مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

حفيظة قارة بيبان: الكتابة الأدبية لا تقدم الجواب ولكنها تثير السؤال

حاورها: عذاب الركابي: مصر


حفيظة قارة بيبان (بنت البحر). كاتبة وروائية تونسية تستلذ بهوية الكتابة خارج قوانين الذكورة والأنوثة، تستهجن ما يسمى بـ(الأدب النسوي) وتنتصر لـ(الأدب الإنساني) المحرك للمفاصل المعطلة في جسد الواقع المعيش. إنسانة تعيش على آهات وأحزان وأفراح الآخرين معاً في واقع لا تسعى إلى تغييره، بل تغيير العيون التي تراه، حسب تعبير كازنتزاكي.
قاصة وروائية وناصة، تقاسم شخوصها وأبطالها البطولة بطرب روح. وهو حلم الذات في الآخر، لحظات تماه مع الآخر في شقائه وحلمه معاً. والذات رأس مال كتابة لا ينفد!
كل كتابة لديها كهرباء وتوتر مضن، فقط للخلاص مما يثقل العقل والوجدان، وهي وليمة أحاسيس وهي تصنع وتجمل الحياة. وكل كتابة لوحة تشكيلية. موسيقى! وهي تكتب بمثابرة رسام وعازف معاً، فقط لتبقي على الحياة والجمال والأمل والحرية في الأشياء، بل في كل من حولها. وها هي تبوح لـ(المجلة العربية) بدفء وشاعرية بالكثير.
الكتابة تبقى! رحلة شاقة عذبة، و(مسؤولية مرعبة) حسب همنجواي، و(انتحار) لدى غادة السمان، وستظل الهاجس حتى يوم القيامة، حسب إمبرتو إيكو.. قولي لماذا الكتابة؟ ما الجدوى منها؟ جاءت إليك طائعة أم ذهبت إليها؟ وكيف هو اتفاقكما الأخير؟
- الكتابة رحلة حياة، مغامرة ممتعة ومعذبة، تأخذك رغماً عنك إلى عوالم الدهشة والجنون الجميل الباذخ. أذكر حين كنت طفلة، كنت أتعلق بلهب النار الصاعد من (الطابونة)، الفرن الطيني التقليدي في بستاننا بالكرنيش، وأظل أتأمله -خصوصاً إذا أشعلنا النار في الأعواد الجافة داخله في الليل- وأهيم فيه قبل أن يهدأ اللهب ويتلاشى، لتلصق أمي في جنبات (الطابونة) الحامية أقراص الخبز الذي اختمر. لم أكن أدري أن تأملي العاشق للهب الصاعد في سماء الليل، بعيداً عن الأطفال، والذي كان مبعث استغراب الآخرين، كان انتظاراً غامضاً للهب آخر، مشابه، لهب الكلمات. ذاك اللهب الناشر دفأه ومتعته مضيئاً ليل الروح. منذ أيام الصبا، كان ذاك اللهب يدعوني لأكتب أسراري الصغيرة كل يوم، وليكون دعائي الصادق الوحيد لربي، أن أكون أديبة.
قد تكون جينات سكنت دمي أورثنيها أب زيتوني، شاعر وأديب ومسرحي عاشق للكتاب الذي كان يملأ بيتنا ويغرينا بالسفر إلى عوالمه، لأجدني وقد تفتح ورد اللهب، أمضي في مغامرة الكتابة. تلك المغامرة التي تأخذني إلى ذروة المتعة وترميني في عمق الوجع النازف. رغم ذلك، تظل هي السلاح الذي أقاوم به الظلمات وأنجو من الموت.
قصة قصيرة، رواية، سيرة.. تنوعت الكتابة بإيقاع الشعر لديك وأنت تقتلعين أبواب العالم الصدئة، بغية تغييره تارة، وتارة أخرى تجميله.. ما الأقرب إليك من فنون الكتابة هذه؟ أعني ما الذي يجيب أكثر عن أسئلتك الإنسانية- الحضارية ويظل الرهان الوحيد على معاكسة العالم حتى يغير من عينيه الزجاجيتين وأذنيه الخشبيتين؟
- لا فرق بين كتابة وأخرى لدي إلا بمدى تعبيرها الجمالي عن التجربة، وقدرتها على تخليصي من الوجع الإنساني المستبد بي. فيما مضى كانت القصة القصيرة ملجئي وسكني، تحقق لي قبساً من نور الحرية. ولكني كنت أكتب بالتوازي مع القصة نصوصاً شعرية، التقت في كتابي (رسائل لا يحملها البريد). التجربة فقط هي التي تفرض علي شكل الكتابة. قد تكون قصة أو نصاً شعرياً أو رواية، أو نصاً متمرداً على الأجناس، فـ(كل كتابة هي جنس بحد ذاته) كما يقول بلانشو. ما يعنيني هو صدق التجربة الفنية، عمقها وتوهجها في تعبيرها عن البحث المضني للإنسان عن القيم الأصيلة، ومع ذلك، تبقى الرواية هي المجال الأرحب، إذ تفتح لنا عالماً تتعدد فيه الشخصيات والأحداث والأماكن، يعبر لا فقط عن هموم الفرد وأحلامه بل (عن العلاقات بين الكائنات في هذا المجتمع المزري حيث نتخبط وحيث القيم الأصيلة يداس عليها بوحشية أكبر يوماً بعد يوم)، كما يقول (ساراماغو). كما أن الرواية متجددة دوماً، قادرة على احتواء كل الأجناس الأدبية.
ولكن، هل تجيب الكتابة عن أسئلتنا الإنسانية؟ الكتابة الأدبية لا تقدم الجواب. ولكنها تثير السؤال. تعمقه وهي تعاكس العالم المتدهور وتبحث عن القيم الأصيلة. الكتابة هي السؤال الذي يقدح الفكر ويثير الوجدان ويبقى الجواب للقارئ الذي يستشفه من قدرة الكاتب على كشف ما لا يرى.
الأدب والإبداع نزيف إنساني! ماذا تقولين لمن يضع سردك تحت عنوان (الأدب النسوي)، وفق تنظيرات النقاد التقليديين! هل في الإبداع جينات ذكورة وأنوثة؟ وأنا أحاور صديقتي الكاتبة الكبيرة غادة السمان، وأسألها فيما إذا كان هناك (أدب نسوي) أم (إنساني) قالت لي بغضب زلزل جلستي المطمئنة معها: (وهل للإبداع أعضاء تناسلية)؟! ماذا تقولين؟
- أنا لست نسوية على الإطلاق. أنا إنسانة، في بعض روح الله. أكتب عن الإنسان العربي المقيد بواقع مزر، الإنسان التائق إلى كسر قيوده وتجاوز خيباته وانكساراته. قد أكتب عن الرجل أو المرأة خاصة، ولكن المهم أني أكتب عن أعماق الإنسان. ولشد ما أضيق بتلك التقسيمات التي تفرق الإبداع الإنساني على أساس الجنس.
الرواية فن عابر للأزمان! وهي: (الرواية صدى لضحكة الإله)- ميلان كونديرا!، (الرواية شأنها شأن السيمفونية والأوبرا) فيرنين لي!، (الرواية هي كتاب الحياة)- د. هـ. لورانس!، من الأقرب لرؤياك من المقولات الثلاث؟ وما تعريفك الشخصي للرواية؟
- نعم، الرواية هي كتاب الحياة، كما يقول لورانس. وهي سفر طويل إلى عالم هادر. سفر يأخذني ويحولني إلى شخصيات متعددة، تسكنني بأشواقها وأحلامها وإخفاقاتها وعذاباتها. وعلي أن أفتح معها الطريق إلى المجهول والدهشة بأدواتي الجمالية، حتى أبدع عالماً يحيل الوجع متعة والمرارة عذوبة والظلمة نوراً.
(لانكتب شيئاً خارج الذات)- مرغريت دوراس!
وأنت موجودة وملامحك لا يخطئها القارئ في سردك بنوعيه.. هل رواية- السيرة الذاتية الأوتوبوغرافية هي رواية المستقبل كما قال هنري ميللر في (مذكرات الثمانين)؟ ألا ترين أن الرواية الجديدة معظمها سيرة ذاتية؟ وأنت شخصياً هل تهربين من ملامح شخصيتك (دجلة) في (العراء) و(شرود) في (دروب الفار) وشخوصك في قصصك القصيرة ليسوا بعيدين عن ملامحك وإيقاع خطواتك أيضاً؟
- اسمح لي قبل أن أجيب عن سؤالك، أن أعود بك إلى ذكرى لقاء جمعني يوماً بالروائي حنا مينا في ملتقى أدبي بتونس، ما أدهشني وقتها أني وجدت بعض ملامح شخصياته أمامي. ذاك التوتر والاندفاع الذي يسم جل أبطاله. وكأني أمام (الرجل الشجاع) أو بطل (الياطر) أو (الشمس في يوم غائم).
بالنسبة لي، قد يكون في بعض من (شرود) بطلة (دروب الفرار)، المرأة العاشقة للنغم المؤمنة بأن الحب يفتح كل الدروب. قد يكون في بعض من حلم (دجلة) بطلة (العراء)، حلم الكاتبة في تجاوز الأسوار والخلق الفني من خلال الرواية التي تكتب، حلمها في قهر السرطان في معناه الرمزي، السرطان الذي يفترس الأرض وجمال الوجود، من خلال قصة حب مستحيل تجمعها بالشاعر الفلسطيني غسان سلمان.
ولكن الذات ماهي إلا المنطلق لكتابة فنية متوهجة، تغتني بالمخيال والأحلام والرؤى والقراءات والثقافة، لتفتح عوالم جديدة وتبني معمارها الفني الخاص. الذات ستظل دوماً منجماً لا ينضب، ينهل منه جل الروائيين، وكتاب الرواية الحديثة. ماركيز على سبيل المثال، يعترف في سيرته (عشت لأروي) أن رواية (الحب في زمن الكوليرا)، استثمر فيها قصة حب والديه.
ما يعنيني دوماً، ككاتبة وكقارئة، أن يكون في الرواية التي أقرأ أو أكتب عمق التجربة الإنسانية وتوهجها، متعة الرواية وإقناعها، سواء انطلقت من تجربة الذات أو من تجارب المحيط الإنساني التي تحولها حساسية المبدع الخارقة إلى هم ذاتي، يتداخل مع همومه ويعبر عن شروخ مجتمعه.
كل كتابة ليست شعرية لا يعول عليها! هل كنت تريدين قول ذلك في سردك القصصي والروائي؟ قولي لي: ماذا يضيف الشعر إلى السرد؟ وهل هو البوابة الأزلية الدافئة لمرور جل فنون الكتابة من خلالها؟
- اعترفت في شهادة سابقة أني أضيق بالكتابة إذا لم تحملني غيمات شعرية وأنغام تعزف على أوتار القلب، كما أني لا أستطيع مواصلة القراءة إلا بجهد إذا كان ما أقرأ يفتقر إلى الشعرية. تلك الشعرية التي تغني الكتابة السردية وتجعلها أكثر ألقاً ورواء وجمالية. ولعل في كتابة الروائي اليوناني كازنتزاكيس خاصة في كتابه (تقرير إلى غريكو) خير مثال على ذلك. في كتابتي الروائية التي يصفها النقاد بالشعرية، يحضر الشعر كما تحضر الموسيقى، والرسم والمسرح، وكأني من خلال ذلك، أحقق حلمي الدائم أن يكون نصي موطناً لكل الفنون.
حسب توني موريسون: شئنا أم أبينا، فإن السياسة جزء من أعمالنا! والسياسة المغلفة بالسيلوفان الرومانسي واضحة في روايتك (العراء)، وقد جسدتها علاقة بطلتك (دجلة) مع الفلسطيني (غسان) التي فضحت ملفات خفية مرعبة في السياسة العربية! هل تربك السياسة شفافية العمل الإبداعي؟ قرأتها لدى البعض لافتة في خط رديء تأتي الأمطار والرياح فتقتلعها.. ماذا تقولين؟
- في كل العصور، كان المبدع في صراع مع السلطة أو المجتمع، وذلك أساس إبداعه فيما مضى، كنت دوماً أكره السياسة ولا أحب الحديث عنها. ما كان يشغلني في كتابتي القصصية خاصة، ذاك الصراع الذي يخوضه الإنسان مع مجتمع قامع. ولكن، مع اتساع التجربة، وعند كتابة الرواية، فرض السؤال نفسه، كيف يمكن فصل هذا المجتمع عن السلطة المتحكمة فيه؟
كيف يمكن أن نكتب عن راهن الإنسان العربي دون أن يتسلل الكثير أو القليل مما يتحكم في هذا الراهن وأدى إلى خيبات وانكسارات الإنسان؟
قد يأتي ذلك واضحاً صادماً أو موارباً خفياً أو مغلفاً بالسيلوفان على حد عبارتك.
هل تربك السياسة العمل الإبداعي؟ تسألني.
هذا يتوقف على قدرة المبدع على هضم التجربة والتعبير عنها بعمق، بأدواته الجمالية، دون السقوط في التسجيلية المبتذلة، حتى يعلي معماره الفني المتفرد.. ومع ذلك، فإن الكاتب المبدع لا يكتب السياسة بل يكتب الإنسان الذي تسقط عليه كلابات السياسة. يكتب عن أعماق الإنسان الذي يقاوم السلطة بكل أنواعها. قد يسقط. قد ينتصر، ولكنه يحقق شرف المحاولة، ويخلد ملحمة الإنسان.
وضعت أعمالك تحت ميكروسكوب النقد، بلا شك، وكان النقد لصالحك، وقد أثمر عن جوائز، هل أنصفك النقد تماماً؟ وهل لدينا حركة نقدية جادة وسط هذا الضجيج النقدي الانطباعي، الذي أفضى إلى مقولة - رونان (موت الناقد)، وكأن النقد الحداثي وما بعد الحداثي (نص مقابل نص) بدا تهمةً.. وهذا من مظاهر الهزال في واقعنا الثقافي.. ماذا تقولين؟ من ناقدك الأمثل تونسياً وعربياً وعالمياً؟
- المتابعة النقدية، سواء الانطباعية أو الأكاديمية، ضرورية للنص الإبداعي، خاصة أمام هذا الزخم من الكتابات التي تحتاج إلى الفرز والتقييم.. ولكن النقد متأخر دوماً عن الكتابات الإبداعية. مع ذلك، هناك عدد من النقاد العرب المثابرين الساعين لإضاءة المشهد الثقافي العربي، كما نلاحظ حركة نشيطة متطورة في المغرب العربي -أخص بالذكر المغرب- حركة تبدع مفاهيمها الجديدة، ليتجاوز النقد المناهج التقليدية ويكون إبداعاً على الإبداع. لعل الناقد التونسي الكبير توفيق بكار يمثل خير مثال على ذلك.
بالنسبة لي، انشغالي الدائم والدؤوب بنصي الإبداعي، كان له أثره في الاهتمام النقدي، منذ كتابي الأول الذي خصصت له دراسة جامعية بعنوان (الشعرية في كتاب الطفلة انتحرت) في كلية الآداب بتونس.
سعدت أخيراً بإعلامي أن كتابي قبل الأخير (النجمة والكوكوت- يوميات كاتبة وفنان) أصبح يدرس بالجامعة التونسية 9 أفريل، لطلبة الماجستير والدكتوراه.
محبة القراء واهتمام عدد من النقاد العرب الذين أجلهم، سواء في المشرق -وأنت منهم- أو في المغرب العربي، يسعدني ويربكني في الوقت نفسه. ولا مجال إلا لمواصلة الدرب لتقديم متعة النص الإبداعي المنتصر للإنسان الباحث عن قيمه الأصيلة الضائعة في راهننا المزري.

ذو صلة