سامي العلبي: برمجيات الذكاء الاصطناعي تقتل الفن
حوار/ أسمهان الفالح: تونس
طافحٌ هو بعشق الحياة، مسكونٌ أبداً بنحت الكيان، يجترحُ من الإرادة طريقاً، ومن التّحدي نافذة للأفق.
غادر بلدته الوادعةَ مخلّفاً وراءه أشخاصاً صنعوا جُغرافيّته الحميمة، وفضاءه الحيّ في رحلة تنقيب عن الذّات شائكة.
فتح لنا دفاتره برحابة صدر، متحدّثاً عن تجربته التي فيها من الفرادة غير قليل. الحوار معه ماتع، يتسّم بعفويّة وطلاقة تخفيان في صميمهما الكثير من البداهة والثّقافة العالية والخبرة والمراس الصّعب.
سامي عبدالرزّاق العلبي سوريّ الموطن، وُلدَ وترعرع في القاهرة، ويقيم حاليّاً في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، ويعمل مهندساً في مجال إدارة المشاريع الإنشائيّة.
هذا الرّجل لا يمكن حصره داخل تخوم الاقتصاد فقط، فهو فنّان أيضاً ومفكّر يسائل ويشكّ، يثور ويتمرّد ولا يهادن. تخصّص العلبي في مجال التّصوير الفلكيّ، فحصد عدّة جوائز عالميّة جعلت أعماله علامة مرجعيّة يُهتدى بها في هذه الفئة من الفنون، حيث تمّ استخدامها خلفيّات لأنظمة تشغيل كُبريات شركات العالم مثل (آبل) و(مايكروسوفت)، وتسابقت إلى نشرها أرقى مجلات التّصوير العالميّة ومنها: (براكتيكال فوتوغرافي) و(بيتابيكسل) و(إن فوتو). فإلى نصّ الحوار:
سامي العلبي والتّصوير الضّوئي قصّة عشق لا تنتهي... فهل لك أن تحدّثنا عن تجربة البدايات وكيف مثّلتْ منعرجاً حاسماً في مسيرتكَ الفنيّة؟
- التّصوير قصّة حبّ يناهز عمرها عقدين من الزّمن تقريباً، وشغفي بهذا المجال جعلني أنتقل بتجربتي من طور الموهبة والهواية إلى سبيل الدّربة والاحتراف، فقد تأثّرتُ في بداياتي بأخي الكبير الذّي علّمني أساسيّات فنّ التّصوير وشكّل بالنّسبة لي حافزاً على المضيّ في هذا الدّرب الشّائك الشيّق في ذات الآن.
استخدمت وأنا ما أزال مغموراً كاميرات عاديّة (point ، shoot) وكانت عدستي تلتقط كلّ ما يأسر لبّي ويأخذ بمجامع قلبي. لكنّ انطلاقتي الحقيقيّة تبلورت حينما طوّرتُ معدّاتي بشكل تدريجيّ. فاقتنيتُ (canon G9) سنة 2008، ثمّ استخدمتُ (Nikon D90) في العام 2010، تليها (Nikon D800) في أواخر سنة 2012.
إنّ طريق الفنّان ليست ممهّدة يطأها دون تهيّب من المحاذير، بل هي المرجل يغلي أبداً تصيبه لعنة حممه كلّما علقتْ همّتهُ بتقصّي شعاب الإبداع والخوض في مجاهله. فما هي المعوّقات التّي واجهتكَ في مختلف محطّاتك الفنيّة؟ وكيف استطعت تخطّيها؟
- كثيرة هي العراقيل التّي تقف حائلاً دون صقل موهبة الفنّان وبلوغه مرحلة النّضج الفنّي التّي يصبو إليها، وهي تتراوح بين عوامل ذاتيّة، انطباعيّة، فسياسيّة. فإذا لم يجد الفنّان مساحة يستثمر فيها وقتاً لفنّه فستُقبرُ موهبتُه دون أدنى شكّ. وأنا عن نفسي أحاول قدر المستطاع أن أحافظ على تلك المساحة رغم ما يفرضه عليّ عملي في مجال الهندسة وإدارة المشروعات الإنشائيّة من ضغوطات كثيرة، كي أتحاور فيها مع نفسي وعدستي فأخلق منها فنّاً مائزاً.
وينبغي على الفنّان أن يفكّر خارج الصّندوق ويعمل على ابتكار أفكار جديدة تجعله يجدّد فنّه وطاقته. فأنا بفضل الله كنت كلّ سنة تقريباً أبحث عن مشروع مختلف. ففي التّصوير الفلكيّ وهو مجال تخصّصي أدخلتُ عناصر صامتة من منازل ومصغّرات ومنمنمات بزوايا معيّنة تعطي إيحاء أنّ حجمها كبير. وقد لقي المشروع نجاحاً باهراً. واشتغلتُ كذلك على فكرة (انعكاسات) فكنتُ أصوّر الفلك مع انعكاسات مرايا وزجاج؛ فتوحي بتكوينات لا حصر لها.
برهنتَ من خلال تجربتكَ على أنّ التّكوين الأكاديميّ لا يصنع فنّاناً محترفاً بالضّرورة، بل إنّ الموهبة والشّغف والدّربة قد يحقّقون ما تعجز عنه مدارج الجامعات. فما الذّي كنتَ ستضيفه لو أنّك تخصّصتَ في دراسة التّصوير الفوتوغرافي؟
- لو كنتُ تخصّصتُ في مجال التّصوير الفوتوغرافيّ لأضفتُ في مجال معيّن أو سرّعتُ في إعدادات وفيزيائيّات وأكاديميّات التّصوير، وليس شرطاً أن يكون ثمّة إضافة للموهبة والحسّ، بل بالعكس من ذلك تماماً فالانغماس في الأكاديميّات يضفي على الفنّ غشاوة. فأنا شخص أحبّ البساطة وهذا سرّ نجاحي. وأنا سعيد جدّاً لأنّني لم أتخصّص في مجال التّصوير الفوتوغرافي حتّى يكون التّصوير بالنّسبة لي شغفاً. فعندما يرتبط الشّغف بالدّراسة والعمل تتحوّل الموهبة إلى آليّة أو شيء أوتوماتيكيّ يفتقر إلى الحسّ والرّوح.
ما هي طبيعة التّصوير الفلكيّ؟ وكيف يفرض على الفنّان جملة من الضّوابط لا مناص من التقيّد بها أثناء ممارسة عمله؟
- بدأ معي التّصوير الفلكيّ منذ الطّفولة، حينما كنت أستلقي في حدائق القاهرة في السّبعينات، فكنت أتطلّع إلى النّجوم وأحلم بالطّيران حتّى أراها عن كثب، وقد حقّق لي التّصوير الفلكي هذا الموضوع دون الاحتياج إلى السّفر، فبمجرّد أن أفتح العدسة لمدّة لا تتجاوز 20 ثانية أجد نفسي محلّقاً في أعماق الفضاء، فأعاين تفاصيل لا تدركها العين المجرّدة لأنّ الأجرام الفلكيّة قليلة الانبعاث الضّوئي خصوصاً من الأرض. فالتعرّض الطّويل للكاميرا يكشف المستور ويسافر بك عبر الزّمان والمكان ويلتقط هذه الأمور. فالتّصوير الفلكيّ سحر وجمال وهو تفكّر في خلق الله. هو مغامرة مثيرة ورحلة استكشافيّة. هو مزيج من الخوف والإثارة والغموض. هو التّقاطع مع الطّبيعة بجبالها وكثبانها وصحاريها. ويشترط التّصوير الفلكي:
- اختيار الموقع المناسب بعيداً عن المدينة والأضواء الصناعيّة.
- التّركيز على حالة الجوّ فينبغي أن يكون نقيّاً خالياً من السّحاب والرّطوبة والأتربة.
- الابتعاد عن المراحل القمريّة، فنهاية الشّهر العربيّ هي من أكثر الأوقات المناسبة للتّصوير الفلكيّ.
متى تكون برامج المعالجة في التّصوير سلاحاً ذا حدّين؟
- تُستخدم برامج المعالجة لغرضين أساسيّين، أوّلهما: محاولة إظهار تفاصيل وألوان بشكل متواضع وبسيط وتعزيز بعض الجماليّات دون مبالغة. وهذا جانب أساسيّ جدّاً.
أمّا الاستخدام الثّاني لمثل هذه البرامج فيتمثّل أساساً في تزييف وإضافة شيء غير موجود في الحقيقة، وقوامه خلط عناصر الأماكن في أوقات مختلفة في مكان واحد وإيهام الآخر بأنّها أُخِذتْ من نفس المكان، وتعديل المشهد بطريقة لا تتناسب مع ما رأته العين. وفي بعض مجالات التّصوير يكون المحور الرّئيسي للمعالجة تكوين أشياء مختلفة ووضعها في صورة واحدة وهذا ما يُصطلح عليه بالتّصوير الضّوئي. وفي السّنوات الأخيرة ظهر ما يُعرف بالذّكاء الاصطناعيّ في المعالجة، وهو يضيف إلى الصّورة عناصر عجيبة كالسّماء والسّحب والنّجوم والجبال... في حين أنّها غير موجودة خارج إطار هذه البرمجيّات. فصار الفنّان يفقد الهدف الرّئيسي في مجاله، فالتّصوير عكسُ مشهد يراه بعينه وينقله إلى المشاهد من زاوية جميلة، لكن أن نخلق شيئاً غير موجود فهذا أمر قاتل.
يأتي معرض جمعيّة الإمارات للتّصوير الضّوئي الذّي شاركت فيه بمعيّة مصوّرين عرب ترجمة لشعار ملتقى الشّارقة للخطّ (ارتقاء). فكيف تعكس الأعمال الفوتوغرافيّة إبداعات الخطّ العربيّ؟ وماهي الرّسالة الفنيّة التّي يحملها صندوق فيزيائيّ (أسود) هو الكاميرا؟
- يحمل الخطّ العربيّ قدرة إبداعيّة فائقة لا تضاهيها سائر لغات العالم، فهو تراثٌ يفوح منه عبق التّاريخ، وفنٌّ يجمع إلى الأصالةِ المعاصرةَ، وهندسةٌ تتعدّد أشكالُها وتلفتُنا انحناءاتُها. أمّا التّصوير فلغةٌ عالميّةٌ لا تحتاج إلى مترجم. وهو تسجيل لفكرة، لنظرة، لإيحاء، لشعور. وتقاطع التّصوير مع الخطّ تقاطع مبهر. وهذا أكثر ما راقني في الثّيمة التّي اختارتها جمعيّة الإمارات والتّصوير الضّوئي في ملتقى الشّارقة للخطّ.
هذا الصّندوق (الأسود) الفيزيائيّ استطاع أن يحبس الضّوء فيه ويعكس رسالة فنّان مصوّر رأى الخطّ المتقاطع مع جوانب الحياة مُخرِجاً التّكوينات الجميلة التّي رأيناها في المعرض.
هل يمكن أن نتحدّث عن نديّة بين الجنسين في مجال التّصوير الضّوئي؟ أم أنّ حضور المرأة في هذا الإطار لا يزال محتشماً بالمقارنة مع الرّجل؟
- ألاحظ حضوراً بارزاً للمصوّرة العربيّة في السّاحة الفنيّة وخصوصاً في آخر عشر سنوات. فهي موجودة في المحاضرات وفي رحلات التّصوير رغم ما يحفّ بها من مخاطر. ولعلّ هذا التّكامل بين الجنسين دليل على نجاح رسالة التّصوير.