رفيق علي أحمد: من لا يعرف قيادة نفسه في الدراما يتوه
حوار/ عبيدو باشا: لبنان
هذه لحظة من العناق الجميل مع الحياة، حياة رفيق علي أحمد في كتابه (الراوي - الممثل على خشبة الحياة) الصادر عن (الهيئة العربية للمسرح). 270 صفحة تحتفي بحياة هذا المسرحي بقلمه بلغة لا يجيدها ولا تخرج سوى من راو امتهن الرواية بعد أن هواها. القرية، المدينة، المسرح. ثم كرنولوجيا المسرح من صباح يعقوب الشدراوي إلى شرفة روجيه عساف في (مسرح الحكواتي) إلى درب ال الرحباني.
بفصحى ممزوجة بالعامية، وبعامية ممزوجة بالفصحى، يمضي هذا الراوي إلى حيث سيصادفه البحر، ليتداخل الأخير في بحره ليؤلفا بحراً واحداً على كلام حميم أوله سلام إلى البيت وآخره المسرح سلام من لا سلام له. النتيجة مونودراما أخرى من مونودرامات هذا الرجل، من يشار إليه بوصفه الأب لهذا النوع في لبنان والأجدر بالعالم العربي. مونودراما جديدة. ولكنها مونودراما على الورق. مونودراما الخلاء المشغول من وهج الآهات المكبوتة.
هنا حوار مع رفيق علي أحمد، يبدأ بالكتاب ليكتمل بكلمة اليوم العربي للمسرح حيث غسل الرجل هذا اليوم بأنواره في كلمة حرة وحارة حول الواقع العربي والمسرح والرقابة وغيرها من القضايا، ما إذا وقفت أمامها لن تسعد من أحوال المسرح في عالمنا العربي.
اللافت، توقيت إصدار سيرتك المسرحية، المهنية والشخصية في كتاب. أعرف أنك لم تهرع إلى الكتابة تحت ظرف أو مناسبة، وأنك لا تريد أن توصل بريداً من خلال الكتابة. ولكن تزامن الصدور مع كتابة كلمة اليوم العربي للمسرح للهيئة العربية للمسرح، يجعلنا نرى أن ظهور الكتاب كظهور صندوق على صفحة من مياه الحياة.
- مياه الحياة. هذه سيرة تقول ما حدث لي، ما تراءى لي. احتوى الاثنان لحظاتي المفضلة. لحظاتي المعاشة على المنصة لا على العبارة. الأخيرة في منتهى الأهمية، غير أن المسرحيين الحقيقيين يخربون استعمال الكلمة في صالح الصورة، شكل الصورة، عمق الصورة. وحين أتكلم على صورة أتكلم على مشهد. أحببت فتح الكتاب منذ زمن، دونت بعض الأشياء. وإذ وجدت أن حقيبة الظهر أضحت ثقيلة بادرت إلى فتحها وإفراغها من جزء من محتواها، لكي لا تبقى بعض جوانب، أجزاء التجربة مجهولة.
هذا كتاب عن التجربة، واضح أن التجربة هي عنوان ميلاد الكتاب، من بداياتك في النبطية (قرية في جنوب لبنان ) وصولاً إلى بيروت وبلوغك تجارب يعقوب الشدراوي، وروجيه عساف حتى ظهور (الجرس) أول تجاربك الخاصة، ثم ما تلاها من مونودرامات، آخرها (وحشة). لا تزال الأخيرة مقهورة من إيقاف عروضها بقرار مفاجئ والناس لا تزال بعد محتشدة على أبوابها. حسبت للوهلة الأولى أن (وحشة) ستلعب لأشهر طويلة قبل أن تطيحها وكأنك متدخل مخرب في حياتها.
- الكتاب خروج الحياة من أكياسها الأصلية وفضها في فضاء العالم لكي لا تتلف بتلف الذاكرة. فصول توالي فصولاً، فصول متوالية من بداية الحياة في المسرح في وهلات القرية الأولى حيث العفوية، حيث لا خدع محكمة، وحيث الإمكان كتاب مفتوح. كتابة موكب. كتابة بعيدة من الشعائر، كتابة شبكة، كتابة تشبيك أوقات بحسب تسلسلها الزمني. لكل عمل نافذة، لكل عمل قلب. مرور على الروح، مرور على الأسماء والناس والمسرح والكائنات والأروقة والكواليس والبقع والشعور والتدريب. المسرح في لحظات الحنق السياسي والعسكري في لبنان. المسرح وهو يخرج إلى الحياة مدافعاً عن الحياة وسط مظاهر الموت. ورداً على ما ذكرته عن (وحشة)، ما ذكرته صحيح ولكنني أوقفت عروضها قسراً حين بدا لي أن ثمة عجز عن الكلام أمام الناس في جمهورية خرساء وهي تشاهد نفسها تذوي على سرير مستشفاها دون قدرة على أن تحاكم أحداً.
هل تفكر بتقديمها مرة أخرى؟
- حين يبدو لعب مسرحية كقيادة دراجة بسلة مملؤة بأشياء ملفوفة بورق ملون ومشدودة بأشرطة أو بخيوط وسط ضجيج طيور الخراب، يضحي الأمر مزعجاً. سألت ماذا أقول ولمن أقول، وحين سألت أدركت أن دور المسرحي ينتهي هنا. وحين فكرت بأن دور المسرحي دور لازم على مفترق الطرق فكرت بالعودة إلى تقديمها. خصوصاً أن ثمة ساحات مملؤة بالشبان الصغار وكبار السن راحوا يقرعون جرس الدراجة على أذنيَّ. لا بد من قيادة الدراجة إذن، لكي أصل إلى المسرح وأتحدث بصوت مرتفع على درج البلاد التاريخي مع باقي من لا يزالون يتكلمون، يروون، يدونون أوجاعهم لكي يتطهروا من الأوجاع بالرواية. إنني في هذه المرحلة أهز جدراني المتكلمة من جديد دون أن أنزعج من احمرار الخدين مما يحصل من أعمال مختلفة تماماً عما عهدناه في بيروت ولبنان.
السيرة أعلام ترتفع لتنطوي؟
- لتحفز. ولكي لا تبقى الروايات في ملابسها التاريخية. لكل فصل في الكتاب واقعة تتوقف لترى شيئاً، لتشم شيئاً، ثم تمضي وكأن ثمة أشياء عادية حدثت. إني أحيط سيرتي بيدي العاريتين في الكتاب الصادر عن (الهيئة العربية للمسرح). لكل حدث فصل، لكل مسرحية فصل من الجامعة حيث التدرب إلى الاحتراف، مع غمز وآداء بعيدين من الروتنة. لست سائحاً هنا، لست كذلك مع الشدراوي وعساف ونضال الأشقر والطيب الصديقي في فرقة المسرحيين العرب وأعمال الرحابنة من سقراط إلى جبران. واللوحات الأخرى. ثم في الجرس والمفتاح والزبال وجرصة ووحشة. ذهاب وإياب بالبساطة لا بالسهولة.
في التلفزيون، شاهدناك في (عروس بيروت) تقوم بأمر قمت به بالآونة الأخيرة كثيراً في (الهيبة) و(خمسة ونص) ودرامات أخرى.
- التلفزيون أمر كبير. أدركت الأمر مؤخراً ولو بدا الشغل في التلفزيون، للكثيرين، لا يستغرق طويلاً وهو أقرب إلى اللعب بقرص الهاتف. الدراما قلاع ضخمة خلفها منازل ومؤسسات وساحات وشوارع صغيرة وكبيرة مستقيمة وملتوية، إن لم تعرف كيف تقود نفسك فيها تتركك تائهاً. النفاذ إلى الدراما والخروج منها بأعمال مشهودة أمر مذهل.
وكتابتك كلمة اليوم العربي للمسرح؟
- أجده تكريماً ممن أقاموا عهودهم من أجل المسرح والمسرحيين في الهيئة العربية للمسرح، في مقدمهم حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، والأمين العام إسماعيل عبدالله، وكافة الرفاق هناك من غنام غنام إلى حسن النفالي والآخرين فرداً فرداً. شيء لا يعلق بالأهداب حتى يعلق بشعر الرأس ويستقر في الفؤاد. حضور يعمه التقدير والتكريم. بالأخص أن ما حدث، حدث وسط الظروف المعروفة، ظروف الفايروس وكل الأشياء الغريبة المرسومة في هواء العالم. نحن فيما نفعل لا نتبادل الأحاديث، نحن نذكر بأن حال العيون من أحوال البلاد وأن اللقاء لا يموت ولو تأجل. لم أقل في الكلمة عفو ما رأيت. أشرت إلى ما يقوض الحياة، كما لو أنني امرأة حامل آن أوان ولادتها. نحن أذكى من الهواتف الذكية (يضحك) لذا نراهن على الحياة واستمرار الحياة.