الأمثال الشعبية هي حكم مختزلة تحوي خبرة بحجم تجارب الشعوب، وطالما استخدمتها الأجيال كوسيلة للإقناع أو لتحفيز الأشخاص على اتخاذ موقف في ظرف معين، وأحياناً لتبرير حدث، وغالباً ما يكون مصدر المثل وقصته غير معروفين ولكن مضربه وظرف استخدامه والغرض منه واضح دائماً. وجاءت جهود جمع أمثال العرب كثيفة ومبكرة ولافتة حيث أغرت الأمثال الباحثين وجذبتهم إلى الجمع والتصنيف وجذبتهم لما تحتوي عليه من حكمة وطرافة فظهرت في كتب التراث كأحد الموضوعات اللافتة التي تعد ملمحاً من ملامح ثقافات تصنيفها الشعوب، واتخذت المناهج طرقاً عديدة وكان أسلمها الترتيب الهجائي ولكن التصنيف الموضوعي دائماً بقدر صعوبته بقدر ما هو كاشف لضمير مستخدميه.ووظائف المثل الشعبي عديدة، ويأتي على رأسها الإقناع ثم التحفيز ثم التبرير وتخفيف آثار الأحداث والوقائع، إلى جانب الوظيفة التبريرية التي ما غابت عن المثل الشعبي وكانت ملازمة له من ضمن وظائفه العديدة، ولعل المثل القائل (لولا الكاسورة ما كانت الفاخورة) التي تخفف من وقع الخسارة على الأفراد و(إجري يا بني آدم جري الوحوش غير رزقك لن تحوش) الذي يبدو متناقضاً مع (اسع يا عبد وأنا أسعى معاك)، والأول المعنى التبريري واضح والثاني تحفيزي يقال في موقف مختلف، فهو وعاء به مادة متعددة الوظائف بتعدد المتلقين والمواقف. والوظيفة التربوية التي تتخذ من المثل وسيلة للتربية والتوجيه ونقل الخبرة من وظائف المثل الشعبي المستمرة.
ومع تراكم الدراسات وجهود المتخصصين في الرد على الاتهام الأولي للمثل الشعبي بأنه متضارب، فأثبتت الدراسات أن المثل متنوع وليس متضارباً وذلك بتنوع المواقف والغرض من ضربه، فإن طرق نقله أيضاً متنوعة، وهي التي كانت شفهية وغير رسمية بشكل مطلق إلى وقت قريب، ومع التطور في قنوات الاتصال ومن ثم ظهور آليات نقل حديثة كان طبيعياً أن ينعكس ذلك على التراث في عموميته ووسائل وسرعة نقله رأسياً بين الأجيال وأفقياً في مساحات أوسع، فلعبت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي دوراً في بقاء بعض العناصر بنفس القدر الذي شكلت مخاطر على وجودها. وهنا تثار قضية نقل التراث عامة واختلاف آلياتها مع الزمن وظهور متغيرات كثيرة جديرة بالدرس والاهتمام، فبعدما كان محيط النقل ضيقاً يشمل مجتمعات محلية والدوائر القريبة داخل العائلة والجيران اتسعت دائرة الاحتكاك لتشمل أفراداً لا تربطهم بالفرد علاقة شخصية ولا يدخلوا في دوائر احتكاكه، وبالتالي كان القطع بأن الوسائط الحديثة تمثل تهديداً للتراث ومن بينه المثل الشعبي أمر في مجمله يحتاج إلى المراجعة والتأني خصوصاً وأن جهود جمع أمثال العرب كانت قديمة وتنبه إليها المؤلفون والباحثون وظهرت في كتب التراث كأحد الموضوعات اللافتة التي تعد ملمحاً من ملامح ثقافات الشعوب.
وتنبهت بعض الدراسات، وهو ما وفرته أيضاً وسائل التواصل الحديثة، إلى التشابه اللافت للنظر بين أمثال الشعوب المختلفة في بنيتها الاجتماعية لكن كان التفسير الذي أظهرته الدراسات هو تفسير بنيوي حيث تركز النظرية البنائية في تفسير الثقافة الشعبية على كيفية بناء الثقافات والهويات الاجتماعية من خلال التفاعلات بين الأفراد والمجتمعات. تستند هذه النظرية إلى فكرة أن الثقافة ليست شيئاً ثابتاً، بل هي عملية ديناميكية تتطور من خلال الممارسات والتفاعلات اليومية، وأن التعبيرات الشفاهية ومنها الأمثال الشعبية هي إحدى ملامح تلك الثقافة وأن هناك صورة نمطية لبعض العلاقات تكرسها الثقافة الشعبية متمثلة في المثل الشعبي ومنها علاقات القرابة، فمثلاً اتخذت العلاقة مع الحماة صبغة سلبية بنسب متفاوتة بين المجتمعات دعمتها بعض العناصر الثقافية الأخرى مثل نمط الأسرة الممتدة الذي كان سائداً حتى وقت قريب وأن (الحماة حمي وأخت الجوز عقربة سامة) (ويالله الحمى من دعا الحما) وأن تلك الصبغة اتخذت شكلاً عالمياً بنسب متفاوتة بقدر سماح البناء الاجتماعي بوجود علاقة مباشرة بين الأفراد من عدمه، ودعمت الأمثال الشعبية تلك الصورة، ولعلاقة الأم بالأبناء من الأمثال الشعبية نصيب من أمثال علاقات القرابة وهي تبرز حماية الأم للأبناء وتجاوزها عن أخطائهم (القرد في عين أمه غزال)، (الخنفسة تشوف ولادها على الحيط تقول ده لولي وملضوم في الخيط) و(اللي يدي ابني بلحة تنزل حلاوتها في بطني) و(أدعي على ابني وأكره اللي يقول آمين)، ثم علاقة خاصة بالمجتمعات العربية بين السلايف وهن زوجات الإخوة الرجال الذين يضرب المثل بعلاقتهم الشائكة (مركب الضراير سارت ومركب السلايف غارت)، والعلاقة بزوجة الأب التي لا يضعها المجتمع إلا في صورة الشريرة التي كرستها الحكايات والأمثال الشعبية (قالوا مراة أبوك بتحبك.. قال يمكن اتجننت)، وهكذا فإن العلاقات الاجتماعية استخدمت الأمثال لثباتها طريقاً وهو ما لم تغيره وسائل التواصل الاجتماعي بل نقل مفرداته من خلال وسائط جديدة.
ويتأثر المثل بالبيئة التي تنتجه وتظهر عناصرها في مفرداته فأمثال البيئة الزراعية تختلف عن البيئة الصحراوية أو الساحلية والنشاط الاقتصادي كما هو مؤثر في طبيعة العلاقات بين الأفراد وأشكال تفاعلهم يؤثر في المنتج الشفاهي ومن ضمنه الأمثال الشعبية. كما هو معروف أن من خصائص عناصر التراث الشعبي الدينامية وحساسيته للبيئة والمتغيرات ولطبيعة الممارسين، وهنا ينقلنا إلى النظر إلى ممارسي المثل بشكل متواتر، وإن كان هذا لا ينفي استخدام كافة الفئات له، من حيث النوع يتركز استخدامه من النساء عن الرجال، ومن حيث الفئات العمرية يكثر استخدامه بين فئات كبار السن ويقل كلما هبط العمر ليختفي لدى الأطفال، وعن النشاط الاقتصادي نجده يقل في البيئات الصناعية ويزدهر في البيئات الزراعية والساحلية والصحراوية التي يعتمد فيها النشاط الاقتصادي على التعامل المباشر مع البيئة الطبيعية. وأثر نوع التعليم على كثافة استخدام المثل الشعبي فالعلوم التطبيقية يجنح أصحابها إلى استبدال المثل الشعبي بالأقوال المأثورة، وإن ما طال المثل الشعبي من تحولات هو ما تعرضت له كافة عناصر التراث الشعبي بعد الثورة الصناعية والتغير الكبير الذي نال كافة مناحي الحياة، بالتالي التراث بوصفه منتج الحياة اليومية، ومن هنا كان من الضروري النظر إلى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على بقاء واستمرارية المثل الشعبي، فهل الفئات التي تستخدم المثل الشعبي في حياتها اليومية هي نفسها الفئات التي تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي وتعتمده وسيلة فعالة في الإقناع أو التبرير؟ الواقع أن الإجابة في معظمها لا.. فمعاملات الارتباط بين طرفي المعادلة موجودة ولكنها ليست قوية، فالسيدة في الريف التي تجري الأمثال على لسانها بشكل يومي ليست هي مستخدمة وسائل التواصل الاجتماعي. والعكس هو ما نلاحظه من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في نقل المثل الشعبي ففي بعض الأحيان توافرت للمثل فرصة ليخترق الطبقات والفئات العمرية ويصل إلى دوائر أوسع.
وسمة الاختزال التي تميز المثل، حيث يعمق المعنى فيبدو وكأنه حقيقة، تقابل ما وفرته بغزارة محركات البحث التي تتصاعد وتيرة استخدامها لتصل إلى الذكاء الاصطناعي، لكن يظل الموقف الذي يضرب فيه المثل بطريقة عفوية وسريعة باستدعاء المثل من المخزون الثقافي ليبرهن أو يبرر أو يقنع، وهو ما لا تحققه محركات البحث ولا وسائل التواصل الاجتماعي.
وانتقالاً إلى قضية قدرة المثل على البقاء كشكل تقليدي قد لا يساير التطورات التي شابت نمط الحياة وإيقاعها والمؤثرات التي يتعرض لها الأفراد، والحقيقة أن ما يعانيه المثل الشعبي من تحديات البقاء ينسحب على عناصر كثيرة من التراث الشعبي ومن بينها التعابير الشفهية، فهذا الواقع تعاني منه السيرة والحكاية واللغز بل والنكتة، وأن الآلة المنتجة للتعبيرات الشفهية تتعثر بسبب إحلال أنماط جاهزة تغني الأفراد عن استغلال مخزونهم الثقافي والتعامل معه بشكل دينامي، وأن تحرر الأفراد من القيد المجتمعي في دائرته الضيقة وانخراطهم في دوائر واسعة من العلاقات لا يفترض أن يكون بين أفراد تربطهم علاقات الوجه للوجه، وأحياناً في تبادل ثقافي انفتحت قنواته بشكل كبير ويصبح الصراع من أجل التبادل الثقافي العادل الذي لا تطغى فيه ثقافة على أخرى هدفاً تسعى إليه الثقافات لتعزز وجودها، فالبحث عن التهديدات أمر حتمي ولكن الذعر من تأثيراتها ينطوي على كثير من المبالغة، فنظرة على استغلال وسائل التواصل الاجتماعي في نشر التراث وإعادة إنتاجه والتعريف به يمكن أن تبعث على كثير من الاطمئنان والإقرار بأن التراث الحي هو اختيار الشعوب الواعية تبقي ما تحتاجه وتتنازل عما بطلت استخداماته ولديها قدرة على التطوير وإعادة الإنتاج وأن دينامية التراث حقيقة لم يعد هناك أي سبيل لإنكارها.