يعد الأدب الشعبي بمختلف مكوناته الشعر أو الحكم أو الأمثال، صورة ذهنية جمعية تعبر عن مجموعة من التعاقدات الاجتماعية المختلفة، كما أنها تعكس بعض الأنماط الحياتية المؤطرة تحت نظام الضمير الجمعي، والقيم والمعايير المشتركة في الوعي أو اللاوعي الاجتماعي.
وتعد الأمثال الشعبية حلقة تتقاطع من خلالها مكونات الأنساق الداخلية للبنية اللامادية الثقافية للمجتمع، على اعتبار أنها نظام معرفي وتنظيم نفسي للعلاقات الاجتماعية بين الأفراد أو الجماعات، من خلال ترسبها في النفس والذهن، مما يجعل منها انعكاساً للتعدد الثقافي الذي أنتج أمثالاً استخدمت في مختلف السياقات سواء من أجل إكساب شرعية لبعض السلوكيات أو لانتقادها بأسلوب مباشر، مما منحها سلطة رمزية داخل المجتمع.
لكن التحولات الاجتماعية الكبيرة التي عرفتها المجتمعات العربية مع بداية القرن العشرين أثرت على طريقة تداول الأمثال الشعبية، ولعل أحد أهم الأسباب التي أدت إلى تراجع المثل، هو التحضر وانتقال الأفراد من القرية والمجتمعات الريفية إلى المدن الكبرى، ما أدى إلى تفكيك عميق في الروابط الاجتماعية التقليدية، وتقليصها بسبب الحياة السريعة، وأيضاً التحولات في بنية المجتمع، عبر الانتقال من الأسرة الممتدة إلى الأسرة النووية، فكانت النتيجة تضاءل الفرص الطبيعية لنقل الأمثال الشعبية، باعتبار أن الخاصية الأساسية للمثل هي التوريث من جيل إلى آخر.
ومع بداية القرن الواحد والعشرين، أو ما يعرف بالعصر الرقمي، بدأت الأنماط الاستهلاكية التقليدية تعرف تراجعاً، على مستوى الإنتاج أو التداول، فأضحت الأمثال الشعبية في مواجهة مع الحداثة بكل تجلياتها، سواء اللغوية أو الثقافية وكذا الوسائط الرقمية، وبخاصة وسائل التواصل الاجتماعي التي تعتمد بشكل كبير على الثقافة البصرية بسعيها إلى (غرس قيم ومعايير سلوكية معينة من خلال التكرار والتواصل)، ومن ثم نشأت مظاهر سلوكية بديلة كان لها دور في التقليل من الاهتمام بالأشكال اللفظية التقليدية. والتحديث هنا ليس باعتباره تغييراً للبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإنما هو تحديث يؤول التراث الثقافي اللامادي في ذهنية الأفراد باختلاف أشكاله ودرجات تطبيقه من مجتمع إلى آخر.
وغالباً ما ترتبط الأمثال بسياقات ثقافية واجتماعية محددة، ومع تغير تلك السياقات فإن الأمثال الشعبية تصبح غير قادرة على التفاعل مع المحيط الاجتماعي، لأنها لم تعد تجسد التصورات والأفكار الحياتية المعاصرة للأفراد في العصر الرقمي، وبما أنها تعد بمثابة القوانين الخفية للمجتمع، والتداول الشفهي للنظم الثقافية والاجتماعية من عادات وتقاليد وأعراف، إذ تشكل خزاناً لمجموعة من القيم التي يعتبرها الجيل الجديد بمثابة سلطة على الحرية الفردية للأشخاص، الشيء الذي اعتبروه متجاوزاً لا يتماشى مع تطلعاتهم للحياة المعاصرة، كونها تحمل طابعاً سلبياً أو حتمياً وأيضاً آلية من آليات التحكم في سلوكياتهم، فنحن عندما (نتحدث عن إشكالية نسق ما، فإن هذا يعني بداية رفض الانصياع المطلق لإطار فكري حتى وإن كان له الرواج)، أو بمعنى آخر رفض مطلق لكل نسق فكري لا يتناسب مع الإطار الحضاري الحداثي، وهذا يعكس بالأساس تحولاً في الهوية الثقافية للمجتمعات العربية بشكل عام.
وعلى الجانب الآخر يمكن النظر إلى تلك التحولات كفرصة لتجديد التراث الثقافي، فالأمثال الشعبية نفسها لم تكن ثابتة عبر التاريخ، بل استطاعت أن تواكب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، والتكيف مع التحولات الزمنية والممارسات الثقافية في مختلف المجتمعات العربية، فالتراث القديم بأفكاره وتصوراته يشكل حقلاً ثقافياً ممتداً، يقوم عبر التمازج بين الإنتاج والفعل المتواكبين في الزمان والمكان، وهو ما يسمى بالنظام الاجتماعي، (وأول خصوصياته التغير، وإعادة إنتاجه في امتزاج بأحداث الواقع وهدف الوعي الإنساني فكراً وعلماً وتعليماً)، ومن هنا يغدو نسق القيم الأخلاقية والثقافية للأمثال بمثابة بنية مندمجة في الوجود الإنساني، بمعنى أنها ليست قوالب جامدة لا تقبل الإضافة أو التعديل وفقاً لمقتضيات الحداثة لكل مجتمع. والحداثة ليس معناها نفي وهدم للقديم، بل ملاءمة العصر بكل حاجياته، لتكون إضافة أو تعديلاً لبنية المجتمع التقليدية بما يتفق مع حاجياته الجديدة وفق سياق ثقافي حداثي تؤطره رؤية شمولية هدفها الحفاظ على الخصوصية التراثية الثقافية للمجتمعات بكل عناصرها وتشكلاتها لنقل الأمثال الشعبية من الجمود إلى الحركة والفاعلية.
ولعل النسق القيمي المتغير للأمثال، كان لابد له من مواكبة حركة وتطور المجتمع من أجل أن تكون له فاعلية الإبداع، في إطار تبادل مراكز السلطة والسيادة في المجتمع بين القيم الإيجابية والسلبية المحددة ضمن منظومة الفكر المجتمعي، ليكون لكل مجتمع نهجه المميز في الدمج بين الحداثة والتراث.
وبهذا فإن الخصائص النصية المميزة للمثل والمتمثلة في اللغة، يمكنها أن تشكل صورة عن التعارض بين العلاقات الإنسانية، والثقافية باعتبارها دلالة على التشكلات المعرفية في تعارضها مع الأعراف الاجتماعية، فتصبح بذلك اللغة سبيلاً لتغيير تلك العلاقات إجمالاً.
لذا فإن الكثير من العلوم الحديثة تؤكد على الدور الأساسي للتراث الشفهي، بوصفه محدداً فكرياً وثقافياً ونفسياً ووجدانياً للأدوار الاجتماعية بمختلف تلويناتها وتشكلاتها.
ولعل الواقع اليوم يجسد صورة متأزمة ومتوترة بين الأنساق الثقافية القديمة، والرؤى الحداثية المعاصرة مما يخلق أزمة تصادم متمثلة في رفض كل ما هو قديم، نتيجته تسارع إيقاع التحول المجتمعي بكل عناصره وأطرافه، وظهور تيارات فكرية سياسية وثقافية متباينة نمطاً وسلوكاً، فأضحى من الضروري أن تتوافر الجهود من أجل حصر الظاهرة ومحاولة تحديث على كل ما هو تراثي، من خلال توافر منهج نقدي فاحص للواقع وتفسيره وصولاً إلى قواعد لتصحيح السلوك وتقويمه.