د. مختار أمين: المسرح علمني فن الحياة
حوار / عِذاب الركابي: العراق
كاتب وشغلهُ الشاغل الكتابة - نسج حكاية الذات.. وهي مسؤولية، وهو يعيدُ مفهوم همنغواي للكتابة على أنها (مسؤولية مُرعبة)! وقد صدقَ الاثنان في تعبيرهما الإيحائي الجميل!
هي الكتابة التي تبقى أسيرة حكاية المكان والزمان، سردهُ يقولُ ذلك! وهو يراها هبةً عظيمة، لم تأخذ منهُ، بلْ أعطتهُ الكثير من كنزِها، مهما تعددت واختلفت أنواع التعبير لديه.. وحصّة الأسد في سردهِ الرواية- الفنّ العابر للأزمان، وهي ليسَت مصدر حماسهِ فحسب بلْ غرفة عقلهِ السريّة.
الكاتب المصري د.مختار أمين في صحبة قلمٍ دهريةٍ، وهو متعدد فنون الكتابة- إيعاز الذات المتشظية، درءاً للرتابةِ والمللِ، بل وتعلق أكثر بالحياة وواقع الناس.
في حديثٍ دافئٍ بدا على ضفافٍ لازورديّة لديه الكثير ممّا يقول عن الكتابةِ والإبداعِ والمسرحِ والحياةِ:
تعددت فنون الكتابة لديك، صحافة، نقد أدبي، قصة قصيرة، رواية، كتابة سيناريو، وإخراج.. فسيفساء إبداعية بحق.. ونوع من الكتابة - المغامرة.. ماذا أخذت منك؟ وماذا أعطتك؟ حدثني.
- الكتابة كما الروح نفحة ونفخة ربانية أصلها خير لأنها هبة من عند الله، عندما تقترن بنفسك وعقلك، فمنتوجها أنت، حسب اتجاهاتك واعتقاداتك وفكرك وسلوكك البشري، أي أن الكتابة هي تفسير للذات، وإنتاجي الأدبي هو دال حقيقي عليَّ.. بصمة وراثية تخصني بكل ما فيّ، وهذه حقيقة صادقة لا هرب منها تنطبق على جميع الكتاب على مستوى العالم.. أنت تضع بصمتك الوراثية أمام المجتمع، وبالتالي الكتابة تضعني أمام المسؤولية وأمام المجتمع، فجعلتني دوماً مسؤولاً، قل إنها علمتني المسؤولية، كيف أبدو أمام نفسي والآخر؟ كيف أتفاعل مع المجتمع؟ كيف أكون مؤثراً بشكل إيجابي؟ فالكتابة جعلتني أبحث عن علّة وجودي كإنسان.. لماذا خلقني الله؟ هل الله يكرر البشر؟ بالتأكيد لا.. إنه المبدع البديع المتنوّع في خلقه، طالما كل إنسان له بصمة وراثية تخصه يجمع منها يوم القيامة، كل الجسد يتحلل وتبقى البصمة الوراثية، وهي ما تسمى (بعجب الذنب)، كما الكتابة هي التي تبقى وتدل عليك، فيجب أن يعلم كل إنسان أن له دوراً محدداً يخصه يجب القيام به على أكمل وجه..
الكتابة علمتني التفكير العلمي، علمتني التحليل المنطقي للوقائع، والإحساس بقيمة الرأي وأثره على المتلقي، لِمَ لا وأنا وصفت الكاتب الأديب في أكثر من مقال علمي أنه جزء من رسول محمل برسالة من الله لدى مجتمعه.
يبدو أن الرواية منْ امتلكَ حصة الأسد ابتداء من (قبل أن يذوب الثلج 2007) وليسَ انتهاء بـ(بنت السفير 2012).. لماذا الرواية؟ أهو زمن الرواية فعلاً؟ أم أنَّ لهاث البعض إلى لقب الروائي هو وراء حبّ هذا الفنّ العابر للأزمان؟ أم ماذا؟ حدثني!
- (قبل أن يذوب الثلج، بنت السفير، المفقود، ذلك الفجر، القوّادة، أعترف أن زوجي.. كلب!، عابر حياة، غروب الجنوب، الطيب) وبإذن الله سأدخل في رواية (رحيل الآلهة).. الرواية يا أستاذ عذاب هي ثقل الكاتب الأديب، هي من تكشف عن كاتب برتبة أديب، هي تستنزف الكاتب بكل ما تحلى به في الحياة من قوة، هي تعبر عن خبرته في الحياة، ومدى تشابكه والتحامه في الواقع والناس، هي تكشف عن كاميرا عينيه المتلصصة الدقيقة ونواتج ما يستنبطه عقله، وعلى المستوى التكنيكي تكشف عن قدرته على السرد المتواصل البديع الجاذب -نفسه الطويل في الكتابة- وقدرته على التأليف في محاكاة الواقع، مستواه البلاغي، وقاموسه اللغوي، موضوع وأفكار رواياته.. لذا أنا جل نصائحي للكتاب الجدد أو من يريد أن يمتهن الكتابة الأدبية ألا يبدؤوا كتاباتهم بالرواية، لأن في مفهومي النقدي الأكاديمي أنها تحتاج خبرة وميراثاً كتابياً، وتحتاج نضجاً إنسانياً في طرح القضايا، وتحتاج إبداعاً أدبياً في الأسلوب واللغة وبلاغتها، وتكوين الشخوص، تحتاج تكنيكاً جيداً وتماسكَ وحدة الموضع وكيفية سرده على الورق.
أنت تكتب القصة القصيرة أيضاً.. يقول (ماركيز)، و(إيزابيل اللندي) وكل عباقرة السرد بأنها الأصعب لماذا؟ ما الفارق بين القصة القصيرة والرواية؟.
- لماركيز الحق طبعاً وإيزابيل وغيرهما كثر، لأن الكاتب يحقن الرواية من روحه ودمه، فهي تحتاج وقتاً طويلاً في التحضير قبل الشروع في الكتابة.. تحتاج تأليفاً للقصة، وأحداثاً ومواقف، وشخوصاً لإبراز فكرتها، وتحتاج بلا شك ثقافة خاصة، وتراثاً معرفياً جيداً بالناس وأحوالهم، وعندما نقارنها بالقصة القصيرة لا بد أن نكون منصفين ولا نجور على كل من الجنسين، لأن لا بد أن يدرك الكاتب قبل القارئ الفارق بينهما، فهو فارق في التكوين والخصوصية، لأن كلاً من الجنسين يحتاج كاتباً بتركيبة معينة.. كاتب الرواية نظرته للمجتمع نظرة شمولية بشكل عام همّه أن ينقل لروح وفكر القارئ حياة تشبه الواقع، يرى نفسه في شخوصها، ويتجاوب مع أفكارها وتناقش أفكاره، أما القصة القصيرة على حد خصوصيتها تحتاج النظر بتلسكوب على شيء معين على وجه التحديد، تسجل حالة، وترصد موقفاً، وتحتاج الجمل القصيرة البلاغية المحددة الهدف، فلا تزيد عنها ولا تنقص، وجودة القصة القصيرة في رمزيتها وليست في مباشرتها، وبالتالي كاتب الرواية يختلف في تكوينه وطبيعته عن كاتب القصة القصيرة، بالتأكيد أدوات كل منهما مختلفة.
والقصة القصيرة لو قلت إنها الأصعب في كتابتها عن الرواية أو جنس أدبي آخر أراني قد ظلمت طبيعة كل جنس وخصوصيته، لأن كما قلت إن كل جنس له أدواته الفريدة في طبيعة السرد وطبيعة الفكرة والتعبير عنها، حتى الأفكار لها طبيعتها، وهي تختار الجنس الأدبي الذي يناسبها ويجليها، وكثير من الروائيين يكتبون القصة القصيرة والعكس، إذا التزم الكاتب بحدود كل جنس وخصائصه يكتب الرواية والقصة لا مانع من ذلك.
في السرد المُتقن الشخصيات الورقية بورتريهات، صورٌ فوتوغرافية لأناس في الواقع، كيف هي علاقتك بشخصياتك؟ أهي نموذج ناطق لشخصيات قابلتها، وعرفتها، وعايشتها في الواقع؟ أم أنَّ الخيال الصانع الأمهر في السرد؟
- لك أن تعرف أني على علاقة وثيقة جداً بشخوص أعمالي، فأنا لم أكتب عن شخصية من الخيال لا بد وأن تكون شخصية لها روح حية على أرض الواقع، وأغلب الشخصيات بيننا معاشرة وعلاقة حقيقية، ولم أضع يدي حتى الآن على سر ارتباط شخوص أعمالي بي كصديق لصيق بروحهم، صديق كما الطبيب النفسي يصبون في تجويف كيانه الروحي كل ما بداخلهم بسهولة ويسر حتى لو نبدو مختلفين في السلوك والميول والأفكار، أعتقد أن كل منا يحترم الآخر على ما هو عليه، وشعور بالأمانة لديهم يحسونه معي، وشوق غريب لتفكيك المواقف وتفسيرها بلسان جديد غير نمطي لا يتأفف من أفعالهم ومواقفهم، وينالون مني المعلومة العلمية بشكل غير مباشر بكل يسر وأريحية، وأغلبهم يدينون لي أني وضعت أغلبهم على طريق الصواب، ولكني أعترف معك أني تعلمت منهم جميعاً، هم أعادوا تشكيلي في الحياة، هم سبب حقيقي لنضجي، ومعرفة عوالم خفية عن الإنسان مهما امتطت حياتي، ومهما وسعت خطاي في أسفاري واحتكاكي ما كنت تعلمت عُشر ما تعلمت من شخوص أعمالي، هم فجروا في فكري قضايا اجتماعية ترقد تحت رماد نار متأججة تحرق العالم، هم أشعروني بالمسؤولية تجاه المجتمع، جعلوني أصرخ في رواياتي وقصصي أنبه ولاة الأمور والمسؤولين، أنا لم أستطع أن أبكي عليهم أثناء حكاياتهم لي عن خصوصياتهم، ولكني أبكي وأنزف دماً وأنا أكتبهم.
(الكتابة شيطانٌ يسكننا)- محمد شكري!
(الكتابة هي طريقتي في أن أكون حيّاً)- ماريو برجاس يوسا!
مِن الأقرب لرؤاك من العبارتين؟ وما الجدوى من الكتابة؟
- أعتقد أن الأقرب لي برجاس، لأن فعلاً الكتابة تعطيني طاقة، وأشعر أني حي بالفعل لأني قمت بأداء رسالة للبشر، والغريب أن بعض النقاد المغاربة شبه كتاباتي بكتابات محمد شكري، وأنا مختلف معه تماماً، محمد شكري ينقل التعاسة والسواد في أعماله مجردين، شكري ينقل نفسه ومعاناته فقط، ومن أقواله: (أنا أكلت من القمامة ونمت في الشوارع، فماذا تريدون أن أكتب؟ عن الفراشات؟) رغم أن شخوص أعمالي الأدبية كلهم يعدون شواذ، غير أني أصرخ بقول: (إن القبح ممكن أن يتحوّل إلى جمال) فهناك نافذة أمل موجهة إلى السماء في أعمالي تنتج من ثنايا فكر العمل، لأن الكتابة الواقعية صعبة جداً في أن تقول رأيك بمباشرة، وتكنيك الجنس الأدبي يرفض الصوت العالي للكاتب، وأنا لا أتعجب من أن المعاناة دائماً ما تخلق كاتباً مبدعاً والأمثلة كثيرة، وأظن أن المعاناة خلقتني أنا أيضاً، ولكن كيف أن تتحرر من معاناتك بالكتابة، وليس الكتابة فقط ثم تنخرط بعد أن تترك القلم إلى معاناتك، لا الكتابة تشفيك من معاناتك.
كتبتَ السيناريو.. ومارست إلى جانب لعبة الكلمات لعبة الفن- الإخراج.. أي علاقة ساحرة هذه حين تتحول الكلمات من المكتوب إلى المنطوق؟ ما مواصفات هذه الكتابة الباعثة للجذب والمتعة؟.
- لك أن تعرف أستاذ عِذاب، أن أول ما مارسته من هوايات على الإطلاق هو هواية التمثيل، وكنت في سن صغيرة جداً في مسرح المدرسة في المرحلة الابتدائية، وكنت أحب التمثيل كي أتكلم مع نفسي، وهذا منذ صغري جعلني أجيد التعبير بالكلام، وكان فسحتي لممارسة الكلام، وعندما كبرت كتبت الكلام، وكتبت الشخوص التي أمثلها، بالإضافة إلى ممارسة القراءة كطبيعة بيت. أخي الكبير عوّدنا كأسرة على القراءة، فاتجهت إلى الأدب بجانب التمثيل والإخراج، وهنا لنا وقفة كبيرة لأن التمثيل والإخراج، والمسرح بشكل عام علمني فن الحياة، كيف تحيا حياتك بمتعة دون ملل، وفي روحك مئات الشخصيات تجيد التعبير عنها، المسرح علمني فن الحياة، منه أدركت بأني لدي وسائل متعددة للتعبير عن ذاتي والناس، عندما دخلت أكاديمية الفنون والتحقت بالمعهد العالي للفنون المسرحية قسم تمثيل وإخراج فاجأتني اختبارات القبول في مكان يفترض فيه أن أتعلم التمثيل والإخراج المسرحي على مدار أربع سنوات لأحصل على البكالوريوس في هذا المجال، فوجدت اختبارات القبول صعبة جداً، يتقدم لها آلاف من مصر والعرب وعدد المقبولين لا يتعدى الخمسين طالباً في القبول، وفي التصفية تزداد الاختبارات وتصعب عندما تجتاز كل اختبار، وتتخطى قدرات الممتحن في التمثيل عن المراحل الأولى لتصل إلى ثقافة الممتحن في علم المسرح وأدب المسرح، والمسرح العالمي وآدابه لدرجة أني سألت نفسي إن كنا كخمسين طالباً تم قبولنا ونحن بهذه القدرة من فن التمثيل وعلم المسرح، فماذا سيعلموننا طوال أربع سنوات؟ وإذا بي ألوم نفسي على هذا السؤال بعد أول محاضرة، والتعرّف إلى المواد المقررة، فكانت مواد مبهرة نظري وعملي، اكتشفت أننا سندرس كل ما يخص المسرح وآدابه على مستوى العالم، وعلى المستوى العملي أموراً تتخطى خشبة المسرح والتمثيل، كيف تأكل؟ كيف تلبس؟ كيف تتكلم؟ كيف تجلس في مواقف معينة؟ وكيف تمشي؟ كيف تبدو جميلاً تعجب من طلعته النساء، وكيف تكون قبيحاً وفظاً غليظاً في أحيان؟ تعلمنا كل فنون الحياة، ومن أهميات ما تعلمناه، كيف يكون هناك اتصال بين عقلك وأدوات التعبير الجسدي لديك، واستخدام مخزونك اللفظي المناسب المعبر عما تفكر فيه؟ وتعلمنا تدريب الأذن على التقاط النغمة وتفسيرها، فالمسرح علمني كل شيء هو أبو الفنون بحق.
والعلاقة ما بين الكلمات المكتوبة والمنطوقة هي علاقة وثيقة جداً، لأن السوية المنطقية لعملية التفكير في الإنسان، أن يتكلم الإنسان كيفما يكتب، وكيفما يفكر كي يصل إلى أقصى سرعة لتفسير الظواهر والتعبير عنها، وكلما كنت تفكر بنفس الطريقة التي تكتب بها وتفكر بها تنمو عملية الإبداع لديك في نقل الصورة أو الموقف أو الحدث الذي تعبر عنه حتى تصل كتاباتك الأدبية إلى جمالية مميزة وإبداع له روح، فتجد أن العرب القدامى معظمهم شعراء لأنهم يكتبون وينطقون كما يفكرون.
كناقدٍ كيف تقيّم ما يُكتب من نقدٍ؟ قل لي: هل لدينا نقاد، وحركة نقدية جادة؟ لمَن تشير بأصابعك؟ مَن ناقدك الأمثل مصرياً وعربياً؟ وكمبدعٍ هل أنصفك النقد؟
- لدينا نقاد بالطبع وعلى وعي فطري رباني، ولكن ينقص النقاد العصريون الحديث بلغاتنا العربية، أو بمعنى أصح الحديث بلسان سهل من أقرب طريق للفهم، لا داعي للتقعير المصطلحي، ويستعيرون نظريات محفوظة يخطئون أحياناً في تطبيقها على النص، أما النقاد الشباب الجدد ينقصهم القراءة والاطلاع، ودخول علم النقد من أول أبوابه، ولكنهم على إيجابية أعلى ممن قبلهم، لأنهم يطبقون كثيراً نظراً لانتشار النصوص على الفيس بوك مثل حبات الأرز.. والناقد الذي يتحلى بالحرفية والعلمية يود أن تسعى إليه، وتعرض أعمالك عليه بإلحاح، أو أحد من معارفه أو المقربون يزكيك عنده، أو أنك تقوم الهوجة عليك فجأة ويشاع خبر أنك أصبحت أهم كاتب أو أشهر كاتب، أو حصلت على جائزة أدبية كبرى تجد كل الناس تكتب عنك بشكل هيستيري غير متعقل وينصبوك المناصب والمسميات.