ميادة كيالي: ما نسميها اليوم بالأساطير هي نواة الأديان
حوار/ عبدالرحمن الخضيري: الرياض
أنهيت قراءة كتابيها (المرأة والألوهة المؤنثة في حضارات وادي الرافدين) والآخر (هندسة الهيمنة على النساء), وبقيت تساؤلاتي تلاحق ما بقي من حروفها التي توارت بين سطور كتابيها، أبحرت بعيداً في الحضارات الإنسانية مصافحة ملامح المعتقدات الأسطورية بروح وثابة لا تستسلم للصور النمطية، متسلحة بالعلم وبأدواتها البحثية حيث تخوض معاركها الفكرية بأسلوبها وفهمها للحياة وعلاقة الأنثى بهذا الوجود، الدكتورة ميادة مصطفى كيالي كاتبة وباحثة سورية تشغل حالياً المدير العام لدار النشر (مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع). عبر مؤلفاتها ومداخلاتها، تقدم لنا قراءة جديدة مختلفة للتاريخ خارج الأنساق المتعارف عليها ومكانة المرأة ودورها في السرديات التاريخية، فإلى الحوار:
كيف تقرئِين الوضع الراهن للمرأة ومؤسستي الأسرة والزواج في ظل المتغيرات المتصاعدة حول دورهما مستقبلاً؟
- لم تعد المجتمعات العربية تشكل وحدة واحدة متناغمة في أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بل أصبحت كيانات منفصلة، بعضها يملك الاستقرار والأمن، وبعضها تخيّم عليه الصراعات المذهبية، وأغلب المجتمعات العربية تعاني أزمات اقتصادية، ما أدى إلى تراجع في الطبقة الوسطى بل إلى شبه غيابها. لذا لا نستطيع اليوم أن نرسم خارطة توضح حال المرأة من دون النظر إلى خارطة الاستقرار على امتداد الجغرافيا.
في أغلب المجتمعات العربية المأزومة، تكون حصة المرأة والطفل من الكوارث وتداعيات انهيار الأنظمة والأمن، والأزمات الاقتصادية حصة الأسد، فتزداد تبعيتهما بشكل مطرد مع تنامي الأزمات، حيث لا يكون هناك حظّ من التعليم بما يكفي لتأمين حدّ أدنى من الوعي بالحقوق، أو العمل والاستقلالية، وستنشأ أسر قائمة على نموذج أحادي السلطة، وما يزيد الطين بلة في أوضاع المرأة، تشريعات الزواج التي عانت من الثبات ولم تتغير أو تتطور بما يساير التغييرات الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي نرى المرأة لا تزال تتعرّض للعنف وللحرمان من الحقوق مع الاستمرار في النمط الأبوي، عانت المرأة في مجتمعات لا تزال أبوية تغيب فيها الديمقراطية، والعدالة والحرية، بينما نجد أنَّ المجتمعات العربية المستقرة، والتي آمنت بضرورة تمكين المرأة تسعى إلى منح المرأة فرصاً كبيرة في مجالات التعلم، وتوزيعاً عادلاً في العمل السياسي وأدواراً ريادية في ميادين الأعمال المختلفة التي كانت حكراً على الرجال، ففي ظل هذه المجتمعات نستطيع أن نتحدث عن مكانة مختلفة للمرأة، وبالتالي نوعية مختلفة من الأسر، على الرغم من كون هذه المجتمعات المستقرة أيضاً لا تزال في أغلبها بحاجة إلى تطوير يتناسب مع دور المرأة واستقلاليتها، ونجاحها في الاعتماد على نفسها وفي مجالات المال والأعمال.
كما في كتابيك (المرأة والألوهة المؤنثة) و(هندسة الهيمنة على النساء) في بلاد وادي الرافدين ومصر القديمة، نلاحظ لجوء بعض الباحثين لاستفتاح مؤلفاتهم ببعض النماذج من النصوص الدينية، لماذا؟ ولماذا هذا الاستخدام للدين؟
- الاستفتاح بنصوص من الكتب المقدسة في كتبي لم يكن نابعاً من توظيفها في منح بعض المسحة الدينية للكتب، كما أشرت لدى شريحة من الباحثين، كنوع من أخذ البركة من تلك النصوص، لكنه كان مقصوداً للتوظيف في مضمون الطرح الذي قمت به في البحثين، حيث إنني تناولت دور المرأة، وتاريخ الألوهة المؤنثة وتاريخ الزواج، وذلك اعتماداً على الآثار وما خلفته من لوائح قوانين وألواح الأساطير والتراتيل والملاحم، هذه الأساطير لعبت الدور الأكبر في شرح ما حصل في التاريخ من انقلاب ذكوري، ومن تغيير في مكانة المرأة، والقوانين عكست التشريعات الأولى للزواج. لذلك كان القصد من وراء الافتتاح بآيات، هو لأنني أعتبر أن كل ما تحمله النصوص المقدسة في الديانات التوحيدية يشبه إلى حد بعيد تلك النصوص التي خلفها الإنسان القديم منذ أن بدأ برسوماته على الكهوف إلى أن اخترع الكتابة، وترك لنا أعظم الآثار على مستوى الإنسانية، وأنا دائماً أؤكد أننا يجب أن نعي هذا العصب المشترك بين كل الأديان المختلفة.
أيضا كتابيك وغيرهما تناقش وبشكل أساسي الميثولوجيا، سؤالي: عن مدى استفادة قارئ هذا العصر والقارئ القادم من هذه المناقشة؟
- أنا أحاول أن أؤكد على أمر مهم، وهو قدم بذور الإيمان الأولى وعمقها في التاريخ القديم، وكيف أنَّ الإنسان حاول عبر الزمن أن يفهم الكون ويهضم فكرة الموت، ويعلّل عدم العدالة ويبحث عن مكمن للأمن في روحه وقلبه. لذا ترك آثاراً تشي بأنَّه شعر بوجود عالم ما ورائي تتخذ فيه القرارات على صعيد الأرض، وإليه تذهب أرواح الموتى، وعنده تتحقق العدالة. لقد عبّر الإنسان القديم عن هذا الإيمان بنصوص تشرح خلق الكون والآلهة وخلق الإنسان. وبالتالي شكلت هذه النصوص نواة الأديان، وهي ما نسميها اليوم بالأساطير، فهي بُنيت على معتقدات إيمانية تصورت العالم الماورائي ومورست كطقوس وشعائر تعكس ذاك الإيمان، الدين عبارة عن معتقدات وأساطير تنبع من تلك المعتقدات وطقوس وشعائر تعززها وتحاول تقليد الأسطورة، إضافة إلى ما يتولد عنها لاحقاً من منظومة الأخلاق والتشريعات التي تنظم الحياة الدنيا، والتصورات التي نشأت حول الآخرة والتي تشكل بدورها المحكمة النهائية للحياة، حيث من المفترض أن تكون الراحة الأبدية بعد تحقيق العدالة. لابد للقارئ اليوم أن يدرك العمق التاريخي للتجربة الإيمانية للإنسانية عبر تاريخها الطويل، ويقرأ ويتدارس أساطير الأولين ويفهم صيرورتها.
يستشف قارئ كتابيك بين سطورهما ما يتردد كثيراً -ولست الوحيدة- حول نظرة الرجل للمرأة، متى تتوقف هذه الأسطوانة عن الدوران خصوصاً مع المتغيرات والتطورات الإنسانية المتلاحقة؟
- لقد حاولت من خلال البحثين أن أستخدم الأدوات المعرفية، وأن أكون محايدة، ولم أتسلح بمقولات وشعارات بشكل مسبق يخالف البحث الأكاديمي، ما فعلته هو العودة إلى التاريخ، والبحث في تاريخ المرأة، ورصد ما حصل في التاريخ، خصوصاً مع قلة الدراسات التي خرجت في هذا المنحى مقارنة مع مرويات التاريخ التي عززت التفوق الذكوري، وشيطنة المرأة، نحن نتحدث عن تاريخ ظل إلى مشارف القرن العشرين، وهو يردد قصة واحدة للخلق استعان بها من أسفار العهد القديم، وبنى عليها المؤرخون والمفكرون تصوراتهم حول مكانة المرأة وأدوارها، إلى أن أتى فك شيفرة الكتابة المسمارية في سبعينات القرن التاسع عشر، بعد أكثر من عقدين على اكتشاف مكتبة نينوى، لتخرج النصوص للوجود، ويتم إعادة قراءة وتأويل التاريخ بناء على معطيات الأركيولوجيا التي لا يزال لديها الكثير من كنوز مخبأة، وما تشير إليه من التطورات والتغيرات التي حصلت على صعيد الإنسانية قاطبة لم تكن لولا أنَّ هناك من تجرأ على رفض الأسطوانة الأولى التي دامت آلاف السنين والتي كانت تعزز التفوق الذكوري، وحولت هذا التفوق إلى قانون طبيعي وحتمية بيولوجية، عاشت في ظله المرأة مقتنعة ومؤمنة بدونيتها وتبعيتها. اليوم ستبقى أسطوانة حقوق المرأة دائرة وستصدع الرؤوس إلى أن ننتهي من تنميط أدوار المرأة وتحجيم وظيفتها في الحياة وحتى نقتنع بأنها إنسان كامل ومسؤول أمام القضاء كما هي أمام الله، كما الرجل وبنفس الدرجة.
كذلك يلحظ القارئ لكتابيك تركيزك على إبراز دور الدين في دونية المرأة، في حين نرى أنك استفتحت مؤلفاتك بنصوص دينية تعزز دور المرأة وأهميته في المجتمع. كيف نجمع بينهما؟
- دعني أؤكد على ما جاء في الكتابين حول دور الدين في قضية المرأة، فأنا لم أقل إن الدين هو السبب في دونية المرأة، بل إن المجتمع البطريركي الأبوي الذي نشأت فيه الأديان التوحيدية هو من ساهم في تأويلات وتوظيف النصوص بما يكرس تبعية المرأة. ولذلك علينا اليوم، أن نعيد فهم الدين وفهم تاريخانية التشريعات، باعتبارها جزءاً من منظومة التدين، والتي تحكمها قوانين التطور في الاجتماع، بينما الدين عندي بمفهومه هو ذلك الإيمان بالله وبمطلق القيم من الخير والعدالة والمساواة والتسامح والحرية، ويتمثل إيماننا فيه من خلال التزامنا بتحقيق القيم العليا، ومن خلال قوانين تتطور باستمرار وتراعي تغير مختلف الظروف.