مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

عبدالحميد شوقي: ما زلت أقدم نفسي للعالم كشاعر

حوار/ سيد يونس: مصر


في مشاركتي بأحد المهرجانات الشعرية بالمغرب كان لقائي الأول مع الشاعر والروائي المغربي عبدالحميد شوقي، عرفته متأملاً يحمل روح الشاعر الفيلسوف الهادئ، أهدى إلي ساعتها ديوانه (متاهات برائحة الفجر)، وفي مهرجان آخر بعد سنوات كنت معه في بلدته تفليت، هذا البلد الصغير الجميل ومعها ازداد اقترابي به صديقاً مبدعاً حقيقياً وإنساناً متفرداً له شهرته بالمغرب، في المرة الأولى استمتعت به كشاعر، وفي المرة الثانية كانت رواياته سدوم، ثم ليل العائدين التي صدرت بالقاهرة، لتصدر له خطوط وظلال جديد أعماله (أصوات في ممرات النزيف)، وهي رواية من خلال أحداثها ما طرأ على الشرق من متغيرات في كل شيء في العقود الأخيرة.
هو كروائي مشغول جداً بالواقع المعاصر وكونية الإنسان وحريته، يرى أنه ليس كل شاعر لديه مشروع روائي بل الرواية تأتي للمبدع بالقوة الجبرية، هو واحد من مبدعي المغرب الذين يحملون مشروعاً خاصاً في الكتابة الشعرية والروائية. في الشعر هو الشاعر الفيلسوف المتأمل للذات.
عبدالحميد شوقي، كتاباته الروائية تسيطر على مفرداتها لغة الشعر حيث شعرية الرواية التي يتميز بها فقد صدر له شعراً من قبل (متاهات برائحة الفجر).
لماذا لجوء الشاعر إلى الرواية؟
- لا يمكن أن نعمم، فنقول إن الشاعر، بالتعريف، يلجأ إلى الرواية، فكثير من الشعراء الكبار ظلوا مخلصين للشعر، بل منهم من عبر عن عجزه عن مغادرة الإيقاع الشعري نحو الإيقاع الروائي. كما أن الشاعر الذي يلجأ إلى كتابة الرواية، لا يتخذ هذا القرار بشكل إرادي في لحظة من لحظات تطوره الإبداعي، بل لا بد أن يكون في الأصل روائياً، سواء بالقوة أو بالفعل. أتذكر أنني بدأت كتابة الشعر في الخامسة عشرة من عمري، وبعدها بسنتين فقط، كتبت محاولتي الروائية الأولى التي مازلت محتفظاً بها في دفتر من الحجم المتوسط إلى الآن. إن إيقاع الشعر هو غير إيقاع الرواية. الشعر زخم شعوري مندفع يعتمد بالدرجة الأولى على إيصال تجربة الذات في العالم، من خلال إيقاع يتوسل الجملة الموسيقية والتعبير المنفلت والتقاط العالم الداخلي في لحظة مفاجئة، عصية ومنفلتة. إن الشاعر يشبه عدّاء المسافات القصيرة جداً الذي يندفع منذ الوهلة الأولى لمصارعة المسافة والخصوم ومقاومة الهواء، ويركض في انفجارات صاروخية، ولا يفكر إلا في خط النهاية، وكل تهاون بسيط يُفقِده أجزاء ثمينة من الوقت. بينما الروائي يشبه عدّاء المسافات الطويلة الذي لا يندفع كثيراً، ويعمل على توزيع طاقته حسب المسافة وتغير إيقاعات السباق، وهو، في كل مرة، يراقب الخصوم، ويعدّل من خططه، ولا يهمه الوصول بقدر ما تهمه كيفية الوصول إلى خط النهاية.
هل نستطيع القول إن الشعر بات يحتل المرتبة الثانية؟ هل أنت مع ما يثار من لغط حول أن هذا زمن الرواية؟
- أستطيع أن أؤكد أن الشعر هو الشعر الرديء الذي أتاحت له كثير من الوسائط التكنولوجية أن يصبح مسألة في غاية الاستسهال خارج كل (ضبط) نقدي. في الفيسبوك الذي يحتل المرتبة الثانية، بل وحتى الأخيرة، لا يمكن أن تمنع الناس من كتابة ما يريدون على حوائطهم، لأن هذا من حقهم الذي حققته لهم (الديموقراطية التكنولوجية). قبل ذلك، كانت الكتابات لا تصل المتلقي إلا بعد المرور بمصفاة الناقد الكشّاف، والقارئ المتمكن، ودار النشر المحترمة. هذه الضوابط بقدر ما كانت تحبط كثيراً من الأصوات الناشئة، بقدر ما جعلت الشاعر يقتنع أن الكتابة هي مجال للصراع بين الذات الشاعرة والآخر المتلقي، وعلى الذات أن تكسب معركة الاعتراف بها كقول شعري خالص وأصيل من خلال المرور الحتمي بهذا الصراع الذي يفترض أن أحد الطرفين سينتصر والآخر سينهزم، إن جاز لي أن أفكر في هذه المسألة من خلال مفاهيم هيجل في الصراع بين الأنا والآخر. كنا أمام صراع بين طرفين لا يهادنان بعضهما، وعندما تكسب الذات الشاعرة معركة الاعتراف، تنتقل إلى (حقيقة) الاعتراف بها وتكريس مجدها الشعري. لكن الآن، أمام انهيار هذه الضوابط، اختفى الطرف الثاني، وبقيت الذات حرة في سماع صوتها النرجسي الخاص الذي تردده (لايكات) و(تعليقات) من يمرون بصفحتها على الفيسبوك. بينما لا نجد هذا الأمر في الرواية، حيث لا يمكن أن تنشر رواية على صفحات المواقع الاجتماعية، نظراً لحجمها الذي يتعارض مع الإيجاز الذي يتطلبه العالم الرقمي، ولا يمكنك أن تنتظر هديتك المتمثلة في عدد (اللايكات) و(التعليقات)، وهذا ما يجعلني مقتنعاً أن الرواية ليست فعلاً متسرعاً يمكن نشره في شكل شذرات أو مقاطع قصيرة كفعل يومي، بل هي انشغال وممارسة تتم في مستوى أكثر تعقيداً.
ألا ترى معي أن الشعر هو الأكثر حظاً نقدياً؟
- ربما كان هذا صحيحاً إلى حدود التسعينات من القرن الماضي. يجب ألا ننسى أننا ورثنا انحيازاً مطلقاً إلى الشعر باعتباره (ديوان العرب)، في حين أن الرواية (طارئة) في المشهد الأدبي. إنها لم تبدأ بشكل رسمي إلا في أربعينات القرن العشرين، وهذا يعني أنها لم تبلغ مئة سنة حتى، وهذا ما يجعل المتلقي لا شعورياً، ربما، يتعامل مع الرواية كجنس فرضه الغزو الاستعماري الغربي لبلداننا، وقد صارعت الرواية لاكتساب (حق الانتماء إلى المدينة) الأدبية، بفضل المجهود الكبير الذي قام به نجيب محفوظ، عندما جعلنا نطل على عالم الحارة الشعبي وعالم الناس البسطاء، بعدما كان الإجماع السائد يعتقد أن العالم مهيأ فقط من أجل (الذوات والباشوات والباكوات)، ومن خلال كذلك أعمال عبدالرحمن الشرقاوي التي جعلتنا نشم عرق الفلاحين وصراعاتهم ضد السلطة وفي ما بينهم بعيداً عن تلك الصورة الرومانسية التي كانت تغني (ما أحلاها عيشة الفلاح). هناك اليوم انتشار واسع للرواية وإقبال عليها، بل إن معظم الجوائز العربية المهمة مكرسة بالأساس للرواية وللأعمال السردية الأخرى كالقصة القصيرة.
بصراحة شديدة، لجوء المبدع إلى إسقاط ما هو تراثي وتوظيفه، هل معناه أن المبدع في عالمنا العربي مقيد، (سدوم) مثالاً؟
- دعني أقول لك يا صديقي، بأن العنوان (سدوم)، هو مجرد (لؤم) مني لإثارة انتباه المتلقي وصدم أفق انتظاره. أنا لا أتكلم عن سدوم التوراتية، وإنما استهوتني الفكرة الخفية التي تؤسس قصة مدينة سدوم في الأسفار العبرية، في رواية سدوم، لا أتحدث نهائياً عن سدوم اللوطية، وإنما أتحدث عن شلة من المبدعين الذين يختبرون، على أرض الواقع الفعلي، فرضية (الحرية) التي تمثل شرطَ وجودهم الإبداعي، وهو ما يقودهم حتماً إلى مجابهة أجسادهم باعتبارها خزان أسرار ووقائع أليمة ومبررات يجهلها العقل، وهو ما جعلني أمكر مع العبارة الشهيرة لباسكال التي افتتحت بها الرواية. فإما أن يعترف المبدعون بما تختزنه أجسادهم من (حقائق) لا يقوم العقل سوى بتقنيعها، وبهذا تتحقق فرضية الحرية، وإما أن ينكروا ذلك، فيكرسون (الإجماع الأخلاقي الزائف) الذي يسعون إلى تحطيمه ونقده.
عبدالحميد شوقي الشاعر، هل خدمته اللغة الشعرية في السرد؟
- إلى الآن، ما زلت أقدم نفسي للعالم كشاعر، وما زلت أتماهى مع هويتي الشعرية، ولكني، وأنا أحتك بالمتن الإبداعي العربي والعالمي، وأحاول العثور على موطئ قدم في عالم الكتابة، اكتشفت في سن مبكرة، أن عشقي للشعر لا يضاهيه سوى عشقي للرواية، وأن قدرتي على الشعر تتساوى مع قدرتي على الرواية. لكني خرجت بقناعة نهائية، وهو أنني غير قادر على كتابة القصة القصيرة أو المسرحية أو الشعر العامي. وبلغة كانط، اكتشفت الحدود التي يقف عندها عقلي الإبداعي وإذا تجاوزها سقط في (الجدل).
ألا ترى أن النزعة الفلسفية تغلب على إبداعك الشعري عكس الرواية المغموسة في الواقع؟
- أود أن أشير أولاً إلى أن (ليل العائدين) هي أسبق في الكتابة من (سدوم) بسنتين، إنها بمثابة الإعلان الرسمي على قدومي إلى (الـبوليس polis الروائية)، بعد أن كتبت أعمالاً سابقة اعتبرتها تمرينات كان لا بد منها لاكتساب اللياقة السردية. ربما في سدوم، نجد حضوراً طاغياً للفلسفة، خصوصاً في جانبها الفرنسي، بل نجد حضوراً لأشكال الإبداع الإنساني، من شعر ومسرح وتشكيل وتمثيل وإخراج وسرد، وهي أشكال تمثل تعبيرا عن ممكنات الحرية التي يتطلع نحوها الوجود الإنساني، وربما نجد في أعمالي الشعرية لمسة فلسفية واضحة بحكم اشتغالي بالفلسفة، وبحكم تمرسي بالشعر لسنوات طويلة، وهو ما أكسبني مزجاً بين الجملة الشعرية والفكرة الفلسفية، بعيداً عن ضجيج البلاغة الذي ورثناه عن المتن الشعري القديم. لكن في (ليل العائدين)، نجد حضوراً للتجربة السياسية التي عاشها المغرب في السبعينات إلى أواخر التسعينات، أو ما سمي بسنوات الرصاص. لقد كتبت (ليل العائدين) انطلاقاً من مشهد حقيقي، عشته وأنا مراهق أواخر السبعينات، عندما كان المناضلون في مدينتي الصغيرة يحتفلون بأحد الرموز الكبيرة للنضال الطلابي، ويرفعونه إلى قمة المجد، وهو لم يكن في الحقيقة، كما سيتكشف ذلك فيما بعد، سوى عميل (للمخزن)، أي للنظام، و(باع) رفاقه دون أن يرف له جفن. ذلك ما جعلني أمام نفس بشرية معقدة وخفية وعلى درجة كبيرة من الأسرار، فليس كل ما يظهر لنا هو ما يكون حقيقياً.

ذو صلة