مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

محمد الشحات: لا توجد نظرية نقدية عربية

حوار/ عذاب الركابي: مصر


محمّد الشحات شاعرٌ مُخلصٌ للقصيدةِ، وهي نبتة تخرجُ من تربةِ الهمّ الإنساني. القصيدة القصيدة، هي التي تُغيّرُ وتجمّل الحياة، لا القصيدة اللغز أو الأحجية. والقصيدة لديه تفاصيل جميلة!
كُلّ ما دون الشعرِ لا يعوّلُ عليه! فنّ كلّ زمانٍ، وهو البوّابة الدافئة التي تمرُّ كلّ فنون الكتابة خلالها بأمانٍ وخلود. والشاعرُ الكبير محمّد الشحات له في كلّ قصيدة بحرُ مشاعر وأحاسيس، ولحظة ميلادٍ جديدٍ. وكُلّ قصيدةٍ فكرة ورسالة إنسانية، ذلك هو فقهُ الشعر لديه!
والقصيدة كائن، إنسانٌ صانع الحياة بقلبٍ صوانيّ بمواجهة الموت. شاعرٌ وفيٌّ لنصّهِ، وقراءاته، ولمَن تركوا أثراً في إبداعهِ الغزيرِ. يؤمنُ بأن ليسَ هناك مبدع نبت شيطانيّ، وهو يُثني على آباء الإيحاء منذ صدحتِ الكلماتُ بأغانيها الكونيةِ وحتّى نهايةِ الزمان.
ولديهِ لقرّاء (المجلة العربية) شذراتٌ من حديثهِ الدافئ:
تنوعت لديك فنون الكتابة الأدبية: شعر، صحافة، نقد، ويوميات ثقافية.. ويبقى الشعرُ نافذتك الأمثل، تطلّ بمفرداتِ الحُلم من خلالها على الواقع، أو وأنت تُرتّب سُررَ الحياة؛ لماذا الشعر؟ وما الجدوى من كلّ هذهِ القوافي في واقع لمْ يعُد شعرياً؟
- لو لم يخلقني الله شاعراً لتمنيت أن أكون شاعراً، فدائماً ما أسأل نفسي هل حقاً كوني شاعراً هي نعمة أم نقمة، لأن الشاعر وأنا، أقصد هنا أن الشاعر الشاعر الذي يمتلك موهبة شعرية حقيقية وصادقة وظاهرة للعيان، بعيداً عن الادعاء وارتداء أثواب الآخرين، وعمل حلول منطقية للكثير من الخفايا، وأحمد الله على كوني شاعراً، لأني أتنفس من خلاله، أرى به العالم، ولم أكتب حرفاً واحداً إلا وأنا قد عايشت هذا الحرف، الشعر جعلني أدلي بدلوي في كل ما يتصل بالإنسان: توقهُ للحرية، ما يعانيه من ظلم وقهر وغبن، الحلم بعالم متحرر صادق أمين. أنا أتوقُ ليس للمدينة الفاضلة، ولكن لعالمٍ إنساني يسودهُ الحبّ والمودة والإنسانية، ومن خلال ما كتبته من قصائد كنت أقول ذلك. الشعر هو متنفسي رئتي.
هل أنت مع هجرة الشعراء الشرعية إلى فنون الكتابة الأخرى كالرواية على سبيل المثال لا الحصر؟ ما أسباب هذا التراجع؟
- للأسف الشديد يتحمل الغالبية العظمى من الشعراء المحدثون ما وصلت إليه حالة الشعر من هجر وابتعاد الجمهور عن الاستماع وتذوق الشعر، وبعض الشعراء يغنون في وادٍ وجمهورهم في وادٍ آخر، ولا ينتبهون أن هناك جمهوراً يستمع إليهم. الجمهور لديه كلّ الحق أن يهجرَ الشعر وينصرف عنه، وللأسف الشديد الشعراء هم السبب، لأن الإغراق الشديد في الرمزية والإبهام، وتفنن الشعراء في إغلاق قصائدهم، والحاجة الشديدة إلى شرّاح ومفسّرين للقصيدة؛ جعل المتلقي يهربُ من الشعر. والناشر عنده كلّ الحق في أن ينصرف عن نشر الشعر، لأنهُ في النهاية يخشى على أمواله ولا يُريد أن يطبع دواوين يملأ بها مخازنه. ولكن هناك أصوات شعرية جيدة وصادقة وأمينة، لديها جمهور يقبل على ندواتهم، مما يؤكد بأن العيب في الشعراء أنفسهم. وأنا ضد هجر الشعراء للشعر والاتجاه إلى كتابة الرواية، وأعتقد أن عدداً كبيراً من الشعراء الذين كتبوا أعمالاً روائية لم تحقق النجاح الملفت، ولو أدركوا بأن التركيبة الخاصة بكل مبدع مختلفة، فالشاعر له عالمه وكذلك الروائي وأيضاً المسرحي، ولكن على الشعراء العكوف على تجاربهم الشعرية والصدق والأخذ بيدِ القارئ لا إغلاق الأبواب في وجهه.
هلْ تؤمن بزمنِ الأجيال، وبمفردات النقّاد: هذا جيل الستينات، وذاك السبعينات والتسعينات.. وهكذا؟ أليس الإبداع لا زمني؟ وما رأيك بقول (زمن الرواية)؟ أليس للشعر زمن؟ وهل هناك فنٌ يُمكنُ أن يتنازلَ عن كرسيّهِ الوثير لفنٍّ آخرَ؟ حدثني!
- أولاً أنا ضد فكرة المجالية، لأنك عندما تقدم إبداعك لا يعرف القارئ شيئاً عن أيّ جيل ينتمي إليه المبدع، هو يتعامل مع نصّ مجرد إلّا من اسم كاتبهِ، ولكن للأسف الشديد النقاد ومن أجل تسهيل العمل لديهم ابتكروا فكرة المجالية حتى يقوموا بعقد مقارنات واستخراج السمات والأمور المتشابهة بين المبدعين، ويحلو لهم عملية التقسيمات، ووضع المبدعين في مربعات، وهي للأسف قد سددت ضربات قاتلة للعملية الإبداعية، وعرّضت الإبداع إلى عملية تراجع شديد، واهتم النقد كثيراً بالتقسيمات.
أما مقولة هذا (زمن الرواية) والذي أطلقه الناقد الكبير د.جابر عصفور منذ بضع سنوات؛ فقد أطلقه في ظروف معينة مع زيادة عدد الروايات وتراجع عدد الدواوين، ولكنها للأسف مقولة ظالمة وغير دقيقة، لأن الشعرَ هو فن كلّ زمان، ولكن من الممكن أن يخفت ويتراجع لظروف تاريخية. وسيظل الشعرُ هو ديوان العرب، وسيظل الشعر طالما كانت هناك لغة وكلام مكتوب ومنطوق ومقروء متجذر في نفوس البشر.
بوصفك صحفياً ترأستَ تحرير عدة مجلات ثقافية، وشاركتَ في مؤسسات أخرى؛ كيفَ تقيّم صحافتنا الثقافية؟ أنت تعلمُ أنها متهمة دائماً بأنها صحافة مجاملات، ومصالح، وتبادل منافع.. ما رأيك؟ هل هي تبدو مرآة مهشمة فعلاً؟ ماذا تقترح لصحافة ثقافية إبداعية جادة وهادفة؟
- للأسف الصحافة الثقافية في مصر لم تقم بالدور المنوط بها، نحن شعب يبلغ المئة مليون نسمة ويزيد، وعدد المجلات الثقافية لا يتعدى عدد أصابع اليد الواحدة، الصفحات الثقافية في الجرائد اليومية لا تتعدى أيضاً أصابع اليد الواحدة، ناهيك عن كارثة عدم وجود معايير في عملية النشر، فليس الجيد فقط هو الذي ينشر، للأسف الشديد ربما يكون هناك الكثير من الإبداعات الجيدة لا تجد طريقها للنشر، نحن نعيش في مأساة، والذي خفف من وطأة تلك الكارثة وجود الفيسبوك وتويتر إذ أصبحت نوافذ لنشر المبدعين أعمالهم، نحن نحتاج إلى أن تعود المجلات الثقافية التي كانت تزخر بها مصر: الكاتب، والثقافة، والقاهرة.. وغيرها من المجلات الثقافية، وأن يضاف إلى جريدة (أخبار الأدب) ما لا يقل عن خمس جرائد ثقافية، إضافة إلى أن تقوم وزارة الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة واتحاد الكتاب والهيئات الثقافية بالدور المنوط بهم بأن يتولاها مثقفون حقيقيون، يستطيعون وضع خطط ثقافية وتنفيذها.
هلْ لدينا حركة نقدية جادة ومواكبة لهذا التفجّر الإبداعي؟ كشاعرٍ لك حضورك في الفضاء الثقافي المصري والعربي، هلْ أنصفك النقد أمام هذا العطاء الشعري الغزير؟ مَن ناقدكَ الأمثل مصرياً وعربياً؟
- لا أخفي عليك سراً بأن السببَ المباشر أو سبب من أسباب توقفي عن الشعر عام 1996 بعد ديواني السادس (كثيرة هزائمي)؛ كان بسبب التجاهل النقدي لي، وانغلاق العملية النقدية على أسماء بعينها من أبناء جيلي، فهل من المعقول أن يتمَّ حصر جيل شعري بأكمله في سبعة أو ثمانية شعراء أقصد جماعتي (أصوات) و(إضاءة)، وتتم عملية اغتيال وقتل مع سبق الإصرار والترصد من قبل النقاد الذين تصدوا للحديث عن هذه الفترة الزمنية.
أما هل لدينا حركة نقدية جادة مواكبة لهذا التفجير الإبداعي؛ نعم العالم العربي حافل بكوكبة من النقاد الجادين والمجيدين في جميع الدول العربية، سواء أساتذة الجامعة أو نقاد من خارج الجامعة، ولكن المشكلة تكمن بالغناء المنفرد، وعدم وجود نظرية نقدية عربية يلتف حولها كل نقادنا في مختلف البلاد العربية، ولسوف تترك الكثير من الأثر على الإبداع، وأنا من أكثر المؤمنين بأن النقد يمكنه أن يلعب دوراً جوهرياً في توجيه البوصلة الإبداعية، ويكون خير معين للمبدع وهو يضع في الاعتبار كلّ ما يقوله الناقد في إبداعه، وبذلك تزدهر الأعمال الإبداعية.
أما بخصوص هل أنصفني النقد أمام هذا العطاء الشعري الغزير؟ أقول لك: نعم، لقد أنصفني النقاد، خصوصاً في العامين الأخيرين، وقد أكون أنا السبب في عدم انتباه النقاد لمشروعي الشعري، إلّا أنني عندما بدأت أتواصل مع النقاد بتوفير أعمالي الشعرية، حدث الاهتمام.
حصلت على عدّة جوائز أدبية، وللجائزة كيمياء خاصة، أهي مسؤولية؟ أم حافز أكبر على المزيد والتألق؟ أمْ ماذا؟ هل للجوائز العربية المتعددة أجندات غامضة، كما يتهمها عديد المبدعين وكبار الكتّاب؟ أمْ أنها -رغم ذلك- ظاهرة صحية في الحياة الثقافية العربية؟ ماذا تقول؟
- أنا فزت بجائزة عام 1978، ولم أتقدم بعدها لأيّ جائزة، ولن أتقدم. وأنا أعتقد أن ما يدور حولنا من جوائز تشوبه الكثير من الشوائب، حتى الجوائز التي تمنحها الدولة، للأسف الشديد أمور كثيرة نسمعها عن طريقة التصويت والفحص تجعلك في ريبة من أمر تلك الجوائز، حتى الجوائز العربية لم تسلم من ذلك. وأنا أعتقد أن أكبر جائزة يمكن أن يحصل عليها المبدع هي التفاف القراء حول إبداعه، وأن ينال الاحترام النقدي من نقاد أمناء، تلك تكون أكبر جائزة تفرح المبدع.
أكثر من واحدٍ وعشرين ديواناً، ابتداء من (الدوران حول الرأس 1974)، ومروراً بـ(مكاشفة) 1995 و(رجفة المقامات 2019)، وليسَ انتهاءَ بـ(رجل مسكون بالزرقة 2021)؛ ماذا أيضاً؟ ما الذي ينضجُ تحت أصابعك والقارئ بانتظاره؟
- أنا أصدرت حتى الآن 21 ديواناً - كما قلت. ولي تحت الطبع مختارات عن دار وعد، وهناك تمنٍ لو يصحبها (ديوان شعر هيئة قصور الثقافة)، وكذلكَ (لم يقدر أن يتغير) - ديوان شعر يصدر عن المجلس الأعلى للثقافة، وديوان ثالث بعنوان (خلوتي).

ذو صلة