طارق الطيب: أنحاز في الكتابة إلى كل السيئات
أحمد اللاوندي: مصر
طارق الطيب، من مواليد القاهرة. انتقل عام 1984 إلى فيينا، حيث أنهى دراسته في فلسفة الاقتصاد وهو يعيش الآن هناك، ويعمل، إلى جانب الكتابة الأدبية، بالتدريس في ثلاث جامعات بها. صدر له عدد غير قليل من الكتب الأدبية، ما بين الرواية والقصة القصيرة والشعر والمسرحية والمقال، كما نشرت ترجمات لهذه الكتب بلغات أوروبية كثيرة. شارك بمهرجانات وملتقيات أدبية عالمية، وحصل على العديد من المنح الكبرى والجوائز، منها: منحة إلياس كانتي الكبرى في فيينَّا، والجائزة الكبرى للشعر في رومانيا، ووسام الجمهورية النمساوية تقديراً لأعماله في مجال الأدب والتواصل الأدبي داخلياً وعالمياً.
ولدت في حي باب الشعرية بالقاهرة، ما أهم الأحداث التي لا تزال حية في ذاكرتك من خلال تلك النشأة؟
- الصواب، حسب تصحيح أمي، أنني وُلِدتُ في حي عين شمس العريق، وكان تسجيلي الرسمي بحي باب الشعرية، حيث كانت جدتي لأمي تعيش في منطقة الحسينية. إن ذاكرتي تكتظ بثلاثة أمكنة: عين شمس القديمة ذات البيوت المنخفضة من دور واحد في أغلبها والفيلات الجميلة والشجر والنخيل الكثير، ولا عجب! فعين شمس هي آخر حدود شمال القاهرة وتتاخم بدايات الدلتا عند أقدام محافظة القليوبية، ولي مع غيطان عزبة النخل والقَلَج ذكريات و(شقاوات) لذيذة لن أنساها، بل كانت هناك ترعة صغيرة بالقرب من البيت من بقايا فروع ترعة الإسماعيلية. كنت أذهب للصيد منها، وفيها رميتُ جريمة أشعاري عن حبيبتي الأولى قبل السفر.
أما المكان الثاني هو منطقة البيومي في الحسينية حيث عاشت جدتي لأمي في بيت عالٍ، وكانت تقطن الطابق الأخير، الذي رأيت من فوق سطحه أسطح بيوت مصر ومساجدها وجبل المقطم. عشت على هذا (السطوح) بهجة الطائرات الورقية ومشاهدة (غِيّات) الحمام، والمشي في الحارات الضيقة الملتوية وتأمل طقوس الزار والموالد والحياة المصرية القديمة المتوارثة بشعبيتها الأصيلة ومزاجها الفريد. ثم العريش في سيناء، حيث البحر وأجمل نخيل ورمال، وسط جيران من خليط فريد من المصريين والفلسطينيين والسودانيين.
لماذا اخترت أن تقيم في العاصمة النمساوية فيينا، وهل ثمة أشياء تميز المجتمع النمساوي عن غيره من المجتمعات الأوروبية أو الأمريكية؟
- اختياري لفيينا كان شبه عفوي، فبشكل مفاجئ في عام 1981، وبسبب أنني سوداني الجنسية، لم أتمكن من استكمال أطروحة الماجستير في جامعة عين شمس، إلا بعد الوفاء برسوم دراسية باهظة، وكنت مضطراً للتوقف عن استكمال الدراسة في جامعة عين شمس لهذا السبب. بدأت بأول تغريبة نحو العراق وتحديداً إلى أربيل، وذلك في أوائل الثمانينات بعد تخرجي، إبان الحرب العراقية الإيرانية. عدت من العراق إلى مصر بخفي حنين، وقررت أن أسافر إلى أي مكان ناء في أوروبا والإسكندنافية منها لو أمكن. وبناء على مراسلاتي للبحث عن جامعة أوروبية تقبلني لمتابعة الدراسة، كانت النمسا هي الأفضل.
لقد قبلتني للدراسة بها مجاناً باعتباري من دول العالم الثالث، وكانوا يردون لي الرسوم الزهيدة بعد اجتياز كل امتحان لأدفعها من جديد ثم أستردها مرة أخرى. النمسا دولة وسط أوروبية تتمتع بمستوى معيشي مرتفع جداً، وتتميز بالنشاط الشديد والهادئ، مُحِبة للفنون والأدب بشكل طبيعي عادي غير استعراضي، الموسيقى مثلها مثل الأكل والشرب تُعد من أساسيات الحياة، والفن تراه في كل تفصيلة صغيرة تقع عيناك عليها ولو كانت رصيفاً أو كيساً لحمل المشتريات.
روايتك (وأطوف عارياً) ترصد أوضاع الأفارقة المهاجرين عبر قوارب الموت إلى أوروبا. نود أن تقربنا أكثر من عوالمها، وما دلالة استخدام الرمز فيها، وهل حضوره بهذه القوة له مدلول تاريخي أو فرعوني عندك؟
- في الرواية مدخل يتناول قضية الهجرة بشكل أظنه جاء مختلفاً نسبياً، فهو لا يُفصِّل أو يتوقف عند معاناة الرحلة كبداية وكمسيرة، وإنما يضيء لحظة المأساة عند الوصول إلى البر الآخر، الوصول إلى اليابسة والتعامل على الأرض الصلبة وسط بشر لهم قلوب وبشر بلا قلوب. ربما الرموز تأتي في المدخل الأول: (المبتدأ) في (الصندوق الأسود) ثم في المدخل الثاني (الخبر) في (الصندوق الأبيض)، ثم في مجموعة الأحلام الضرورية التي نسجتها الرواية لربط الحجرات الأفقية الواقعية بسقف الخيال العلوي الضروري. أما استخدام أسماء مينا ورمسيس وإيزيس فله حكاية أبسط لكنها أعمق، ولا أحب أن أفسدها على من لم يقرأ الرواية.
لمن ينحاز طارق الطيب؟
- أنحاز في الكتابة إلى كل السيئات: العنصرية والجهل والظلم والكراهية واللامبالاة والعرقية والتخلف والاستبداد والبغضاء والإذلال، أنحاز لها كتابياً لأُظهِرها أكثر وأُبرِز سمومها، حتى لا تمر مرور الكرام من أبواب اللامبالاة التي تملأ فجوات حياتنا. الانحياز هنا لم أقصد به شكل الموافقة بل الاعتراض والتمرد، مثل رسام يرسم لوحة قبيحة للغاية ولوحة مفرطة في دمويتها ولوحة حرب بشعة، للتنبيه إلى قيمة الجمال وإلى المعادل القيمي والروحي للسلام والعدل.
على فن الكتابة أيضاً أن يعادل فن الرسم من وجهة نظري، أي إظهار القبيح بالانحياز لفضحه وليس لمؤازرته والوقوف إلى جانبه وتعضيده.
تُرجِمَت أعمالك إلى عدة لغات، ولك قراء في شتى أنحاء العالم. ترى، أي شيء يميز كتاباتك؟
- صحيح أنه تُرجِمَت لي كتب إلى ثمان لغات وهي الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والصربية والمقدونية والرومانية. كذلك في أنطولوجيات ربما تعدت العشرين لغة، لكن من الجدير بالذكر أن هذه الترجمات قد صدرت في عدد محدود من النسخ ما بين خمسمئة نسخة إلى ثلاثة آلاف نسخة. والصحيح أن هذه الترجمات قد فتحت آفاقاً بعيدة للسفر وللحوار المباشر في بلاد تلك اللغات، وكونت فيها صداقات غالية مع كاتبات وكُتّاب من كل أنحاء العالم، وشرُفت بالتعرف والقرب من أسماء عالمية مرموقة، لكن، من ناحية أخرى، لا يمكن أن أقول إن كتاباتي مميزة بشيء معين، القارئ والناقد هما الحَكَم. ليس بمقدور الكاتب أن يمدح أو يهجو كتاباته، لكني قرأت عمّا كتبتُ كلاماً مفرحاً بلغات عديدة، وتلقيت دعوات احترمَتْ كتاباتي، وما زلت أحاول أن أكتب الأجود.
في النمسا أنت تُدرِّس بالجامعة، وتتقن اللغة الألمانية وغيرها من اللغات، لكنك تكتب بالعربية بشكل دائم. ما السبب؟
- نعم، أُدرِّس باللغة الألمانية في الجامعات النمساوية، بل أُدرِّس تقنية الترجمة من الألمانية إلى العربية بأهم قسم في جامعة جراتس العريقة، وأكتب بالطبع مقالات علمية وكتابات أكاديمية أخرى باللغة الألمانية، لكن كتابة الأدب تحتاج عندي للكثير الذي ينقصني من السلاسة والمرونة في استخدام اللغة بصورتها الأدبية العفوية الراقية. هناك البعض الذي يستطيع أن يتعامل بلغتين أو أكثر بنفس القدرة والقوة، خصوصاً من نشأ صغيراً على أكثر من لغة، وهؤلاء ينجزون نصوصاً قوية لا غبار عليها. وهناك من يتصدى للغة الأجنبية بجهل كبير، ويظن أن ما يكتبه هو لغة ألمانية، والغالبية منهن ومنهم لا يتقنون لغتهم الأم من الأساس، البعض يستعين بأصدقاء من أصحاب اللغة الأم ويحذفون في النهاية أسماء كل من أرهق نفسه على نصوصهم، لكنك إن أصغيت إلى جملتين منهم في الألمانية -وكنت تجيد اللغة- ستدرك فوراً هذا الاستسهال الضال والجهل العظيم.
كتبت الشعر والقصة والرواية والمسرح، كيف استطعت أن تمارس هذا التعدد، وما المهارات التي يجب أن تتوافر في المبدع لكي يمارس كتابة كل هذه الأجناس؟
هذه الأجناس من الكتابات سواء القصة أو الرواية أو الشعر أو المسرحية ليست بعيدة عن بعضها هذا البعد الذي يظنه كثيرات وكثيرون. إنني لا أسمي هذا تعدداً بل تنوّعاً، فالتنوع في النوع الكتابي نفسه يتبدل ويتواصل بمرونة عند البعض، وعلى القارئ أن يحكم على النص وليس على كاتب النص، هناك كثيرون ارتكبوا هذا التنوع على مر التاريخ.
على أية حال، كتبت مسرحية واحدة بالعربية وأخرى قصيرة جداً بالألمانية. وأنا موجود أكثر في حقل الرواية والقصة والشعر، وهي ليست بطولة وليست شيئاً خرافياً كما يتصور. قد تجد شخصاً متميزاً أيضاً في شيء تظنه بعيداً عن الأدب، كمن يكتب كتابات علمية مهمة ويمارس الأدب، وهناك من يعزف بإتقان ويكتب، أو يرسم ويكتب، والتنوع كثير والفن أبوابه واسعة وليس هناك ما يسمى الإخلاص لنوع واحد من الفنون، فالفن ليس زوجة.
ما مشروعك القادم؟
توجد عدة مشاريع، تسير بالتوازي، أحياناً، يسبق واحد منها الآخر قليلاً، لكنها في تقدم، يعطلني السفر والتدريس إلى حد ما، ولا أقول يمنعني، لكن من ناحية أخرى يتيح لي عملي استقراراً مادياً للكتابة بصفاء، كما يتيح لي السفر المتعة والمعرفة والخبرة والدهشة، وكل هذا يصب في الفن والكتابة. إنني لم أتعود أن أبوح بما لم ينتهِ. أؤجل ذلك لمراحله النهائية، حين يكون المكتوب تحت أمر الطباعة ككتاب، عندها يمكن أن أتحدث عن العمل.