في زمنٍ تلاشت فيه حدود الكلمة، وارتدت الاقتباسات عباءة العصر الرقمي، يُخيل للمرء أن الأمثال الشعبية اندثرت وغابت عن الساحة، ولكنها، في الحقيقة، لا تزال تسكن زوايا الأرواح. فهي مرآة تجارب الأجداد، التي تشهد على حكايات سنوات مضت، وتربط بين الأجيال بخيوط متينة من الحكمة.
تبدو لنا الأمثال الآن متوارية خلف ظلال النسيان والإهمال، بعد أن كانت في يوم من الأيام سيدة الحكمة الشعبية التي تحمل في طيها دروساً حياتية متراكمة، بينما اليوم، مع وفرة المعلومات وسرعة الاتصال والتواصل، أصبحت تلك الأمثال تُختصر في تغريدات وجمل قصيرة مقتبسة في معظمها ومجتزأة من الكتب والروايات والأحاديث العادية.
تلك الجمل التي تضيء الشاشات لكنها تخلو من العمق الحقيقي، قد تثير الاهتمام لكنها لا تُثري التجربة وتُغني الروح. فالأمثال، بعباراتها البسيطة والمعبرة، كانت في أغلبها نتاج قصص حقيقية عن البشر وصراعاتهم، تخلد خلاصة تجاربهم وما خلفته من حكمة، بينما الاقتباسات المعاصرة تأتي كعناصر فورية تعبر عن أفكار بلا جذور.
لكن رغم هذا التراجع، ما زالت الأمثال قادرة على البقاء في ذاكرة من يتوق إلى الحكمة. فهي كالشجرة العتيقة التي تستمد قوتها من جذورها، وتظل حاضرة، تدعو للتأمل في معاني الحياة وتعقيداتها، وتستدعى عند الحاجة لها. وربما لا تزال هناك مساحة لتجديد هذه الأمثال في قلوب الناس، لتعيد صياغة الفهم وترسيخ الحكمة.
أذكر وأنا حينذاك في بواكير شبابي وقد شدتني أمثال العرب المحتشدة بالحكمة والنظم الفخيم والتي كنت أظن أن أدواتها قلم وكراسة ووقت أصيل ورفقة فطن، فما أن تغرب شمس ذاك اليوم إلا وقد أضافت إلى أمثال العرب ما يخلده التاريخ وتتناقله الأجيال.
وفي أقرب عطلة هرولت نحو القرية حيث رفيقي الفطن محمود والأصائل تتبختر على شط النيل تنثر من رحيق وادي عبقر على الجلاس ولن أعدم الوريقات وبقايا المداد. وحينها لم أكن قد تعرفت بعد على المفضل الضبي وكتابه أمثال العرب، فكان الأمر كما تمنيت. وبينما نحن جلوس على ضفة النهر قلت لجليسي وأنيس صباي: ليتنا نعيد للأمة مجدها بتأليف أمثال تحمل عبق الماضي وروح الحاضر حتى لا تندثر هذه (الموهبة) فأمضينا لحظات الأصيل وكادت الشمس أن تتوارى عن أنظارنا ونحن لم نستطع تركيب عبارة ترقى لأن تكون مثلاً، ومن ثم اتفقنا بأن نلجأ للمواقع الإلكترونية لجمع نصوص واقتباسات نؤلف منها أمثالاً فإذا بنا نلمح رجلاً قادماً علينا من بعيد يتوكأ على عصاه فقال لي جليسي (لقد قطعت جهيزة قول كل خطيب)، ذاك جدي محمود، الذي أسموني تيمناً به كما تعلم، فانتظر أن يأتي لعله يشاركنا همنا بخبرته التي يتكئ عليها كما يتوكأ على عصاه، فقلت له ممازحاً: هذا زمن الإنترنت وعصر المعلومة السريعة، فهل تريد منا أن نستفيد من رجل أكل منه الدهر وشرب، ولا يعرف كيف يُفتح الهاتف الجوال ولم يسمع عن محركات البحث الإلكتروني؟! دعنا منه يا صديقي، ولنستعن بالإنترنت كما اتفقنا. وما هي إلا لحظات حتى وضع مقدمة عصاه بيننا وبادرنا بالسلام فرددنا عليه بما حيانا به، وقال ما خطبكما؟ فأراد صديقي أن يتحدث فغمزت له وقلت لا شيء يا أبتاه، فقال محمود الجد (إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا)، ثم التفت إليّ وقال يا بُني ما لي أرى عينيك تخون؟ فقلت له بدهشة كيف أوَ تخون العيون؟ فقال: نعم، فخيانتها أن تسرق مهمة اللسان، فتغمز بشي من المفترض أن ينطق به اللسان، فقلت له مبتسماً: الآن فهمت قوله تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ)، فقال لي: ويجب أن تكون قد أدركت أيضاً قول نبي المرسلين صلى الله عليه وسلم: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)، ففسحنا له في مجلسنا لنتعلم مما في جعبته من حكم. وبادرته قائلاً: يا أبتاه كنا نريد أن نؤلف أمثالاً مثل أجدادنا فعجزنا عن ذلك! فقال لنا: (من شابه أباه فما ظلم)، ولكن يا أبنائي إن هذه الأمثال صوت حكمة قادم من أعماق التاريخ ودهاليزه، اغتسلت بندى التجارب وارتدت أرواح أجدادنا وتفاعلهم مع واقعهم، وتجسدت في كلمات مسبوكة للأحفاد لتحكي لهم عن تاريخنا، وتقدم لهم عصارة تجارب الأجداد والجدات ليهتدوا بها في صراعهم من أجل البقاء. فهي تجارب أجيال سبقتهم وقدمت لهم هدية؛ ليهذبوا حاضرهم وتربطهم بماضيهم. فقلت له: الآن أدركنا إجابة لكثير من أسئلتنا ولكن لماذا لم تعد مجتمعاتنا كما كانت تدفع بالحكم والأمثال المتجددة كما يدفع النبات بالزهر والورد المتفتح صباحاً ومساء؟ فقال لي: وهل تدفع الطيور ببيضها في عش الخيال؟ أنتم تعيشون يا بني في عالم افتراضي عالة على هذا العالم الواقعي، ولا تقدمون للبشرية كما قدم أجدادكم، بل تقتاتون على بعض الذكريات التي صنعها الأجداد قبلكم، فقد عاشوا عصرهم وصبروا وطوعوه، وبنوا أمجادهم ومن ثم استخلصوا عصارة تجاربهم وأهدوكم إياها. أما أنتم فليس في جعبتكم غير التشكي والتعجل لبلوغ المرام؟ أما سمعتم بقول الشاعر الحكيم:
ذرى المجد لا ترقى لغير المخاطر
قليل التشكي في الملمات صابر
فقاطعته قائلاً: يا أبتاه ما عندنا اليوم لم يملكه الأجداد، ففي يدنا الجوال وبين أيدينا الشبكة العنكبوتية نتجول بها في جميع أرجاء المعمورة، ونستطيع أن نأتي بما لم يأتِ به الأولون إن بحثنا فيها، فتبسم وقال لي:
أترجو يا فتى أن تجتني غير غرسك؟
فيا بني، خذ العلم من خير أُسه
وبيض بتحرير المعارف طرسه
لتعلم أرباب التعلم قدسه
فأجدادكم أخرجوا لنا الحكم والأمثال لما مارسوا الفعل فوجدوا ما فيه من حكمة، فامتهنوا الزراعة وذاقوا لذة الحصاد وضربوا في ذلك الأمثال، (من جد وجد ومن زرع حصد)، وصار ذم الكسل عندهم تعويذة اقتبسوها من قول رسولهم (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل).
ولقد كان آباؤكم متواضعين كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع.
فيجب عليكم يا أبنائي أن تعمروا هذه الأرض بالعلم والنشاط ومخالطة الآخرين، والتواضع. وحينها لن تعدموا ملخصاً يشكل حكماً وأمثالاً تنيرون بها الطريق لمن يجيء بعدكم!
ومن ثم انصرف عنا الجد محمود وقد أزال حيرتنا وصحح لنا كثيراً مما كان يعشعش في عقولنا. فقلت لرفيقي: فلنكن قدوة لبني جيلنا كي يجتهدوا في كل ضروب العطاء، الفلاح في حقله والتاجر في متجره والطبيب بين مرضاه، وسيدرك كل منهم الخلاصة فيما وصل إليه من نتيجة، ومن ثم يأتي دورنا كتربويين ولغويين لندوّن ما استخلصوه من تجاربهم، فإعمار الأرض ينبت بالأفعال والحكم والتجربة والعزيمة. وكما تنبت الأرض الخصبة الزرع، فصياغة الأمثال تحتاج منا أن نجيد العربية ونتذوق حلاوتها ونحسن إليها كما أحسن إليها الأولون فأحسنت إليهم وحملت أمثالهم في قوالب من الجمال والحكمة والدفء، وشكلت ملاذاً لطالبي المشورة وضالة للباحثين عن الرأي السديد.