طالب الرفاعي: أقف كثيراً أمام مطالع رواياتي وخواتيمها
حوار/ منير عتيبة: مصر
لم يكن اختيار الأديب الكويتي الكبير طالب الرفاعي (شخصية العام الثقافية بمعرض الشارقة للكتاب) مفاجئاً بالنسبة لي، فطالب أخلص للحياة الثقافية الكويتية والعربية طوال حياته، قدم عدداً كبيراً من الأعمال القصصية والروائية المتميزة التي عرفت به القارئ العربي، وحالياً العالمي بعد ترجمة عدد من رواياته إلى لغات مختلفة في الغرب والشرق، كما أنه يقوم بدور فاعل في الحياة الثقافية بمشاركته في تحكيم جوائز عربية كبرى، وإصدار مطبوعات غاية في الأهمية مثل جريدة الفنون، إضافة إلى تجربته المهمة في إنشاء (ملتقى القصة) وما تفرع عنه من جائزة الملتقى التي كانت متنفساً مهماً للقصة القصيرة العربية بعد أن أصبحت معظم الجوائز الكبرى حكراً على الرواية.
طالب الرفاعي أديب وصحفي ومهندس معماري، ولد عام 1958، أصدر عدداً من الأعمال الأدبية المهمة، فله مجموعات قصصية منها: (أبو عجاج طال عمرك) (أغمض روحي عليك) (مرآة الغبش) (حكايا رملية) (شمس) (سرقات صغيرة). وروايات منها: (ظل الشمس) (رائحة البحر) (سمر كلمات) (الثوب)، (في الهُنا)، (النجدي)، (حابي). ومسرحية (عرس النار). وكتابان في السير الذاتية: (البصير والتنوير.. رجل وقضية) (إسماعيل فهد إسماعيل، كتابة الحياة وحياة الكتابة). بالإضافة إلى كتاب عن (المسرح في الكويت.. رؤية تاريخية)، وعدد من الأبحاث الأدبية والأبحاث المعمارية والهندسية. وقد تُرجمت العديد من أعماله القصصية والروائية إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية. وحصل على جائزة الدولة في الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية والإنسانية، للعام 2002 في مجال الأدب / جائزة الرواية، عن رواية (رائحة البحر).
برع طالب الرفاعي في اختيار موضوعات إشكالية وغير مطروقة لقصصه ورواياته، وفي هذا الحوار نبحث عن أسرار السرد في روايته (حابي) التي ناقش فيها بجرأة قضية التحول الجنسي، كما نسأله عن تجربته الجريئة أيضاً في عالم النشر بنشر روايته الأخيرة (خطف الحبيب) بشكل مبتكر.
قدمت تجربة نشر روايتك الأخيرة (خطف الحبيب) نموذجاً مختلفاً للنشر العربي، هلا حدثتنا عنها؟
- ككاتب يهمني أن يصل عملي إلى الجمهور العربي كله، وهذا غير متاح بالنسبة لناشر واحد مهما تكن إمكاناته، لذلك فكرت أن أنشر الرواية في عدد من الدول العربية لتصدر في التوقيت ذاته عن ناشرين مختلفين، وهذه الفكرة استغرقت مني شهوراً عديدة لإقناع الناشرين العرب بها، بعضهم رفضها تماماً لأنها تؤثر على ربحيته من نشر العمل، لكنني توصلت إلى إقناع 15 ناشراً في 15 دولة عربية لكي ينشروا الرواية في بلدانهم بحيث تكون بغلاف مختلف في كل بلد، وفي سبيل ذلك تنازلت عن حقوقي المادية في عائدات بيع الرواية، فصدرت في التوقيت نفسه في شهر سبتمبر2021 في هذه الدول، وأعتقد أنها تجربة مهمة سوف تغير بعض مفاهيم النشر في عالمنا العربي، وربما تؤدي إلى وجود مشروعات أخرى مشتركة بين الناشرين العرب.
في رواية حابي تطرقت للكتابة عن التحول من أنثى لذكر، كيف أتتك فكرة الكتابة عن هذا الموضوع الحساس في المجتمع الكويتي؟
- أي عمل سردي يبدأ بفكرة، قد تكون قصة تسمعها من صديق، أو خبراً في جريدة أو تلفزيون أو موقع تواصل اجتماعي، أو حادثاً عابراً، أو ذكرى غافية. فكرة رواية (حابي)، جاءتني وأنا جالس في (الديوانية) مع أصدقاء، وحين ودّع أحدهم الجلسة، همس بي الصديق الجالس إلى جانبي: (هل تعلم أن ابنته تحولت وصارت ولداً).
رحت أطالع صديقي، وقد أخذني الاستغراب من جملته، وليلتها خرجتُ من الديوانية والفكرة عالقة بذهني.
وعلى مدى قرابة العام، سخرتُ وقتي للبحث في كل ما يتقاطع وقضية التحول الجنسي، بدءاً من الناحية العلمية/ الطبية والتشريح، مروراً باختلالات النمو عند الشابة/الشاب في مرحلة المراهقة، والشروحات الطبية المتعلقة بأسباب أي اختلال، بوصفه خللاً خلقياً، ومن ثم النظر إلى حالة التحول الخاصة بالرواية (من فتاة لشاب). تلت مرحلة البحث الأكاديمي النظري، الذهاب لأفلام الفيديو الخاصة بأعراض التحول، الجسدية والنفسية، والعمليات الجراحية المتصلة بها، وزيارة مواقع المستشفيات العالمية المعروفة بإجرائها لعمليات التحول الجنسي، ودراسة التغيرات المصاحبة لها، وأخيراً مراحل علاجها. بعد ذلك انتقلت إلى مرحلة الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة والطويلة، وتوقفت كثيراً عند محاولة فهم التغيرات النفسية المصاحبة للتغيرات الجسدية التي يمر بها ويعيشها المتحول، في بيئته الأسرية الضيقة، وفي محيطه الاجتماعي، وعلى الأخص في المدرسة. كما خصصت وقتاً لدراسة وفهم الفتاوى الدينية الإسلامية الخاصة بالحالة، وفي أكثر من مجمع فقهي وفي أكثر من دولة. وأخيراً عشت مرحلة التواصل المباشر مع الحالة المتحولة، للوقوف وجهاً لوجه مع المعاناة الإنسانية العميقة التي عاشتها/ عاشها بطل العمل.
لماذا (حابي) وليس أي رمز أسطوري أو فلكلوري آخر من ثقافة أخرى أو بالأحرى من الثقافة الخليجية؟
- بداية يجب الاعتراف أن العنوان يشكّل جزءاً أساسياً مهماً من العمل الأدبي. ولذا حين انتهيت من الرواية، تحيرت لفترة قاربت الثلاثة أشهر بحثاً عن عنوان يناسب عالم الرواية، وصادف أن كنت في دورة لتدريس الكتابة الإبداعية مع مؤسسة شومان في عمّان، وبينما كنتُ أتكلم عن حيرتي وورطتي في العثور على عنوان للرواية، اقترحت إحدى الطالبات العنوان (حابي)، وبعد عودتي إلى الكويت بحثت عن أصل حابي، ووجدته مناسباً لفكرة العمل، ولحظتها لم يدر في خلدي البحث عن رمز من الثقافة الخليجية، لذا دفعت العمل للطباعة والنشر، ولأقول لك أمراً، كلمة (حابي) لوحدها سببت ظلماً كبيراً على الرواية، ولك أن تتخيل الفرق الشاسع لو كان عنوان الرواية (حابي.. مذكرات فتاة متحولة)! أزعم أن العنوان الثاني، كفيل بجلب عدد كبير من القراء لجادة الرواية.
استخدام الضمائر في تعبير البطل عن نفسه وفي مخاطبة الآخرين له يبدو واعياً حيث يختلط المذكر بالمؤنث في لحظات الحيرة الأولى، ثم ضمير المؤنث لحظة الإحساس كفتاة، ثم الاستقرار على المذكر بعد إجراء العملية الأولى.
- في هذه الرواية تحديداً كنتُ بحاجة لتعامل حذر وواع مع ضمير المتكلم، فبطل الرواية عاش عمراً (15 سنة) وهو فتاة، وبالتالي بالسليقة هو يتلكم بضمير أنثى. ثم بدأت رحلة العلاج النفسي والجسدي، ووجد نفسه ذكراً كحقيقة علمية طبية، وصار يدرّب نفسه على أن يتكلم بنبرة ومفردة ولادية، وهذا جعله يسقط مرات كثيرة في قدرته على أن يكون نفسه، وفي نهاية الرواية يتحول جسدياً ليكون شاباً مكتملاً، ولحظتها يتوجب عليه أن يتطابق مع ذاته ويتكلم بضمير رجالي. لعبة الضمائر في الرواية، وبقدر ما تبدو عفوية ومسوغة، فإنها كانت صعبة وتحتاج لانتباه شديد لمعرفة ما إذا كان البطل سينطق بأي من الضمير المذكر أو المؤنث ومدى تطابق ذلك مع حالته الجسدية والنفسية.
فكرة استخدام لغة التجسيم في التعبير عن المشاعر، فالسؤال يصبح شخصاً وكذلك المشاعر، يعبر عن كل شيء بأنسنته، فهل تم التحضير لذلك أم جاء عفوياً أثناء الكتابة؟
- في الرواية هناك ما يتم التحضير له، وأظنه يقع في خطوط العمل الرئيسة، متمثلة بالشخصيات المحورية والأحداث الأساسية. وبالنسبة لي، بعد الانتهاء من الولادة الأولى للعمل، تأتي مرحلة التزويق بداية بالاختصار والتكثيف، مروراً بالموازنة بين الديالوج والمونولوج والوصف، قبل أن يدخل الكاتب في مرحلة متقدمة تتمثل في محاولة تجويد المضمون والرؤى الإنسانية للنص الروائي، وأخيراً تأتي مرحلة تجميل اللغة بكلمات وتعابير وجمل جديدة الاستعمال، وتلبي شيئاً لبنية النص بحيث تجعلها أكثر تماسكاً. ولحظتها يتكلم جذع الشجرة كما العصفور، وتتدخل النسمة بمحبتها لسماع صوت العصفور، وتتأخر الظلمة لثوان معدودة مخافة تقطع على العصفور لحظة استغراقه في متعة موسيقى الزغزغة!
أهم المشاكل الفنية التي قابلتك أثناء كتابة الرواية، وكيف تغلبت عليها؟
- أنا مسكون بتقويم العلاقة بين الزمان والمكان اللحظي الذي يوجد فيه الراوي، وعلاقته وخروجه من هذا الحيز الزمكاني، والانتقال إلى أزمنة الحكاية وأمكنتها، لذا استخدمت الراوي، ممثلاً بشخصية بطل الرواية: ريان، وجعلته يستخدم ضمير المتكلم، بوصف الرواية سيرة ذاتية، وبوح إنساني، وكنتُ أُراجع وأنتبه لخروجه من زمانه ومكانه اللحظيين للذهاب إلى التذكر، وضرورة إعادته بسلاسة لا تحس بحيث لا يشعر القارئ بأنه ضائع ويتساءل: ماذا يحدث؟ من الذي يتكلم؟ المشهد في أي زمن؟ أظن أن التنقل بين الأزمنة وضبط رتم تدفق النص هما العنصران الأهم اللذان حرصت على الانتباه لهما. وربما هما قوام أي رواية ناجحة!
هل ترددت في نشر الرواية خوفاً من تلقي المجتمع لها؟
- الكتابة الحقة، الكتابة التي تمسَّ حياة الناس وهمومهم هي سيرٌ عكس التيار الاجتماعي بوعيه وبركود قناعاته. كنت أعلم أن موضوع الرواية حساس اجتماعياً، وكنت أعلم أن فئات في المجتمع الكويتي وربما العربي ستستهجنه ولن ترحب به أو تتقبله. لكني كنت أعلم أيضاً، أن الكتابة التزام، وتحدٍّ، والكتابة رأس حربة التغير الاجتماعي، لذا كتبت العمل ودافعت عنه، ولحين حصوله على فسح إدارة الرقابة في وزارة الإعلام الكويتية، وكنت سعيداً أن وجد العمل طريقه إلى النشر في الكويت وفي معرض الكتاب، وكان متاحاً لجمهور القراءة!
مهم جداً إلقاء الضوء على الجملة الأخيرة في الرواية (قدري أن أبقى حابي) وبالذات عندما نربطها بالجملة الأولى (لا تصيري ولداً)، حدثنا عن كيفية تعاملك مع بدايات أعمالك السردية ونهاياتها؟
- الرواية، أي رواية، هي حكاية، لها بداية ولها نهاية، ومهم جداً أن تكمل دائرة الحكاية، وهي لا تكتمل إلا لحظة كتابة الجملة الأخيرة في الرواية، ومدى ترابطها مع جملة البداية، علماً أن هناك دراسات نقدية جداً مهمة لتوضيح أهمية الجملة الأول والسطر الأول في الرواية. وأنا أقف كثيراً أمام مطالع رواياتي وخواتيمها. ومؤكد أن جملة القفلة في رواية (حابي) تقول ببقاء مشكلة التحول الجنسية حاضرة بقاء الإنساني والحياة.