آني إرنو.. صوت حرية المرأة
حوار/ لورين إلكين
ترجمة: ليلى المطوع: البحرين
تصف فوزها بنوبل بأنه كما لو كانت في صحراء قاحلة وأتاها هاتف من السماء. الكاتبة التي كتبت في مذكراتها عام 1963 (سأنتقم لجنسي) مستوحاة من الشاعر الفرنسي رامبو: (لقد كنت جنساً أدنى منذ الأزل). في لحظة الإعلان عن فوزها قال السكرتير الدائم: إن الجائزة منحت لآني إرنو لشجاعتها التي كشفت من خلالها القيود الجماعية للذاكرة الشخصية. وتكتب إرنو عن التجارب الاجتماعية بما فيها من عار وإذلال وغيرة، وعدم القدرة على رؤية من أنت. في حين قالت الكاتبة الفرنسية البالغة من العمر82 عاماً:إن فوزها بالجائزة شرف عظيم. ووصفت الكتابة بأنها عمل سياسي يفتح أعيننا على عدم المساواة الاجتماعية. لهذا تستخدم اللغة كما تصفها كسكين لتمزق حاجز الخيال. وترى الكاتبة أن فوزها بالجائزة يعد مسؤولية كبيرة، أي أنها تدلي بشهادتها الخاصة بدقة وعدالة فيما يتعلق بالعالم. كما أجمع النقاد أن أعمالها تتخذ شكلاً جديداً للسيرة. فهو ذاتي وغير ذاتي في الوقت نفسه، خاص وعام. كما هنأها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على هذا الفوز وأطلق على صوتها (صوت حرية المرأة).
ولدت آني إرنو في بيئة ريفية، كان والداها يديران مقهى، فتاة تنتمي لعائلة فقيرة من الطبقة العاملة، وعندما قابلت وللمرة الأولى فتيات من طبقات اجتماعية مختلفة، فوجئت بالحاجز الطبقي، وبشعورها بالعار لانتمائها لبيئة الطبقة العاملة. وهذا الأمر ساهم في تغذية أعمالها السردية فيما بعد. إضافة إلى اهتمامها بالجسد والجنس، العلاقات الحميمية، عدم المساواة الاجتماعية، وتجربة انتقال الفرد لطبقات اجتماعية مختلفة من خلال التعليم كما حدث معها وانتقلت للطبقة البرجوازية ورافقها إحساس الشعور بالذنب والخيانة لطبقتها العاملة. ولكن كان السؤال هو عن كيفية كتابة هذه التجارب الحياتية من دون الوقوع في فخ السيرة. أي أن هذه المشاعر والذاكرة المتعلقة بها تجمعنا نحن البشر، أي أن للألم والخوف والرغبة وللخسارة والفرح والانتصار ذاكرة نعرفها، هنا تستمد إرنو صوراً من حياتها لتحولها لذاكرة جماعية، ما تكتبه يتجاوز الحدود الشخصية ليصل لكل فرد عرف هذه النوع من المشاعر، وما يجمعنا نحن البشر هي هذه الذاكرة المتعلقة بالمشاعر والرغبات. مع اختلاف التجربة، فهي ترى الهوية مسرحاً تقع فيه الأحداث، لكن المشاعر هي الأهم، فهي معرفة وملك للجميع، فهذا ألم نعرفه، وهذه سعادة اختبرناها.
هنا توثق الكاتبة بذكاء وشجاعة تغير الأبعاد؛ البعد الثقافي، الاجتماعي، اللغوي، الاقتصادي، تحاول الكاتبة سرد ما يحدث من خلال اعتمادها على مكان مشترك، فجميع أعمالها تتناول مكاناً واحداً والمكان لديها له مفهوم مختلف وشامل، مكان جغرافي (فرنسا) أو جنساً واحداً (المرأة) أو تناول طبقة اجتماعية معينة، حزناً على فقد فرد من العائلة (موت والدتها)، الإصابة بالسرطان لتوثق كل هذه في أعمال سردية تتناول مشاعر نعرفها. تبحث إرنو عن الأشياء التي تجمعنا كبشر لتتخذها مكاناً تنطلق منه الأحداث.
إن إرنو تغير مفهوم السيرة الذاتية لتكتب سيرة الجماعة ويتحول الأنا إلى نحن. تميزت أعمالها بقدرتها على إلغاء الخط الفاصل ما بين المذكرات والخيال، تكتب عن الأحداث العادية التي مرت بها، عن المواقف عن المشاعر، تتعامل معها كمواد تحاول اكتشافها من أجل فهم شيء ما، وإظهاره. وفوزها كان انتصاراً للقلم النسوي، بعد سنوات من الرؤية الدونية لأوجاع النساء ومشاعرهن الخاصة فيتعامل مع هذه الأعمال على أنها أقل مستوى من كتابات الذكور، ومحاولة التقليل منها رغم أنها تمثل رؤية نصف المجتمع.
وفي المؤتمر الصحفي للإعلان، سُئل أندرس أولسون، رئيس لجنة نوبل للأدب، عما إذا كان هناك موقف سياسي وراء منح الجائزة لشخص كتب بنفسه عن الإجهاض. خصوصاً بعد القيود التي فرضتها الولايات الأمريكية فيما يتعلق بالإجهاض الآمن، ورفض أولسون قائلاً: «إن اللجنة تركز على الأدب والجودة الأدبية. ومن المهم جداً بالنسبة لنا أيضاً، أن يكون للفائزة تأثير عالمي في عملها. ويمكن أن تصل هذه المشاعر إلى الجميع».
ولدت آني إرنو عام 1940 وهي كاتبة فرنسية من أشهر أعمالها (المكان) الذي حصل على جائزة رينودو الأدبية عام 1984. ووصلت (السنوات) إلى القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر الدولية عام 2019. تمارس الكتابة منذ خمسين عاماً وصدر لها ما يعادل 20 كتاباً. ومنحت جائزة نوبل للأدب عام 2022 لآني إرنو التي لديها حس مرهف تكتب فيه عن الطبقة العاملة والفروقات الاجتماعية، تكتب عن الجنس والمرأة والإحساس بالعار والغيرة والرغبة. تكتب بشجاعة وبلغة بسيطة تكشف عمق الإنسان ومشاعره.
في هذا الحوار تتحدث الكاتبة عن أسلوبها في الكتابة، وتجربتها الخاصة في اكتشاف نمط مختلف.
حسناً إذاً أنتِ لا تعتبرين نفسك روائية؟
- كلا، هذا المصطلح لا يناسبني على الإطلاق، كما أننا نميل إلى تسمية الكاتبات بالروائيات، بينما يصبح الكتاب الذكور مجرد كتاب. ودائماً ما يطلب من الرجال الكتابة عن الأدب أكثر من النساء في الصفحات المخصصة للحديث عن الكتب في صحيفة لوموند، كما أن مفهوم الصوت اللا واعي الجماعي أو السارد العليم يعني بالمطلق صوت (الرجل) أو ربما هكذا هو الحال في فرنسا.
هل تصفين ما تمارسينه من الأدب كنوع من كتابة السيرة الذاتية أم الكتابة التقريرية؟
- لا هذا ولا ذاك. أنا مهتمة جداً بفكرة البحث عن أسلوب أدبي خاص. لكن هذا الأمر بالطبع يعرضك لخطر النقد، أو المخاطرة بأن يقال إن ما تكتبه ليس أدباً، خصوصاً إن لم يكن هناك تقسيم خاص له ومتعارف عليه، لكن هناك الكثير من النصوص -غير المصنفة- ويصر كتابها على تسمية نصوصهم روايات، رغم أنها ليست كذلك، لكن ربما لأن الرواية مطلوبة وتحقق مبيعات عالية، لكنني فضلت ألا أفعل ذلك.
في نص أدبي لك بعنوان (Journal Du Dehors) قلت إنها محاولة لكتابة نوع من السرد هو (الأنا اللا شخصي)، فماذا يعني ذلك؟
- ما أعنيه أن الكتابة من هذا النوع تتعارض مع مفهوم السيرة الذاتية التي تتمركز حول الأنا، أي أن الأنا في هذا العمل ليست هوية تتوافق معي ومع تاريخي، وليست تحليلاً نفسياً، إنها شخصية تتميز بالتجارب المجتمعية المشتركة التي يعرفها الجميع، وكلنا مررنا بها مثل موت الأب أو الأم، أوضاع النساء، الإجهاض غير القانوني، وما يحدد وجودها -هذه الأنا- هي السنوات، حيث تختفي تماماً بعد مرورها، لذلك الأنا ليست هوية، لكنها مكان يتسم بالتجارب البشرية والأحداث. وهذا ما أحاول إلقاء الضوء عليه. وأقول (الأنا اللا شخصي) لأن ما يهمني ليس الفرد أو الحكاية، لكن ما يهمني ما هو مشترك وبهذا الأسلوب أعتقد أني أسلط الضوء على شيء لا يمكن اختزاله في التاريخ الشخصي. وهنا أريد أن أضع مسافة كبيرة بين ما عشته أنا وهذا الأمر يتطلب مهارة الابتعاد عن ذاتك، كما يتطلب الوقت والجهد لبناء هذا الأسلوب.
هل الكتابة عن هذا النوع من الأدب تأتي من خلال الكتابة (السطحية) التي يتحدث عنها الناس عندما يتعلق الأمر بأعمالك؟
- نعم كتابة سطحية لأني كتبته بهذه الطريقة، وأتت إلي بهذا الشكل، إنها أكثر واقعية وبعداً وموضوعية.
هناك الكثير من المساحات الفارغة في كتبك، هل هذه ترجمة بصرية تستخدمينها لشرح هذه العلاقة المكانية ما بين فعل الكتابة والكتابة نفسها؟
- نعم ولكن ليس في جميع أعمالي المنشورة، ففي كتاب (السنوات) لم تكن هناك الكثير من الفراغات.
ولكن هناك شيئاً مثيراً يتعلق بالطريقة التي وضعت بها النص على الصفحة.
- نعم، التباعد. بالنسبة لي من المهم بشكل أساسي تضمين هذه المساحة، أي هذا موقع غير مقروء، يرمز للاختلاف، التمزق، أشكال التمزق، هذا ما أحاول إيصاله من خلال هذه الطريقة في وضع النص، لكن هذه المساحة ليست لي، إنها للقارئ.
من أكثر الأشياء إثارة للدهشة بالنسبة لي حول كتابك (السنوات) هو أنه الكتاب الوحيد في حياتك المهنية الذي تستخدمين فيه أسلوب الضمير الثالث (هي)، كيف تصورت هذا الصوت؟ وما الذي حدث لـ(الأنا) التي تشكل أسلوباً مهماً في كتبك الأخرى؟
- لقد تطورتُ لحد الاختفاء في عملي (السنوات) وكذلك في كتابي (قصة فتاة) استخدمت فيه صوتين مختلفين ومتميزين للغاية وهما الأنا للمرأة التي تكتب وضمير الغائب للشخص الذي أصفه.
في LE VRAI LIEU تتحدثين عن الطرق التي يتحدث بها المجتمع من خلال الكتاب الذي ينتجهم، وتقدمين للقارئ طريقة للتعامل مع النص وهي:
«سيكون سرداً سلساً هادئاً متواصلاً، يلتهم الحاضر كما هو، وصولاً إلى الصورة النهائية للحياة. سرداً متدفقاً ولكنه معلق على فترات منتظمة بالصور التي تلتقط حركات الجسد، والمواقف الاجتماعية، إطارات مجمدة على الذكريات، وفي نفس الوقت تقارير عن تطور وجودها والأشياء التي جعلتها فريدة، ليس بسبب طبيعة عناصر حياتها، الخارجية منها المتمثلة بالمسار الاجتماعي، أو المهنة. والداخلية المتمثلة بالأفكار والتطلعات والرغبة في الكتابة. ولكن بسبب هذا المزيج. كل منها فريد في حد ذاته، إلى هذه الصور التي لا تنقطع، وستتوافق في صورة معكوسة مع (هي) التي تكتب.
هنا لا توجد الأنا في ما يعتبر سرداً لسيرة ذاتية غير الشخصية، لا يوجد سوى واحد، ونحن. كما لو أنها تروي قصة حدثت في وقت سابق. كما أني أردت التحدث قليلاً عن مسألة السيرة الذاتية غير الشخصية، أو السيرة الجماعية. غالباً ما يتم اتهام النساء اللاتي يكتبن عن حياتهن بالنرجسية. ويبدو لي أن هذه الطريقة أي السيرة الذاتية الجماعية أكثر صدقاً في معالجة العلاقة بين الأنا ونحن والعالم الذي أنتجنا والذي يتحدث من خلالنا ويشكلنا ويعيد تشكيلنا باستمرار».
- نعم، في البداية لم يكن لدي أي نية لكتابة سيرة ذاتية جماعية، ما أردته هو كتابة قصة عن امرأة عاشت في فترة، لكني أردتها ألا تكون هناك، في تلك الفترة، ولم أعرف كيف أفعل ذلك، لو كنت أخرجتها بالكامل منها لكان كتاباً يسرد تاريخاً، وكان من المهم أن يكون هناك وعي داخل الكتاب. لذلك وكمحاولة بدأت في جمع الصور والذكريات التي كانت شخصية وغير شخصية في نفس الوقت. وكذلك الكتب والأفلام والذكريات والكلمات من دون أن أنسبها إلى شخص بحد ذاته. وهكذا بدأ مع الوقت الذي وصلت فيه إلى العالم، إنه ليس لدي أي ذكريات حقيقية عن العالم نفسه. وهكذا صار الكتاب عن عالم ما قبل هذا العالم. كيف أصبحنا مدركين له، واعين بوجوده، لم أكن أكتب عن نفسي، ولكن من خلال السرد، وطرقنا الخاصة في المعرفة، والطريقة التي نواجه بها العالم. إنه ليس أمراً يتعلق بنفسية الفرد، لكنها جاءت بشكل مباشر حول الظروف والروابط العائلية. لقد أدركت على الفور، أن الأمر لم يكن يتعلق بتجربة شخصية، ولكنها عن تاريخ فرنسا هذا، وهذا التاريخ يدور حول الشعب، طبقة العمال والأيام الماضية، ثم اضطررت للبحث عن أسلوب خاص للاستمرار، لذلك أخذت أنظر إلى الصور القديمة، مثل صورة طفلي، ولكن لم يحدث شيء. لا فكرة، ولا أعرف كيف كانت لدي فكرة استخدام الصور لاحقاً، لكن وجدت هذه الصورة لفتاة صغيرة على شاطئ البحر، وهي أنا، ووصفت هذه الصورة ثم أدركت أن علي اختيار الصوت هل سأكتب الأنا (الضمير المتكلم) أم هي (الضمير الغائب)؟
هل كانت الصور هي من دفعك لاتخاذ القرار؟
- لا أملك مسوداتي، هي موجودة الآن في المكتبة الوطنية، ولكني أعلم أنني كنت أستخدم الأنا في جزء كبير منها كما لو كنت أنا الراوي (الضمير المتكلم) وأصف الصور على أنها رواية، ثم تركت الكتاب جانباً لبعض الوقت وعندما عدت له، بدأت أستخدم أسلوب الضمير الثالث (هي)، ومن ثم توقفت تماماً عن استخدام الأنا، وحين أعود لذكرياتي في الخمسينات، أرى أني تمكنت من وصف العالم الذي نشأت فيه، البرامج الإذاعية والإعلانات وجميع أنواع الذكريات، كتبت عن الأنقاض بعد الحرب، والفرح الهائل بعد التحرير، أردت أن تكون ذكرياتي الفردية ذكريات جماعية. أردت بكل بساطة الاستفادة من ذاكرتي لالتقاط هذه الحقبة. عملي ليس أرشيفاً لمؤرخ ليكتب بصيغة المتكلم. كنت أستخدم ذاكرتي الخاصة في الكتاب. لكن الذاكرة الجماعية في النهاية هي كيف عشت وكيف عاش الجميع وكيف كانت طريقة الحياة هذه بداخلي.
لكنها كانت طريقة ناجحة؟
- في البداية كنت قلقة، وكنت أخشى أن أكون كتبتها بطريقة تقريرية أو أن يقوم محرري برفضها. أو ألا تكون مقروءة أو مفهومة، ولكنني قلت حسناً لن أهتم، سأكتبها كما أريد، ثم قرأت ما كتبه النقاد «لقد فعلت آرنو شيئاً مختلفاً هذه المرة» يبدو أن هذا النوع من إلغاء الذات الفردية أنتج شيئاً جديراً بالاهتمام.
مصادر