدور الأدب في علاج الإنسان وإصلاحه أخلاقياً واجتماعياً وحتى نفسياً؛ إلى أي مدى تتفق مع الرأي القائل بدور علاجي أو إصلاحي يضطلع به الأدب؟ ومن منظورك قاصاً، ما الأهداف التي تتطلع لتحقيقها من الكتابة؟
- تصعب الإحاطة بهذا السؤال الكبير؛ فأنا لست متخصصاً في بابه وعلومه، ولكن الكتابة - فيما أرى - نشاط روحي بقدر ما هي عملية فنية، فالروح والفن مترابطان في المجال الإبداعي، وكلما ذهب الكاتب أو الفنان أبعد في إتقان عمله كانت تجليات الروح في صقله وتشفيفه كبيرة، ولذلك أزعم أن الخبرة الروحية في كتابة النص الأدبي من الأهمية بحيث تدفع الكتابة إلى آفاق تندرج ضمن مكتشفات الكاتب ومبتكراته في مشروعه. هذا على مستوى الأثر الأدبي المهم في الكاتب نفسه باعتباره مبدعاً، باعتباره منشئ النص وموجده وما يثيره هذا الفعل الفريد في ذاته وروحه. أما من جهة أثر الأدب في القارئ فلست خبيراً في هذا المجال أيضاً لكني أظن أن الأثر يقترن بمدى الفاعلية التي يتوخاها النص الأدبي من القارئ.
(وحدهم الرعاة من تتاح لهم رؤية العالم)؛ هل يمثل الراعي المتأمل والحكّاء المُتقن شطرين تشظّيا من أناك الإبداعية، فقد مارستَ الرعي صبيَّاً، والحكي المتشعب كله من فيض مخيلتك؟
- نعم مارست الرعي في طفولتي وأدخلتني عملية الرعي المؤقتة في فضول جميل يتمثل في كوني بت مسؤولاً عن عدد كبير من الأغنام دون مقدمات، والأهم أن تلك المسؤولية ملأتني بوحدة واخزة في صحراء كان عمري الصغير لا يسمح باستيعابها على نحو مفهوم، فالتقت وظيفتي الجديدة تماماً بالنسبة إلي، ورؤيتي الجديدة أيضاً للمكان الذي كلما ابتعدت فيه ازداد خلاؤه وصمته. كان (المفلى) بعيداً عن المنازل، وهاته اللفظة تعني المرعى الذي تنتشر فيه الغنم وراء النباتات على مسافة من البيوت. علمتني هذه الهواية المهذبة أشياء عديدة. ولعل هذه التجربة كانت مما أتيح لي تأهيله في السرد. ويمكن الادعاء، إن جاز الادعاء، أن إنشاء العمل السردي هو في صورة من الصور شبيه بمهمة رعي الغنم، فالدور المهم للراعي هو ترك الغنم تنتشر بطريقتها وراء العشب، ولكن لا بد من حماية القطيع من التشتت والتبعثر في المكان، ولا بد أيضاً من حراسته من الضياع والسباع، يضاف إلى ذلك أن هدوء القطيع مهم لتناول وجبته اليومية من النباتات، وهذا يتطلب فن المتابعة الرفيقة، بحيث تخلو المهمة من الرعونة والشقاوة التي تثير القطيع وقد تفككه إلى فئات مضطربة خائفة تركض كل فئة في ناحية. عندما نتأمل عملية إنشاء النص الروائي قد نقارب صورة الراعي على ما يفعله الكاتب في ضبط نصه وشد بعضه إلى بعض وتخليصه من العبارات التي تتسبب في تشتيته ونفي الكلمات الناشزة التي يكتشف أن لا مكان لها في النص.
كيف يرى عواض العصيمي إبداعه السردي، لاسيما بعد ترجمة روايته للفرنسية؟ وبمَ يتميز في رأيه؟
- لا أقيم أعمالي، وإن كان ثمة رأي أبديه عند قراءتها وتأملها فكثيراً ما أقول لنفسي من الأفضل أن أحتفظ به ولا أبديه لأحد. لماذا يجب على الكاتب أن يتحدث عن أعماله حينما يطرح عليه سؤال مثل هذا؟ بماذا يجيب وفي أي حال يتحدث؟ من البدهي أن الكاتب يحب أعماله فهل يثني عليها وهي بين أيدي القراء والنقاد والباحثين؟ بل هناك من يسألني أي أعمالك أفضل لديك؟ وهذه ورطة أخرى لا أستطيع الدخول فيها بطريقة سليمة وآمنة. لقد كتب عن رواياتي العديد من الدراسات والأبحاث، بعضها تركز على دراسة رواياتي فقط، وبعضها الآخر كان ضمن دراسة أوسع لمجموعة من الروايات المحلية وكان منها بعض أعمالي الروائية. لكني عندما أنظر إلى سردي المتمثل حتى الآن في ست روايات فإنني لا أصفه بالقليل من حيث العدد، ولا بالسيئ من حيث القيمة، والمهم في هذا الشأن هو أنني كتبت هذا الكم وأنا على درجة جيدة من الاستعداد الذهني والفني والروحي بحيث يصعب الآن أن أعيد كتابتها بنفس اللياقة والاستعداد. بل هناك عامل آخر مهم للغاية، وهو وارد الفرح الذي كان يغمرني وأنا أكتبها، كل رواية على حدة، في وقتها وطقسها وخصوصيتها. إن كان هناك ما ينبغي ذكره من جهة ما قدمت، فهو أنني ركزت معظم مشروعي السردي على عوالم الصحراء، أو على تسريد الصحراء إن كان الوصف جائزاً، وربما أمكن القول إنني قدمت بعضاً من عوالم الصحراء في وجوه وأشكال جديدة على السرد المحلي. وهذا القول ليس من باب النرجسية بالطبع وإنما هو رصيد أعمال منجزة قضيت من أجل إنجازها شطراً كبيراً من العمر. والمسألة نابعة من حب عميق للصحراء، وكنت ومازلت أطيل مراقبتها من كوة المدينة وهي تفقد المزيد من سكانها لمصلحة المدينة دون أن تستطيع تعويضهم عن الصور الأولى التي كانت عليها في عهود اكتمالهم بها وفرحهم بفجاجها يوم كانت سبيل العيش الأنسب لحياة مثقلة بالقسوة والسغب لكنها على الرغم من ذلك كانت الجنة الممكنة حتى في المحل. الآن لم تعد المأوى الرحيم كما في السابق، بل تكسرت على الدروب الخارجة منها آثار الفارين منها إلى طرائق عيش تعد بها المدينة صدقاً أم كذباً.
هل ترى أن اطلاع القاص على الكتابات النقدية مفيد، يُسهم في تنمية ملكاته وارتقاء كتابته الإبداعية؟ أم هو على العكس يُعرقله ويعطِّل قدراته بما تتضمنه من نظريات ومناهج غالباً ما تكون معقدة وضبابية لأسباب لا حصر لها؟
- بل أرى أن من المهم للكاتب أن يقرأ ما يصدر في النقد من أبحاث ومؤلفات، على أن تصدر من متخصصين، سواء أكانوا عرباً أم غير عرب، فالنقد المتخصص يضيء للكاتب الكثير من الملاحظات التي لا يجد لها جواباً في عملية الكتابة الروائية، ويقربه من فهم الرواية كمصنع خصب للتقنيات والتجارب لمن يصغي إلى الناقد المتمكن وهو يفتح حواراً مع الأعمال الروائية التي اختارها لبحثه، أو يفكك طرائقها في الكتابة، أو يكشف مقارباتها في تناول المواضيع الروائية، أو يستقري العلاقة بين النص وكاتبه من زاوية الإبداع ومنشئه، إلى غير ذلك من الاشتغالات النقدية المتعمقة في مجالاتها. لا شك أن للحقل النقدي بكافة فضاءاته أهمية كبيرة في رفد الكاتب بقدر مهم من أسرار الكتابة المستخلصة من تجارب روائية سابقة. والكاتب الذي لا يقرأ في النقد مثل الكاتب الذي لا يقرأ الروايات التي يكتبها غيره، كلاهما يتكلس في زمن مبكر ويتيبس نشاطه على ما كتب ويصعب بالتالي أن يجدد نفسه ويطور إمكاناته.
من قراءة سِيَر بعض الكُتَّاب العِظام في الشرق والغرب يتبيَّن القارئ أنهم لم يبلغوا القمّة إلا بعد مجهودٍ شاقٍ في القراءة، وإصرار دؤوب على الكتابة ومحاولة النشر، فنجيب محفوظ مثلاً يُقرّ في حوار معه أن ثلاثاً من رواياته وأقاصيص كثيرة رُفِض نشرها، ولكنه واصل مشواره الفني بـ(عناد ثور) على حد تعبيره، ومثله الروائي الأمريكي إرسكين كالدويل Erskine Caldwell.
هل واجهتَ مشكلة أياً كان نوعها في نشر إنتاجك لاسيما في بداية رحلتك الإبداعية؟
- هذا موضوع طويل. على صعيد النشر لم تواجهني مشكلة كبيرة. لكن هناك بعض المصاعب وبعض المواقف الغريبة، من أهمها أنني طبعت روايتي الأولى في عمّان، شأني شأن العديد من الكتاب الذين فضلوا النشر في الخارج لأسباب منها ما كان يتعلق بحدة الرقابة على المطبوعات في الداخل، ومنها ما يتصل بوطأة النظرة (الصحوية) الكارهة للأدب الحديث. وكانت تلك النظرة ذات تأثير اجتماعي ملحوظ، وأحدثت في فترة اشتدادها ضجيجاً ولد الكثير من التوتر المجتمعي انعكس سلباً على الأدب الحديث وبالذات عندما صدر بعض المؤلفات التي تستبطن في مواضيعها تحريضاً على عدد من الكتاب. غير أن هناك من أسباب النشر في الخارج ما له علاقة بهاجس أن يعرف الكاتب في محيطه العربي بنفس القدر الذي يهمه أن يتحقق له في المحيط المحلي. صدور روايتي الأولى من عمان عام 2002 لم يحقق لي أياً من بشارات المقروئية المتوقعة في حينها، سواء من النقد أم من الجمهور، وهذا مفهوم لكونها التجربة الأولى في الرواية. الذي واجهني بعد صدور عملي الأول ثم استمر معي حتى عملي الثالث تقريباً، هو نظرة اتسمت بشيء من التحفظ، أو الاستنكار بمعنى أدق من قبل بعض النقاد المحليين لأعمالي. ويتمثل هذا الموقف في كوني من (البدو) حسب تصنيفهم الاجتماعي للناس، ومن ثم يتركز استغرابهم في صعوبة تقبلهم أن أكتب رواية، وذلك وفق المفهوم السائد حول أن الرواية هي ابنة المدينة، وأنها حسب اعتقادهم مُلكية مدينية لا يحسن أن يكتبها إلا (حضري) من أهل المدينة. هذا على الرغم من أنني أقيم بالمدينة منذ الصغر لكنها إشكالية التصنيف الخاطئ للمجتمع من قبل بعض من ينسب للثقافة والأدب. وقد حدث معي بعد صدور روايتي الأولى بعام أن أحد النقاد المحليين تحدث معي ملمحاً إلى أنني (شاعر شعبي) ويشير من بعيد إلى أن الرواية لن تكون المجال الذي أبدع فيه، وأن علي أن أركز على الشعر الشعبي باعتباره الأدب الذي يعبر حالياً عن الصحراء والبدو. بهذه السرعة وبهذه الجرأة تقمص دور الوصي! ولمست هذه العنصرية بوضوح أكبر في كلماته الأخرى. ففكرت وقتها هل علي أن أرتهن إلى حكم هذه النظرة العدوانية المملوءة بالازدراء أم يجب علي أن أتجاهلها كلياً وأستمر في مشروعي الذي ارتضيت بناءه لنفسي؟ بل إن بعض كتاب الرواية، وصفني بعد صدور عملي الأول بـ(الكاتب المتعاون) أي أنني لم أكتمل من وجهة نظره في كتابة ما يكفي من الروايات لأكون أديباً روائياً، فهو يقيم الروائي من خلال الكم الذي يكتبه وليس من خلال القيمة والإضافة، ولعل ذلك يعود إلى أنه هو نفسه روائي مكثر قليل الإبداع. الكيد الشخصي في هذا الشأن كثير، وخصوصاً من الوسط الروائي، لكني لم أحفل بذلك.