مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

عادل الدوسري: الروايات ساهمت كثيراً في تنميط الرجل والمرأة

حوار: عبدالرحمن الخضيري: الرياض


رواية (موت طارئ) رحلة قصيرة وليست بالسهلة، تدخلك في متاهة صراع المتناقضات والأسئلة المحيرة: بين الزمن والوجود، بين الثابت والمتحرك، بين الجسد والروح، بين الخلود والفناء، بين الحب والكره، بين الأخلاقي واللاأخلاقي، بين العقلانية واللامنطق بين الوعي واللاوعي، بين الاستبداد والانتقام، بل تبعثرك بين الأفكار والقلق والأسئلة، وترسو بقارئها على شطآن المطلق مع النسبي وإمكانات الإنسانية وضعفها، حتى تقف به على الحد الفاصل بين أخذ الحياة على محمل الجد أو الانسياق وراء تفاهتها وعبثيتها، كل ذلك نناقشه مع كاتبها الروائي عادل الدوسري في حوار وإن جاء متأخراً إلا أنه محاولة لمعرفة ما الذي تريد رواية (موت طارئ) قوله ؟

يعد غلاف أي رواية العتبة الأولى التي يعبر من خلالها القارئ إلى متن الرواية، لكني لاحظت فارقاً بين غلاف (موت طارئ) الأجنبي، ومتنها المحلي، ما تفسيرك لذلك؟
- يبدو لي أن سؤالك هنا حول الغلاف الذي يبدو أجنبياً في شكله رغم محلية الرواية، يصب بشكل أو بآخر في إشكالات الهوية. وإن يدرك القراء ما تود الرواية قوله، فإنهم على الفور سيعرفون أن ثمة إشكالاً وصراعاً في مفهوم وتحديد الهوية بشكل عام، ولدى (عزيز بطل الرواية) بشكل خاص. ليس بالضرورة هويته من حيث الانتماء الثقافي، ولكن هويته من حيث الوجود والعدم وانتقاله الحر بينهما.
فسر لنا الصراع بين بارقة الأمل لدى عزيز بانفراج أساريره ورغبته القوية بالدخول إلى كينونته المظلمة مع الاستمتاع بها؟
- عزيز، شخصية مرتبكة وجودياً ووجدانياً، وبناء شخصية كهذه يحتمل جانباً عملياً يستمد من الواقع، وجانباً نظرياً يعي اضطرابها سيكولوجياً، ما يعني حساسية تعاملها السوسيولوجي وتفاعلها مع وجودها، ومن ثم تفاعلها مع الآخرين بسبب ما يوجد في داخله -كإنسان- منذ زمن بعيد. وإذن نحن إزاء تركيبة هشة، لديها العديد من الدوافع المتناقضة، في واقع مبني ضمنياً على أساس ينقض بعضه بعضاً. وليس الأمر فيما يبدو لي صدفة عندما تآمرت النقائض والمفاجآت ضده. إنها تحدث باستمرار، لكن من يتعرض لها مبكراً، يمتلك حساسية الملاحظة ودقتها، وبالتالي يشعر أن الوجود هو وجوده (الهش). إنها مركزية الأنا، حتى تلك الأنا الهشة، التي سرعان ما تتداعى، فإنها تحس وتستقرئ ما وراء الأسباب على نحو ميتافيزيقي مفرط.
عبر تسلسل مرور العنصر النسائي في حياة عزيز: (الجدة نورة/ الأم/ العاملة المنزلية/ هدى/ ناهد) يتضح لي أن عذابات الرجل وحيرته مرتبطة بالأنثى، هل ما لاحظته صحيح، وبرأيك متى تتخلص الروايات المحلية من الصورة النمطية عن المرأة؟
- يبدو لي أن عذابات عزيز كانت مرتبطة بقلقه الوجودي أكثر. صورة المرأة هنا كانت صورة المرأة القوية، لا أتصور أنني مثلت المرأة المستضعفة أو المضطهدة في إحدى شخصيات الرواية، الجدة وإن كان وجودها عابراً، إلا أنه شكل حدثاً مفصلياً، لا من حيث وجودها وارتباطها بعزيز، ولكن من حيث تمحور المدخل إلى قلق الأسئلة الوجودية وأزمة الاكتئاب والخوف عند موتها. الأم، التي كان لديها الاستعداد النفسي للانهيار، هدى بكل قوتها وجبروتها، العاملة المنزلية التي أثارت في نفس عزيز اكتشافات مريعة حول جدلية الجنس والوجود والعلاقة بينهما، والتقزز الذي صاحبه بعد ذلك، ثم المفارقة في محاولته لإثبات (أناه) من حيث تلك النقطة تحديداً. وبالتالي لا أظن أن عذابات عزيز كانت مرتبطة بالأنثى بشكل مباشر، بقدر ما كانت أزمة معنى، وأزمة خوف، وأزمة وجود. أي نعم أن الروايات المحلية وحتى الأجنبية ساهمت كثيراً في تنميط الرجل وتنميط المرأة، ولكن هذا يعود إلى التقاليد العريقة لدى بعض الكتاب في الكتابة عن الواقع لا عن الجزء اللاواعي من الواقع. ذلك الجزء الذي يصنع لنا خلفية خصبة غارقة في القدم قدم الإنسان نفسه. هذه الخلفية هي ما تتحدث عن حدوثنا، حدوثنا الخارج عن البداهة، حدوثنا الذي يحدث في داخلنا بشكل فلسفي وهزلي وعميق. إن يدرك الكاتب تلك الخلفية، إن ينبش عما وراء اللاوعي في حقيقتنا، إن يبحث عن الشك أكثر من اليقين، إن ينصت إلى حكمة اللايقين التي تحدث عنها ميلان كونديرا، فإنه بطبيعة الحال، لابد أن يتخلص من النمطية، لأنه سيتحول من تلقاء أفكاره إلى أمر يثير الاهتمام أكثر من قصة لا تقول شيئاً، إنه حين يكون كذلك سوف يكتب ليفكر، ليحاكم الواقع، ليسأل، ليثير الشكوك حول كل القضايا، لينكر البداهة، ليصل إلى حكمة اللايقين في هذا الوجود العشوائي.
تحدث عزيز عن حبه الحقيقي لجدته نورة، وحب أخيه نايف التقليدي، هل هناك حب أصلي وآخر تقليدي، وما علامات ذلك؟
- بالطبع، ليس أمراً هيناً أن تمر عبر مشهد مضاء دون أن يكشفك النور. هذه هي المعادلة التي أردت قولها فيما وراء قصة الحب الأصلي والآخر التقليدي. الصيغة النهائية لهذه القصة هي أن هناك استنساخاً لوجودنا. وهذا يحدث في مشاعرنا، في حياتنا، في مواقفنا، وفي كل أشيائنا. هذه هي اللعبة، ولكن عزيز بينما كان صادقاً، لم يكن حريصاً على تبرير مشاعره، بعكس أخيه الذي كان أكثر سعياً لإظهارها رغم لا واقعيتها. من هذه التفصيلة الصغيرة يمكنك أن تلج إلى قصة وجودنا التافهة، التي تستند بطريقة تثير الهزل على تفاهات من هذا النوع. صراع بين القوى: الحقيقة مع الزيف، الصدق مع الكذب، الخير مع الشر، الأصل مع التقليد. وبعد ذلك تأتي لعبة الاستنساخ، والنسبية، كل قوة تستنسخ الأخرى، وتستدمجها، ثم تحدث النسبية التي تجعلك حائراً بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، ما هو دائم وما هو زائل، غير أنني اكتشفت لاحقاً أنها معادلة من تلك المعادلات الصغيرة التي تتنازع من أجلها قوى الوجود.
النص التقريري لوفاة طلال مداح -رحمه الله- ص 401 هل أضاف للرواية شيئاً أم أضرها؟
- إن كنا سنتحدث عن مسار الرواية، ومحورية الموت، وسياقات ما حدث، فإن حدث موت الفنان طلال مداح يشكل حدثاً مفصلياً. وحيث هو كذلك: فلا يمكن أن أتجاوز تاريخية هذا الحدث الذي يسير في ذات الطريق الذي تتقدم فيه الرواية نحو مستقبلها ومستقبل شخصياتها. هذه معادلة رياضية وتاريخية بالنسبة للروائي. إن حدثاً كهذا لم يكن ليؤثر في الوعي الفردي لشخص واحد، بل إنه أحزن الناس جميعاً في توافق جمعي عجيب. ثم إن تفاصيل موته رحمه الله، أثارت في داخلي الكثير من الأسئلة الفلسفية وكانت حدثاً ملهماً. ألم نقل إن الموت يأتي أحياناً في سياق شاعري؟ لقد حدث موت طلال مداح بطريقة طارئة، ومفاجئة، وهذا ما كان متوافقاً مع سياق الرواية. أظن أن وجوده على هذه النحو مهم، شأنه شأن الحدث السياسي والاجتماعي والاقتصادي بما هي مترابطة بحياة الناس ومتقاطعة مع اهتماماتهم التي تشكل الوعي الفردي والجماعي، ثم تنسحب إلى الجزء اللاواعي من شخصياتنا جمعياً. إن كنت أريد أن أتحدث عن شخص عانى من فصيل سياسي في بلاده، فلابد أن أقدم تفاصيل ذلك الفصيل السياسي ومعلومات عنه حتى يفهم الناس جوهر معاناته. وهكذا كان حدث موت طلال مداح -رحمه الله- جوهرياً لا إضافة عشوائية تاريخية فحسب.
وفقاً لعنوان الرواية: (موت طارئ) لماذا اعتبرت الموت حالة طارئة، بينما هو نهاية حتمية للحياة والوجود؟
هذا يعيدنا مجدداً لإشكالية الموت وحدوثه والسؤال عن مفهومه وموقفنا الأخلاقي منه. إنه يحيلنا إلى سؤال عريض حول حتميته، وإمكانات حدوثه قبل حينه. إني أسأل نفسي دوماً هل يحدث الموت عند خروج الروح؟ أم عند انطفاء الروح؟ ثمة فرق واضح بين الأمرين، فكم من حي وهو ميت، وكم من ميت وهو حي؟ هذا الوضع المتوتر يجعل الموت متأرجحاً بين حدين، حد الوجود والعدم، حد الحتمية المطلقة والحدوث المفاجئ غير المتوقع، دعني أقول إن الموت هنا في هذه الرواية حدث بشكل مفاجئ. وربما كانت لفظة الموت في حدث ذاتها استعارة. إن هذا العنوان يبدو لي واقعياً بالنسبة لموقفنا أمام الموت.
بعد خمس روايات، على أي بحر يتكئ عادل الدوسري، وعند أي شاطئ سيرسو؟
- هذا السؤال بالنسبة لي مازال يحتفظ بكلاسيكية الحيرة الأزلية من حيث السؤال: من أنا؟ ومن حيث غموض المستقبل بالنسبة لي. لست من أولئك الذين يستطيعون الإجابة عن سؤال المستقبل، أين يرون أنفسهم بعد خمس سنوات؟ أو كيف يتوقعون القادم من أيامهم. إن إجابة سؤال كهذا تلزم معرفة عميقة بنفسي، وأنا في الحقيقة مازلت تائهاً بين الكثير من الاحتمالات. كل إجابة تفصح عن مضمون كامن في داخلي، وكل نبوءة تكشف لي عن مجهول خفي لم أكن أعيه في نفسي. من هذا المنطلق يمكن لي أن أعود إلى ذات السؤال الفلسفي الكلاسيكي بكل تعقيداته: من أنا؟ وإلى أين أنا ذاهب؟ وعلى هذا النحو مازلت أحاول أن أجدني بين احتمالات الوجود، وإشكالات العدم، بين السؤال الغامض وتوتر الإجابات اللايقينية، بين اشتباكات المطلق مع النسبي، بين إمكانات الإنسانية وضعفها، وعلى الحد الفاصل بين أخذ الحياة على محمل الجد، أو الانسياق في تفاهتها وعبثية مضمونها. أنا كتلك الفكرة المقلقة التي ما تلبث حتى تفسح مكاناً إلى فكرة أشدة إقلاقاً فيما تمضي هي إلى مكانٍ خفي، حيث تأكل نفسها إلى أن تختفي من الوجود بهدوء وسلام. أنا، هناك حيث ارتباكات المعرفة، حيث جدلية الفهم والمعنى، حيث تحتمل الأمور أكثر من تفسير، وحيث لكل التأويلات إمكانية الخطأ والصواب. أنا المأزوم بأسئلتي، بوجداني، بفظاظة شكوكي وهشاشة يقيني، وهذا كل ما أعرفه عن نفسي.

ذو صلة