محمد حياوي: أنا متكون من الذكريات والمصادفات العجيبة
حوار/ عِذاب الركابي: مصر
محمد حياوي كاتب بهيئة موظف مثابر في دولة الغرافيك والسرد معاً، وهما على مساحات جسده، وإيعازات روحه يكملان بعضهما.. تربتهما الخصبة الإيحاء، وليس إلا الإيحاء مصدر ديكتاتورية الكتابة والسرد المضني، والهاجس بذرة طموح إلى الحياة الأنيقة المستحيلة.. بدأت بفن الغرافيك، ولمْ تنته في عواصف الكتابة والسرد الموحي المثير.
كاتب القلق المريح تكوينه الدائم، وهوَ باذخ في موضوعاته، وفاكهة رؤاه الناس والأزقة والأسواق والأمكنة القديمة، وفي العراق الواقع والخيال هي الزاد، بلْ الطاقة في كهرباء سرد، لغته في شاعريتها جرس وضوء، وشخصياته معبدها المكان الضاج بالمتناقضات. (المجلة العربية) التقت مع الكاتب والروائي العراقي محمد حياوي أستاذ فن الجرافيك في الجامعات الهولندية.
تعددت فنون الكتابة لديك، وفقَ نداءات أحاسيس ومشاعر لا حصرَ لها: قصة قصيرة، رواية، صحافة وإعلام، فن جرافيك في إيقاع أكاديمي حداثي. كل ذلكَ تأكيد الذات، عبرَ مملكة مخملية هادئة وسط ممالك الدنيا، أينَ أنتَ من كل هذا؟ وما نهاية هذه المغامرة الشاقة - العذبة في آن؟ ماذا أخذت منك؟ وماذا أعطتك؟ والرهان أبداً على أمل وألم لا يكذبان!
- نعم. وما زال الأمل بجدوى الأدب وممكنات الجمال قائماً في نفوسنا لحسن الحظ، على الرغم مما يعتري العالم من وهن وسوداوية. نحن المسكونين بجذوة الإبداع والإحساس العالي بالجمال، نعيش مخاضاً دائماً، وإن لم نجد وسيلة لتسريب تلك الهواجس الخيالية خارج رؤوسنا وأرواحنا، تقتلنا العسرة، الأمر يشبه تلك البراعم التي تجتهد للانبثاق من تحت الصخور لتعطي للعابرين دروساً في فن ابتكار الحياة.
منذ أن بدأت كتابة القصص، كانت ثمة بذرة حية لرسام داخلي، تغالب التبدد، تارة تطفو على السطح، وتارة أخرى ترسب نحو القاع بعيداً، حتى في ذروة انشغالي بالكتابة، لم تنطفئ تلك البذرة تماماً، وفي أغلب الأحيان كانت بمثابة المكمل للكتابة عندي، فقد اشتهرت نصوصي التي أرسلها إلى الصحف والمجلات، بالشكل الغرافيكي الأنيق والتخطيطات المصاحبة لها، ومع ذلك فقد قضى انتمائي السياسي آنذاك على حلمي، بعد أن منعت من دراسة الرسم في معهد الفنون الجميلة، لتدفن مَلكَة الفن في أعماقي وأتفرغ للكتابة القصصية ومن ثم الروائية. وبعد أعوام طويلة جداً، ظهرت تلك البذرة فجأة عندما أتيحت لي فرصة لدراسة الفن الغرافيكي في منفاي والتخصص فيه، لكنني كنت في هذا الوقت قد أرسيت تجربتي في الكتابة ووطدتها وأصبحت شغلي الشاغل والأول في حياتي، فتحول الفن بطريقة أو بأخرى، إلى وسيلة ساندة أو مكملة لتجربتي الكتابية.
بدأت في طرح أسئلتك الإنسانية بالقصة القصيرة وفي (غرفة مضاءة لفاطمة) عام 1986وكانت الهجرة شرعية وروحية وطوعية إلى عالم أرحب.. إلى الرواية.. مَن يصغي أكثر.. لماذا الرواية؟ أهو زمن الرواية كما ينظر النقاد فعلاً؟ هل تؤمن بالأزمان والأجيال؟
- المرويات بمجملها، سواء كانت قصة قصيرة أم رواية، بمثابة أوعية للخيال وإقامة العوالم السردية، سوى أن القصة القصيرة أكثر تحدياً لأدوات الكاتب وممكناته الإبداعية، لجهة ضيق الحيز الكتابي فيها وما تتطلبه من تكثيف شديد، في الرواية هناك الكثير من العمل، لكنه عمل رحيم أقل صرامة من العمل على القصة القصيرة، لأننا نمتلك المساحة والحيز الزماني والمكاني وخاصية الإعادة والحذف والإضافة والتعمق، بينما في القصة لا نملك مثل هذه الرفاهية. وعلى الرغم من هذا كله، ما زلت أحن كثيراً إلى القصة القصيرة التي بدأت فيها مسيرتي الإبداعية، عندما حققت أولى مجاميعي القصصية (غرفة مضاءة لفاطمة) في وقتها انتشاراً جيداً وتركت صدىً معقولاً، وعلى الرغم من تفرغي للأعمال الروائية في العقد الخير، إلا أنني ما زلت أسعى، بتحريض من بعض الأصدقاء، لجمع أعمالي القصصية كلها في كتاب واحد، وهي كثيرة وصدرت في ثلاثة مجاميع حتى الآن، لم تقرأ أو توزع جيداً في العراق للأسف بسبب اغترابي وانقطاعي عن الحياة الثقافية هناك.
أجمعَ جل الساردين في الغرب وفي الشرق على أن الرواية كتاب الحياة، وصورة الحياة، وأنها مكتفية بذاتها، ومبنية على التجريبية، بل هي (سؤال العالم بكليته) - كما يقول هرمن بروخ.. ماذا تقول في الرواية؟ وماذا قالت فيك؟ اختارتك أم اخترتها؟ أم ماذا؟
- أعتقد أن الرواية انعكاس أو مرآة لما يعتري العالم والإنسان الحديث من إحباطات ورؤى وهواجس وأفكار وشغف، وجميعها محركات ومنصات للكتابة. تلك المحركات التي نتحدث عنها هنا، تتمثل عندي في بعدين مهمين، الأول ما يمكن أن نسميه التدوين البصري وتخزين الصور التي تصادفني في المخيلة، وهو خزين حيوي أنهل منه، ولو بعد سنين، عندما أبدأ الكتابة. والثاني هو الومضة الخاطفة، لكن الساحقة، التي يحدثها مكان ما في مخيلتي من الوهلة الأولى، لهذا تراني كثير التجوال في الأزقة والأسواق والتطلع في وجوه الناس وزيارة الأمكنة القديمة والغامضة، خصوصاً عندما أكون في العراق.
تقول دوريس ليسنج: (لا شيء في التاريخ يجعلنا نتوقع غير الحروب، والطغاة، والأزمنة الصعبة، والكوارث، أما الأوقات الجميلة فهي محدودة).. أليسَ هذا فضاء رواياتك الرائعة (خان الشابندر، بيت السودان، سيرة الفراشة)، هم ثمرة قلق الوطن الذي في ذمة الغياب، وما دار ويدور في المكان، ويؤرخ له السرد والزمان.. ماذا تقول؟
- من وجهة نظري تجارب الكاتب في الحياة وغناها، سواء كانت في زمن الحروب والطغيان أم في زمن البحبوحة والاسترخاء، هي ما يوفر له خزيناً ثراً لا ينضب من الخيال، يقول راي برادبيري: (إذا أردت أن تنجح اكتب عما تعرفه)، وأنا أصدقه في الحقيقة، لا يستطيع أي كاتب الكتابة عن أشياء لم يختبرها من قبل أو لم يعشها، وهذه قضية مهمة للغاية، ولا يمكنني أن أتخيل كاتباً يكتب عن المرأة وعوالمها وأسرارها من دون أن يختبر تلك العوالم في حياته الواقعية، كما لا يمكننا أن نكتب عن الحرب بطريقة صادقة وحقيقية ما لم نعشها ونخوض غمارها ونكتوي بنارها، هكذا هو الأمر ببساطة، أما ما يلي ذلك فهو اشتغال المخيلة وطرقها الغامضة في المزج بين صور الماضي والواقع المراد تخيله، وبقدر تعلق الأمر بي، فإن أية صورة خاطفة أو ومضة ما كافية لأن تلهب مخيلتي وتجعل الصور الارتدادية تنهال في الكتابة.
في السرد المتقن الشخصيات الورقية بورتريهات، صور فوتوغرافية لأناس في الواقع، بريشة المتخيل.. كيف هي علاقتك بشخصياتك؟ هل هي خليط من الواقع والخيال ومن الحلم والحقيقة أم ماذا؟
- أعتقد أن الشخصيات المحورية في رواياتي، هي شخصيات متخيلة بالكامل، لكنها مبنية على شظايا دقيقة من الواقع.. أما شخصياتي النسائية فهي مستلة من عوالم النساء الغامضة والآسرة التي عرفتها، فالمرأة من وجهة نظري هي الكائن الأكثر رقة وهشاشة في هذا العالم، وهي في الوقت نفسه، عالم من الأسرار والعواطف والكنوز المخبوءة التي لا تكشف عن نفسها إلا في حالات نادرة جداً.. لذا فإن شخصياتي النسائية تكون خيالية في المطلق، لكنها أكثر إيغالاً في الواقع.
(الذكريات تدفئكَ من الداخل، ولكنها تمزقك) - هاروكي موراكامي
(لا يمكن للإنسان أن يحيا من دون ذكريات) - إيزابيل اللندي
أي ذكريات في زمنك القهري، من الناصرية إلى بغداد إلى عمان إلى أمستردام المحطة الأخيرة؟ هل بقي لنا ذكريات في أزمان الطغيان، والمليشيات، والحروب المفتعلة، والطائفية المقيتة؟ هل للذكريات مكان آمن في غرف سردك الجميل؟
- طالما أعجبتني عبارة وردت على لسان بطل قصة (الحالة الغريبة لبنيامين بوتن) للكاتب سكون فيتزجرالد (تحولت إلى فيلم شهير)، تقول إن (الفرص هي التي تحدد مصائرنا، بما فيها تلك التي نفوتها)، وفي الواقع ما نحن من دون ذكرياتنا وتجاربنا التي نخوضها والفرص التي تتيحها لنا الصدف؟ ذلك لأن حيواتنا هي سلسلة طويلة ومتصلة من تلك الفرص والمصادفات، فنحن ننبثق في أرحام أمهاتنا مصادفة، ونكتسب جنسنا مصادفة ونحصل على آبائنا وأمهاتنا مصادفة، وعندما نكبر ونبلغ سن النضج، تتوالى علينا الأحداث والصدف، فنخوض الحرب مصادفة، وننجو من الموت مصادفة، ونهرب من بلداننا ونختار منافينا مصادفة، ثم نتعرف إلى حبيباتنا وملهماتنا مصادفة، وفي المحصلة، أستطيع القول إنني كائن متكون من الذكريات والمصادفات العجيبة، سواء المبهجة منها أو المحبطة، وكل مصادفة أفوتها تغيرني أو تزيديني ملامح وصفات جديدة، بل قل تطبع حياتي بطابعها الساحق، كتلك المصادفة التي أجبرتني على الخروج من الموضع الحربي ليلاً لأتبول، لأنني ببساطة خجلت من التبول أمام رفاقي الجنود، على الرغم من شدة القصف، وما أن خرجت وبلت خلف شجرة ليلية، سقطت قنبلة على موضعنا وقتل رفاقي جميعاً، أو تلك الأرملة الإيرانية التي صادفتها في مطار بلغراد ذات سفر، ونحن بانتظار طائرتينا، هي إلى أسطنبول وأنا إلى أمستردام، وذلك النداء المكتوم الذي كان يسيل من مقلتيها الساحرتين، أن دعنا ننسى العالم لبرهة ونترك طائرتينا تمضيان إلى المجهول ونمضي إلى شغفنا، كان لسان حالها يقول، (إني أرى اللهفة في عينيك يا رجل، فلا تجبن) لكنني للأسف جبنت، ومضينا كل في طريقه، لتظل نابتة في مخيلتي وتؤرقني في الليالي، على الرغم من مضي أكثر من خمسة عشر عاماً. مثل تلك المصادفات التي نفوتها، تغيرنا إلى الأبد في الواقع، وهذا ما أحاول تجسيده في الأدب بواسطة تجربتي السردية المتواضعة.