مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

مضر الألوسي: الشعر مساحة للذكور أكثر من الإناث

حوار/ منى حسن: السودان


من أبرز شعراء جيل التسعينات في العراق، كان لنشأته في بيئة أسرية ملهمة تهتم بالقرآن واللغة والأدب وتحفز الإبداع بالغ الأثر في تطور موهبته وإثراء تجربته الشعرية، حيث حفظ القرآن في سن صغيرة، جنباً إلى جنب مع الحديث والتفسير ونفائس الأدب العربي. لم يكن حضوره عابراً في ذاكرة المشهد الأدبي، إذ تنوعت قطوف اشتغالاته بين الشعر والرواية وكتابة السيناريوهات والمسلسلات التلفزيونية والأفلام الوثائقية، كما أعد وقدم وأخرج عدة برامج تلفزيونية وإذاعية في عدة قنوات عراقية، وهو مدير الإعلام بدائرة العلاقات الثقافية العامة بالعراق حالياً. ومدير القسم الثقافي في قناة العراقية سابقاً، ومدير قناة الحضارة الفضائية سابقاً. ألف الكثير من أغاني الأطفال للقنوات العراقية. وهو عضو اتحاد الأدباء العراقيين، واتحاد الأدباء العرب، وعضو مؤسس في هيئة قراء القرآن في العراق. وأحد الموقعين على بيان قصيدة شعر، الذين حاولوا خلق حركة شعرية خاصة بهم تعمل على تحديث العمود الشعري في التسعينات. حكم في عدة مسابقات شعرية عراقية وعربية، وحاز في مسيرته على عدة جوائز أولى على مستوى الوطن العربي، كما نال الميدالية الفضية في حفظ وتلاوة القرآن ببیروت ۱۹۹۳. لا يخفى على مطلع على شعره التمكن اللغوي والفني، والاشتغال العالي على مستوى الصورة، والبعد الفلسفي التأملي الذي يستلهم القرآن والتراث والتاريخ وصولاً بشعره إلى صوت خاص به. له عدة مؤلفات في الشعر، والرواية، والإعلام، وعلم النفس، والاجتماع، أبرزها: ديوان شعر (لون آخر للرماد)، رواية (التجربة الثانية)، ديوان (صندوق بريد)، وأخرى. مثل العراق في عدة محافل دولية. وشكل حضوره علامة فارقة وعنواناً لافتاً في خريطة الأدب العربي والعراقي. التقته (المجلة العربية) في الحوار أدناه للحديث حول تجربته الإبداعية وعدة قضايا ذات صلة:

ماذا عن أهم الروافد التي أسهمت في التشكل المعرفي والثقافي المبكر لشخصيتك كشاعر وإعلامي؟
- إذا وقفنا عند العلمين الحصولي والحضوري استحضاراً للمدرك والصورة والخارج على سبيل المثال، فإن الروافد هنا تكون كثيرة يصعب حصرها تفصيلاً أو إيجازاً في هذه الإجابة، لكني أستطيع القول إن الرافد الأساس، والنبع والطبع والمراس، جاء من لؤلؤ ذلك الهسهاس، وهي جزيرة آلوس التي إليها أنتسب وبها ألقب، ولعلي أختصر هذا بما قلته فيها منذ أكثر من ثلاثين عاماً:
يا قريةً لم أدع شبراً بتربتها
    إلا ولي فيه من لألائها قبس
كأن كل النبيين الذين تلوا
    وحي الرسالات في آذانها همسوا
وكل ما كان فيها هو منهلي الأول، والدي الشيخ عبدالمجيد الألوسي الذي أخذت وورثت عنه علوم الدنيا والدين، وأشير إلى ما لا يمكن اختصاره بأبيات كتبتها له يوم فراق لم يطل وإن طالني جمره:
أبعض شوقي هذا أم تراه دمي
    يشدني نحو بعضي ساعة الألم
أم روحك المتبقي نورها بدمي
    يجول في قلبي المملوء بالظلم
فكل قطرة علم منك تغرقني
    بحورها كأنها في هيئة القزم
وكل شيبة تسبيح أقدسها
    مسحتها منك أو قبلتها بفمي
وكل ما في من حلم ومن غضب
    يقول لا شك أن منك انفجار دمي
و ليس يمنعني ما حزت من كبر
    أن لا أقبل حباً باطن القدم
التراث، اللغة، الدين، الذات، والآخر، خماسية صراع أزلي في الذهنية الشعرية، فلأيهم ينحاز مضر الشاعر، وكيف يتجلى حضورهم في نصوصك؟
- لا يكاد يخلو نص أدبي مما يسمى الصراع الداخلي أو الخارجي، سواء كان الكاتب يعي ذلك أم لا، ولا أجد بين التراث والدين واللغة والذات صراعاً أو خلافاً، بل إن كل ذلك مجتمعاً يشكل وحدة عضوية ترسم ملامح النص، وتجهز مصارعاً قوياً يخوض معارك الأضداد والأشباه، وحتى الآخر وإن كنت لا أميل إلى هذا الخطاب ولا أنسجم مع مفهوم الـ (أنا والآخر)، أعني ما جاءت به مؤسسة الاستشراق، فأنا هو الآخر والآخر هو أنا، فالإنسان جنس واحد وإن اختلف نوعه وفصله وخاصته وعرضه، فكل صراع مع الآخر هو صراع مع الذات البشرية والعقل المجرد. إن هذه الخماسية هي التي ينبثق منها النص الشعري وربما غياب أحدها يولد عوقاً أو ضموراً في ظاهر وباطن.
عينت في إمامة المساجد في سن صغيرة، ماذا أضافت لك التجربة، وهل نافسها الشعر على قلبك؟
- لم تسبق الإمامة والخطابة في المساجد الشعر ولم تؤثر عليه، سوى ما لمنبر المسجد من هيبة وجلال وخشوع تطغى على منبر الشعر، فتكبر قلوبنا وتصغر أحجامنا في المساجد، وتصغر قلوبنا وتتعاظم أحجامنا في الشعر.
تصرح دوماً أنك سعيت للتخلص من سطوة لغة القرآن في شعرك، فهل تراها خصماً عليه؟
- لقد أكلت لغة القرآن والسنة لساني وصوتي، وأورثتني ما يورث الآباء للأبناء، ولا أسعى للتخلص منها إلا حين أراني أغرق في التقليد عن غير قصد ولا انتباه، بغية أن لا أتقول على الله ورسوله، وأن لا أضع مقدساً في مدلس، وكل ذلك أني حفظت القرآن وكثيراً من السنة بسن مبكرة وانشغل بها قلبي فلم يعد لغيرها موضع إلا هامشاً يراودني لحظة غفلة. ولا أجد في غيرهما لذة إلا ما انفلت من ألسنة الناس فشاكلهما أو جال في ميادينهما.
كيف تقرأ أثر العولمة على القصيدة العربية في عصر الثقافة الافتراضية والثورة المعلوماتية؟
- لقد أضافت (الثورة المعلوماتية) صخباً كبيراً وضبابية أكبر ومنحت المتطفلين والسراق والمستنسخين فرصة للحضور والظهور، وخلقت فوضى في المعايير والضوابط، وأفقدت الكتاب والقرطاس والقلم لذة شعور مستخدمها، ورغم أنها كانت جسراً واصلاً بين المريد والمراد، والقريب والبعيد، والقديم والجديد، لكنها لم تصنع إلا ثقافة مشوهة ورموزاً وهمية ووجوهاً افتراضية في جو من القلق والتوتر والغياب.
يذهب بعض النقاد إلى قول (إن الشعر العراقي المعاصر إنما هو قصيدة واحدة بعناوين كثيرة)، فما السبب من وجهة نظرك؟
- صدقوا في بعض ما قالوا، فأكثر النصوص الشعرية عبارة عن مستنسخات بألوان مختلفة أو بغير ألوان، فكل الملامح متشابهة أو متشبهة ببعضها، مرايا تعكس صورة واحدة، وكأننا في المسابقة التي أقيمت لأفضل من يمثل شخصية (شارلي شابلن).
لك تجربة جادة في الرواية، فهل وجدت فيها متسعاً أكبر للتعبير عن أفكار لم تسعها جبة الشعر؟
- الرواية جنس أدبي لا يختلف كثيراً عن الشعر من حيث مساحة التعبير عما نريد أن نقول، لكنها تخاطب متلقين لا يهتمون كثيراً بالشعر، كما أن الرواية يمكن ترجمتها بشكل أسهل وأفضل من الشعر، ويمكن تمثيلها أيضاً لتدخل مساحة من المتلقين أوسع من الذين يهتمون بالأدب بشكل عام، كما أرى أن الرواية فكرة لا تحتاج إلى أن نقيدها بالمكان والزمان لتموت هناك، إنها محلقة في فكر الإنسان الذي لا يتغير بعواطفه ومشاعره مهما تغير الزمن، لذلك لم أكتب في كل رواياتي اسماً أو مكاناً، ولم أجعل أحداثها محصورة في زمن واحد، فهي صالحة لزمن مضى وزمن آت.
تنتمي لشعراء جيل التسعينات في العراق، الذين اجتهدوا في تجديد القصيدة العمودية، كيف تنظر للمشهد الشعري العراقي حينها، وما سر تميز هذا الجيل شعرياً؟
- ربما تكون شهادة المرء في نفسه مجروحة، لكني لست منحازاً حين أقول إن العراق ترك على مر الأزمان والأجيال قائمة طويلة جليلة من الأسماء التي كانت أعمدة لخيمة الشعر العربي، فالمتنبي، والمعري، وأبو تمام، وأبو نواس، والجواهري، والسياب، ونازك الملائكة، وعبدالرزاق عبدالواحد، مثال ظاهر على ما أقول، ولعل جيل التسعينات كان وارثاً أصيلاً لكل أولئك الآباء بمدارسهم الشعرية المختلفة. إن من الطبيعي أن يظهر بين الحين والحين، من يجد الحاجة في التجديد، وإضاءة مساحات أخرى تناسب طبيعة الإنسان في البحث عن متغير يراه مناسباً لعصره وذائقته، ولا أرانا جددنا في الشعر العمودي سوى ما نزعم أننا حسنا النسل الشعري الجديد من حيث الرمز والصورة وتداخل النص الشعري بأجناس الثقافة الأخرى كالسينما والفن التشكيلي.
برأيك، ما هو سبب انحسار الحضور النسائي في المشهد الشعري العراقي؟
- أرى أن الشعر مساحة للذكور أكثر من الإناث، ليس في العراق وحده ولا في زمننا هذا فقط، فلو رجعنا إلى العصور الأولى من الشعر لوجدنا ذلك واضحاً، وهناك ميادين كثيرة تصلح للذكور ولا تصلح للإناث، كما أن هناك ميادين تصلح للإناث ولا تصلح للذكور، أو يكون حضور أحدهما أكثر من الآخر.
لا أعني بذلك أن لا حظ للمرأة العربية في الشعر، أو لا حظ للشعر فيها، بل إن شواعر كثيرات تركن في أروقة الوقت وحبر الأسفار، ما جاوز الشعراء بشهادتهم، كما أوردت الأخبار. فهذا جرير يقر حين سئل من أشعر العرب، قال أنا لولا الخنساء، وأشار إلى بيتها:
إن الجديدين في طول اختلافهما
لا يفسدان ولكن يفسد الناس
و إذا راجعنا تاريخنا القريب فإننا نجد حضور المرأة شعراً وتجديداً واضحاً، فهذه نازك الملائكة رائدة مدرسة الشعر الحر (التفعيلة) بل ليس هذا وحسب، فإني أجد اليوم في بعض شواعر العرب ممن هن في أجيالنا هذه من فاقت بشعرها صورة وبناء وحداثة كثيراً من الشعراء، لكننا نعاني ضبابية المعايير والإعلام فيختلط الغث بالسمين، ولعل واقع المرأة يشارك في انحسار وجودها في هذا الميدان. وفي زماننا هذا أرى أن النساء أكثر حظاً من قبل، فهن مقبولات لدى الأوساط الأدبية ويحظين بفرص وعناية أكثر في المسابقات والتعليقات والمشاركات.
كيف تلخص إشكالية المناهج في قراءة النص الشعري الصوفي، وما هو النموذج المعرفي الذي تنتهجه وتنصح به في قراءة النص الصوفي؟
- هناك فرق كبير بين من يستخدم ألفاظاً صوفية في النص، وبين من يرسخ مفاهيم صوفية في نصه الشعري، وربما اختلط عند الشعراء والنقاد والدارسين الذين ليس لهم دراية في علم التصوف وما طرحه الصوفية من مفاهيم بعضها مخالف للدين والعقل، اختلط عليهم الأمر وتاهوا، من الألفاظ والعبارات التي لا يؤدي بعضها لشيء سوى ركام من كلام.
كيف يكون الشاعر وارثاً ذكياً لمن قبله؟
- لو افترضنا أن شاعراً عاش مع الأجيال الشعرية كلها منذ امرئ القيس وحتى الآن وجالسهم وطالسهم مستمعاً وحافظاً ومدوناً، ألا يكون حكيم الشعر والشعراء ووارثهم؟ وإن كان افتراضنا هذا ليس ممكناً بواقعه المادي إلا أنه ممكن من خلال قراءتهم قراءة متدبرة واعية، فليجتهد مجتهد بذلك.

ذو صلة