رياض الجرعي: الفن تعبير لأنين روح الإنسان على الأرض
حوار/ حمد الدريهم: الرياض
يحاول المصور الفوتوغرافي رياض الجرعي عبر عدسته التقاط مساحات جغرافية واسعة؛ لاستنطاق جماليات المناظر الطبيعية في المملكة، يرى بأن الفن ليس إلا تعبيراً لأنين روح الإنسان على هذه الأرض كما دونها في إحدى إجاباته. التقيت به؛ لأحاوره عن اللقطة والزاوية وفتنة صمت الطبيعة في روحه، وخيط ضوء شق الجبال ليخلده بعدسته، فإليكم الحوار:
هناك من يرى بأن معظم مصوري فن التقاط المناظر الطبيعية في المملكة قد أشبعوا الأماكن الذائعة الصيت التقاطاً وأننا بحاجة لالتقاط ما لا يُعرف من أماكن في المملكة ذات التنوع الجغرافي الكبير، هل تتفق أو تختلف ولماذا؟
- أتفق مع هذا تماماً، إن لم تأتِ بالجديد فلن تكون مدهشاً أو خلّاقاً في فن تصوير الطبيعة وهذا ينطبقُ على كافة أنواع الفنون دون استثناء.
في ظني أن ما لا يُعرف وما هو مجهول من الأماكن الطبيعية داخل المملكة أهم بكثير مما يُعرف وما تم توثيقه وتصويره وتجسيده بعدسات المصورين حتى الآن. إن الصورة ليست صورة فحسب؛ بل أحياناً تكون وثيقة أنثروبولوجية كما فعل الفنان الفرنسي تيري موجيه للمنطقة الجنوبية منذ ثلاثين عاماً.
قد يجنح تصوير الطبيعة للطابع الجمالي أكثر من حياة الناس وإبراز الثقافة ولكن هذا ما نحتاج إليه لإبراز تلك الأماكن الخلاقة والجميلة والحضارية في المملكة. ما لم يحب الإنسان الطبيعة التي يعيش فيها وينتمي إليها فلن يُنتج حضارة.
في إحدى صورك، خيط ضوء يشق الجبال ليتصل برجل واقف بين جدران ملمسها التاريخ العتيق عبر العصور؛ لتخلدها بعدستك... هل كانت تلك اللقطة تلقائية أم بترتيب مسبق منك؟ كيف تصف أثر تلك اللقطة؟
- لأحد علماء النفس عبارة يقول فيها: «كلنا فنانون بمجرد أننا نحلم». إن الحلم يعني تجاوز واقع الحياة، هو اللامعقول أحياناً، وهذا اللامعقول يكون الفن في جوهره، أليس كل ما فعله الفنان الإسباني سلفادور دالي أنه قام بتجسيد أحلامه وخيالاته في لوحة فنية؟!
ذلك الحلم يجب أن يكون داخل كل فنان حقيقي وأن يتخيل ما سيفعله قبل أن يفعل أي شيء.
صحيح أن الكاميرا محددة بتكوين وزاوية وأبعاد معينة تقيده أحياناً؛ لكنها قادرة على أن تجعل الفنان يستنطق روحه وخياله وأحلامه ويجسدها في لوحة فنية. لا يوجد أي عمل فني يقوم به أي فنان إلا وفيه جزء من روح ذلك الفنان. أبعد من ذلك، حتى تلك الأعمال الفنية التي يقوم بتزويرها البعض لابد رغماً عنه أن يُخطئ ويترك شيئاً من ذاته وروحه في تلك اللوحة المزورة رغم محاولاته لإخفاء ذاته ومعالم فعله.
المشردون، الأطفال، المرضى، ضحكة امرأة جميلة وغيرها من الصور الإنسانية بأفراحها وأوجاعها، لِم تركت كل هذا واتجهت إلى فن تصوير المناظر الطبيعية حيث السكون والصمت؟
- بعد أن يُحتفى به ثناءً على رأسهم ملك فرنسا فرانسوا الأول كان دافنشي يرد: «أنا لستُ فناناً، أنا تلميذ للطبيعة فحسب».
في الحقيقة إن كل ما يفعله الإنسان فنياً وحضارياً ليس إلا محاكاة للطبيعة ولا يمكن أن يُنتج حضارة أو فناً أو جمالاً إلا من خلال قوانينها سواء الطبيعية أو الجمالية وأعني هنا نظريات الجمال التي لانزال نحفر فيها ولم نتمكن نحن البشر من فهم الجمال في ذاته حق الفهم.
الطبيعة تأثيرها على الإنسان بصورة عامة عميق وكبير. خذ مثالاً على ما تفعله الطبيعة في سايكولوجية الإنسان ووجدانية تستثير مشاعره.
عندما جلستُ على حافة العالم (جبال طويق) وهو آخر الأماكن التي زرتها. كان منظر الغروب من شرفة ذلك المكان لا يشعرك بحافة العالم؛ بل بنهاية كل شيء على هذه الأرض، كل شيء آيل للزوال والفناء إلا وجهه، هنا نبش الغروب في ذاكرتي كل الذكريات الجميلة والمواقف والكلمات العذبة والقصائد الملهمة، هنا يكون الإنسان أقرب لذاته العميقة إن قرّر أن يبقى صامتاً هادئاً لا يحرك ساكناً وأقرب لعالمه الداخلي وأقرب من أي وقت مضى لروحه، بعيداً عن ضجيج المدينة وزحام العالم الذي لا يتوقف حوله. أمام هذا الغروب الفاتن الساحر؛ ولكي لا أغرق في التفكير وقت الغروب قررت أن ألتقط صورة ليست بأصابعي ولا بعقلي؛ بل بقلبي، جعلت قلبي هو الذي يصور ويحدد كيف تكون الصورة لأنه مليء بالمشاعر وليس كالعقل الذي لا يسلم إلا بالقوانين المنطقية والرياضية وأظن أن القلب هو من يقول الحقيقة وليس العقل. دائما عندما يتصارع قلبي وعقلي أقف بجانب قلبي لأنني أظن أنه على حق.
قلت ذات مرة عن المصورين المحترفين: «فهم لا يصورون فقط بل يجسدون في ذواكر عقولهم الجمالية تلك المشاهد الخلاقة والألوان المتعددة وطبقات الضوء والظل بأدق تفاصيلها ليتم معالجة ما فشلت في تجسيده الكاميرا». هل ذاكرة عين المصور بعد اللقطة هي المفتاح والسر لجمالية اللقطة؟ هل هذا ينطبق على بقية أنواع التصوير الفوتوغرافي؟
- في الحقيقة إن عين الفنان تختلف عن عين الإنسان الآخر، وبصورة أدق إن العقل البصري للفنان قادر على ملاحظة الضوء هناك والظل هنا ودرجات الألوان وتلك القطرات على أطراف الورق ويمايز بين درجات الإضاءة في المشهد، إن هذا يخلق في عقل الفنان ذاكرة جمالية كما يسميها جون راكسن، تجعله يرى أدق جماليات الأشياء وهذا ما لا يراه الإنسان العادي.
دعنا نتخيل هذا المشهد لصديقين يجلسان على شاطئ البحر وقت المغيب أحدهما فنان والآخر اقتصادي، كيف يمكن أن يرى كل منهما البحر؟ ستجد أن الفنان يأخذه خياله لعالم جمالي يعيشه في ذاكرته الجمالية أكثر من حقيقة واقعه، لا يرى البحر باهتاً رمادياً وإن كان كذلك في الواقع؛ بل سيراه أرجوانياً صافياً وكأن قطعاً من الألماس تتناثر على سطحه وتعانق السحب بعضها لتتزين بألوان الشفق وقرص الشمس الذهبي يقرر الأفول وتتراقص طيور النورس بحرية فوق المحيط وسيُخيل إليه بأنه يرى الأخطبوط الشفاف العجيب ويشعر بجمال سمك الماندرين الخجول النادر في قاع المحيط، سيرى ما لا يمكن أن يراه غيره ولكن بخياله وبذاكرته الجمالية.
نذهب الآن لِما يُمكن أن يراه الاقتصادي، سنجد أنه لا يرى سوى الأوراق المالية التي يعيشها في واقعه وعالمه اليومي، في هذا المثال الذي لا يخلو عن تبسيط مخل سنلاحظ كيف يرى الفنان الأشياء وكيف يراها غيره.
تقول الكاتبة الأمريكية سوزان سونتاج في كتابها الذائع الصيت: (حول الفوتوغراف): «إحساسنا الطاغي بسرعةِ زوالِ الأشياء، صار أكثر دقّة منذ أن منحتنا الكاميرات الإحساس بتثبيت اللحظة الزائلة»، كيف تتعامل مع لحظة فاتنة تستحقُّ التخليد بلقطة، لكن غياب الكاميرا حال دون ذلك، هل تُعيد خلق مشهد جديد مُشابه، أم أن لقطات الحياة الفاتنة لا تنتهي بالنسبة إليك؟
- سوزان سونتاج على حق لأن الكاميرا جعلتنا نعيش حالة مزيفة (حالة خلود) وديمومة مطلقة للأشياء، وواقع الحياة ليس كذلك؛ لأن الأشياء تتغير سواء كان ذلك بشرياً أو طبيعياً لا شيء يبقى على حاله.
إن الحقيقة تقوم على التغير الدائم والصيرورة المستمرة لكل شيء؛ بينما الصورة تقول لنا عكس ذلك؛ لكن ما يجب أن ندركه أن الصورة ليست ملزمة بالضرورة لقول الحقيقة إن كان غايتها فنية وجمالية محضة. إن إدراك جمال الأشياء يبدأ من الداخل أي أنه لا يمكن أن ترى جمالاً قط في الخارج ما لم يكن الداخل جميلاً. إن حقيقة الجمال تبدأ من عالم الإنسان الداخلي قبل أن يكون في العالم الخارجي.
إن ما في الخارج من جمال ليس سوى انعكاس لعالمه الداخلي الذي يعيشه. عندما أجد منظراً فاتناً خلاقاً، لابد أن يجد هذا المشهد أو المنظر في داخلي ذوقاً فنياً وجمالياً خالصاً بعد أن أمتلئ منه يبدأُ دور الكاميرا لتخليد هذا المشهد في لقطة، ليشعر الآخر بما شعرتُ به أو شعر به الفنان، إن غابت الكاميرا لأي سبب كان، لا يجب أن يغيب تذوق الفنان للطبيعة والجمال.
صورك ستكون وثائق عتيقة في متحف المستقبل، للدلالة على تاريخ ما وربما للإشارة إلى حقائق معينة وثّقتها عدستك، هل تدرك ذلك الأمر أثناء الالتقاط؟ أم أن اللقطة الفاتنة تأخذك بلا تفكير لالتقاطها؟
- إن الأشياء تأخذ قيمتها في المستقبل. عندما نلاحظ ونقرأ في تاريخ الفن، سنجد أن البعض كان يبدع أعمالاً خلاقة دون أن يفكر في مصير تلك الأعمال تماماً كما حدث مع فان غوخ.
هذا ليس على مستوى اللوحة فحسب؛ بل على جميع مستويات الإنتاج الفكري والثقافي والإنساني. كان هناك شاعر يكتب في كوخه الذي يحاصره شتاء جبال الألب القاسي، عندما يُعاتَبُ على ذلك الفعل يرد بقوله: «أنا أكتب لقارئ لم يولد بعد»، وهذا ما نفعله نحن.
الآن في زمن شيوع التصوير لكل شخص في العالم تقريباً عبر هاتفه، ووجود منصات نشر للصور عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هل تأثرت قيمة المصور المحترف أم أنها بقيت ثابتة، ما رأيك؟
هناك مشاهد لا يمكن أن تراها إلا لأشخاص محددين، على سبيل المثال أعمال الفنان مايكل أندرسون لن تجد صوراً مثلها بهواتف ذكية أو بكاميرا احترافية على الإطلاق، السبب أن الزاوية والمكان والضوء والمعالجة التي قام بها الفنان تختلف حتماً من فنان لآخر. صوره الفاتنة في جبال التبت لا أستطيع أن أجد مثلها في ذكاء لقطاته وإبداع زاويته وتوقيته للضوء بصورة خلاقة. هذا ينطبق على جوانب أخرى كالشعر. إن من يقرأ تاريخ الشعر العربي سيجد نفسه عاجزاً عن الإتيان ببيت واحد بعد جهابذة الشعراء العرب على مر العصور؛ لكن المبدع وحده قادر على الإتيان بالجديد دائماً وأبداً في كل عصر وفي أي مجال.
يقول مصور الحروب البريطاني السير دون ماكلين في أحد حواراته: «الكاميرا بالنسبة لي ليست رمياً عشوائياً... أستعملُ عاطفتي أكثر من استعمالي لتلك الكاميرا» ماذا تعني لك تلك الكاميرا؟
- أظن أن توظيف الكاميرا مسبقاً لأهداف آيدولوجية أو سياسية يجعلها أحياناً أداة لتشويه الحقائق وهنا تكون مسؤولية الفنان؛ لذا يجب أن يجسد المصور الفنان الحقيقة وأن يبحث عن الحقيقة وينتجها بعدسته، ما قيمة صورة تقدم للناس لا تقول الحقيقة فتستثير عواطفهم وأحاسيسهم وتوظف ضد الحقيقة وهذا أخطر ما قد يقوم به الفنان أو المصور على الإطلاق.
كما يزعم السيد السير دون ماكلين بأنه يستخدم عاطفته؛ لأن العاطفة في صور الحروب تأتي أكلها وتقوم بأكبر مما تقوم به بعض الأسلحة الفتاكة؛ لذا من الضروري جداً أن تتحد العاطفة مع الحقيقة؛ لأن الكاميرا ستحدث دوياً عالمياً يؤثر في الملايين وتفهمها كل لغات الأرض كما حدث مع صورة ذلك الطفل السوري الذي مات غرقاً على الشواطئ وأبكت الملايين أو مع طفلة حرب فيتنام.
يقول المصوّرُ الأمريكي إيميت غوين: «التصوير الفوتوغرافي هو وسيلة للتعامل مع أشياء يومية يعرفها الجميع، لكنهم لا ينتبهون إليها. صوري، مقصودٌ منها أن تمثّل شيئاً ما، أنت لا تراه». بعد هذه التجارب المتراكمة مذ أن لمست الكاميرا منذ سنوات وانتهاء باحترافيتك الآن، ما رؤيتك الخاصة تجاه ذلك الفن؟
- كنت دائماً أسأل نفسي: ما الذي يجعل فن المدرسة الرومانسية تحديداً يقدم أجمل ما قدمته الفنون على مر التاريخ؟
أجد الإجابة التي يعرفها الجميع وتنشغل بعواطف الإنسان ومشاعره وأحاسيسه أي أنها تفيض وجداناً. قد نبالغ في ذلك؛ لكن حقيقة الإنسان هي في قدرة المشاعر في السيطرة على سلوكه رغم مزاعمه المستمرة بالعقلانية. هنا يمكن أن أقول إن الفنان الحقيقي لا ينشغل بشيء أكثر من انشغاله بتوظيف مشاعره وأحاسيسه في أعماله الفنية، وهذا ما أجده في الفن بصورة عامة، إنه ليس أكثر من تعبير لأنين روح الإنسان على الأرض.