يزخر التراث الشفوي المغربي بمتون أدبية كثيرة، وهذه المتون تشكل مصدراً أساساً من مصادر تاريخ مجتمعنا في أبعاده المتعددة، سواء في الجانب التاريخي، أو الاجتماعي، أو السياسي، أو الثقافي، أو الجمالي، فكلما ازداد البحث في ذلك نجد كنوزاً في ثنايا هذا التراث الإنساني المهم، ويتم كذلك اكتشاف المزيد من الظواهر التراثية التي تشكل جانباً من جوانب الفخر والاعتزاز في موروثنا الحضاري والثقافي المغربي الأمازيغي، ومن النماذج الدالة على ذلك ثقافة (المثل) الذي ساير الحياة الإنسانية ليمدها بوظائف تواصلية عديدة، وهي خلاصة تجارب أزمنة وعصور بما فيها من معانٍ جميلة وحكم بليغة وصيغ مترابطة، والمثل بحمولته التاريخية يعتبر مخزوناً ثقافياً تتجلى من خلاله حياة الناس بعاداتهم وتقاليدهم عبر الأزمنة من جيل إلى آخر، ورغم هذه التحولات الكبيرة في المجالات الاجتماعية اليوم، فإن المثل مازال محتفظاً بأدواره داخل المجتمع المغربي الأمازيغي داخل جبال الأطلس، لأن البيئة الجبلية بتضاريسها الجغرافية هي التي تفرض التعامل مع المثل، مع ما يحمل هذا الجنس الأدبي من الحكمة الصافية التي رصدت تجارب عميقة في الحياة، بإبداع إنساني يستضيء بثقافات المجتمعات، وهي دروس يتناقلها الأبناء عن الآباء والأمهات.
ففي منطقة جبال الأطلس نجد المثل الأمازيغي تتجسد فيه ثروة غنية وغزارة تراثية كبيرة تكشف لنا عن حصيلة وفيرة من الأمثال التي تركها الآباء والأجداد على امتداد التاريخ، فكانت كلماتهم نبعاً من عقول أبناء تلك البيئة الجبلية بما لهم من قوة في مواجهة صعوبة الحياة، لذلك كانت هناك أمثال مرتبطة ببعض مجالات الحياة ولها قصص تتنوع مواضيعها، فمنها ما يدعو للخير والمحبة، ومنها ما يحذر من الجبن والخداع والكذب، ومنها ما يدعو الأبناء ويحثهم على سماع كلام وتوجيهات الأب والأم، ومنها ما يرجع إلى الطبيعة، وإلى تعلم الحرف والصنائع، إلى غير ذلك.
وفي ضوء هذه الثقافة الغنية المبنية على التراث الفكري الإنساني تبنى الشخصية بناء قويماً مما يعطي لنا تصوراً حقيقياً للإنسان المغربي الأمازيغي.
وبناء على ما ذكر فإنني سأركز في هذا المقال على موضوع الأمثال الأمازيغية التي تناولت أهمية الماء في حياة الناس، ذلك أن الأمثال المغربية الأمازيغية كغيرها من أمثال الشعوب الأخرى هي مرآة صافية وصادقة تعكس صورة المجتمع في تجاربه المحملة بآلامه وآماله، بقيمته وطموحاته، بأحزانه ومسراته، بنكساته وانتصاراته بسلبيته وإيجابياته، بعاداته وتقاليده.
وقد تعمدت الكلام في هذا الموضوع، لما له من أهمية وتداعيات في أيامنا هذه وبخاصة في ظل ما يعيشه العالم من نقص حاد في المياه وقلة التساقطات المطرية والثلجية، ولهذا فإن الإنسان المغربي الأمازيغي القديم كان له وعي بكل ما يحيط به، فيتعامل مع كل قضية بما يناسبها. وقضية تدبير موارد المياه من القضايا الأساسية في الحياة البدوية التي تعتمد على كسب اليد في القوت اليومي، مستشعراً بأن الإنسان كائن حي بهذه المادة الحيوية، كما جاء في القرآن الكريم: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) (سورة: الأنبياء. الآية: 30)
ووعياً منا في المغرب بأن التساقطات الثلجية لها دور مهم في توفير المخزون المائي، وتعد الثلوج مورداً مهماً لتزويد الفرشة المائية، كما أن وجود التساقطات الثلجية فوق قمم الجبال يبعث على التفاؤل والأمل في نفوس الناس.
ومن هنا فإن واقع الحال في هذا الجانب له أبعاد إيجابية وسلبية، مما جعل الناس يتفاعلون من هذه القضايا المناخية المهمة، فسالت ألسنة الحكماء والعقلاء بأمثال تؤطر الحياة الاجتماعية في هذه البيئة التي تعيش على بعض المحاصيل الزراعية وتربية المواشي من بقر وأغنام وماعز. فكان لهذه الأبعاد دور مهم في معرفة قيمة الثلوج، ودور هذه المادة الحيوية في ضمان واستقرار حياة الناس ووجودهم، ولذلك نجد الأجداد يتداولون مثلاً في غاية الأهمية وهو: (إيك وور لين إيتفلان وورلين إيد وفلان).
ودلالة هذا المثل أن وجود الناس واستقرار حياتهم المعيشية رهين بوجود التساقطات الثلجية في أوقاتها المعروفة، فجاءت صياغة هذا المثل في غاية من التعبير الفني، وعلى شكل من السجع والجناس الذي يعطي للكلام جرساً موسيقياً تستحسنه الأذن وتقبله النفوس، فالكلمة الأخيرة من المقطع الأول دلت على صيغة منتهى الجموع لكلمة: (الثلج)، وهي: (إيتفلان) أما الكلمة الأخيرة في المقطع الأخير فعبّر بها أيضاً بصيغة منتهى الجموع لكلمة: (فلان). الذي يطلق على أناس كثر، وهذا المثل في دلالته العميقة نستشعر منه قيمة وأهمية الماء الذي من ثمار الثلوج، ثم إن الإنسان المغربي الأمازيغي يتحمل برد الثلوج لأنه يستحضر منافعه الكثيرة، وبهذا التعبير الجميل الذي صيغ به هذا المثل المغربي الأمازيغي نجده يجمع بين الحكمة المعبرة، والصورة الفنية التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ.
ومن جهة أخرى فإن الوعي بالقضايا الموسمية والمعرفة الفلكية له علاقة بالحياة اليومية للناس كذلك، فيكون انتظارهم لدخول كل موسم له خصوصية وأهمية، وذلك أن نظام فصول السنة في الجبل له ارتباط بجميع مجالات العيش، فهم ينتظرون التساقطات الثلجية من أواخر الشهر الأول من فصل الخريف الذي هو بداية الحرث، وهم يمثلون لهذه القضية بمثل هو: (شتنبر، شوف أدرار، وان أوتبير).
وهذا المثل أيضاً يضرب بجذوره في معرفة الأوقات والمواسم الفلاحية من الناحية التأريخية، ومعنى هذا المثل العريق: أن قمم الجبال تكسوها الثلوج من أواخر شهر شتنبر، وعبر في هذا المثل بتشبيه بليغ، وذلك في صورة فنية تزرع الحياة والأمل في النفوس، حيث شبّه قمم الجبال بلون الحمام الأبيض، لما تحمل الحمامة البيضاء من تفاؤل الخير ببداية موسم فلاحي جميل.
وحينما تكون التساقطات الثلجية متتالية يفرح الناس ويستبشرون بموسم فلاحي قادم يضمن الحياة للإنسان والحيوان، وتفرح كل المخلوقات وحتى الجمادات، وعلى ضوء هذا نجد مثلاً صيغ صياغة جميلة يجسد لنا صورة في غاية من الأهمية وهو: (إيكدا يالا واريد آار تصان آيت ويرار).
ومعنى هذا المثل: أنه في شهر فبراير حينما يظهر صفاء السماء نهاراً، ويبدأ ذوبان الثلوج فوق جبال منطقة (واريد) وهذه الجبال تطل على سد تاشواريت التابع للنفوذ الترابي لجماعة واولى إقليم أزيلال، في هذا الوقت من السنة تتراءى هذه الجبال للناظر وقت الضحى كالمرايا تلمع بذوبان الثلوج وسيلان المياه، وبجمال تلك القطرات المتدفقة من بياض الثلوج. هنا جاء تشبيه هذا السيلان بالدموع، وكأن هذه الجبال تدمع، ومقابل بكاء المنطقة الجبلية هذه، نجد سهول منطقة: آيت ويرار وتنانت من منطقة أزيلال كذلك تضحك لهذا البكاء الجميل الذي يحمل البشائر والمسرات، لما ستستفيد هذه المناطق بهذه الدموع من مياه الثلوج، مما يوحي بضمان صيف منتج. وبهذه الأحاسيس والآمال المعقودة على هذه المادة المباركة.
وبالنظر إلى هذه النصوص الجميلة المعبرة فإن العمل الإبداعي ينطلق من محيط الإنسان، ويستطيع كل من يحمل الفكر الإبداعي في تلك العصور، أن يقوم بعملية الابتكار الفني التي يستخرجها من معالم تراثه ورموزها، بامتلاكه الرؤية والأدوات الفكرية التي تحمل سمات أصلية تكمن في أساسها المضمون والمحتوى والشكل والأسلوب والتقنية، حيث يصبح التعبير أكثر شمولاً وتستفيد منه الأجيال القادمة بناء على ذاك التراكم المعرفي والإحساس الجمالي عند معظم الناس، بغض النظر عن وضعهم البيئي والذهني والمعرفي.
وانطلاقاً من تمثل هذا الرصيد المعرفي في حياة الناس، فإن الأمثال من الفنون الأدبية التي ينبغي المحافظة عليها، لما لها من رصيد هائل وثمين من الحكم البالغة، فالأمثال تعد كنزاً لا يقدر بثمن، وهي زبدة الأقوال التي هي خلاصة التجارب عبر السنين، وخلاصة الفكر الإنساني، إنها جمل قليلة الألفاظ، غزيرة المعاني، سلسة في لفظها، قوية في سبكها، تجمع بين جمال التعبير، ودقة التصوير، وتختصر المعنى الطويل بمفردات موجزة قليلة، تحفظها الذاكرة ويعيها الوجدان.