مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

أسماؤنا

تتجول بين الأزقة ببطء عاطل، تسيرُ على أرصفة الميناء بحذاءِ مهترئ، حتى تصل الشاطئ الرملي، تنزلُ بقشتها من على ظهرها المحدودب، ترمي صدفاً، يعلوه رمل البحر على منديلها الزهري المزين بقلوب حمراء زهرية، ينقلب بعض الصدف للأعلى والبعض الآخر ينقلب للأسفل تنظر للمارين، يقتربون منها بفضول، تشدُ رجلاً من طرف ثوبه: تعال أبيعك اسماً.
تجره زوجته، تهمس: مجنونة، دعنا نبتعد عنها، متى نتخلص من أمثالها؟!
ضحكة ساخرة تفتر عن شفتيهما.
تنظر العجوز للمارين منتظرة زبوناً لبضاعة كاسدة، تجاعيد وجهها نافرة، تشير لجوعها وجراحها وفقرها. تنادي بصوت عالٍ مشروخ:
- اشترِ اسماً، وارمِ اسمك القديم في البحر.
يردُ مارٌ بها:
- ماذا أفعل باسمي؟!
- ارمِهِ في البحر، وخذ اسماً طازجاً.
تقتربُ شابة في العشرين من العمر، مبتسمة:
- هاتِ اسماً يا حجة.
تنبسط أسارير العجوز: خذي المحارة، وشوشيها، ثم رديها لي.
توشوش الشابة الصدف، بينما تدغدغ ابتسامتها بحلم زهري يعرفنه الفتيات. تمسك العجوز بيد الشابة، وتنفث في الصدف، ثم تضعه في كف الشابة، وتغلق كفها عليه، وهي تتقد حماساً. ثم تهمس لها:
- هاكِ، اسمكِ الجديد: نجمة.
- ماذا عن اسمي القديم؟!
تعبس العجوز، تزم شفتيها، تصمت قليلاً، تتنهد قائلة:
- لقد رميته في البحر. ابتلعه حوت أرسله الله، ثم زحف بعيداً، لم يكن اسمك قط، لقد ألصقوه بك، كتهمة لا تعنيك بشيء. هيّا خذي اسمك الجديد فهو قدرك الأجمل..
تشعر الفتاة بأن بداخلها شيئاً ما تبدل، كأنما لمستها عصا جنية، تغلق يديها بإحكام، تقبض على طالعها الجديد، تمد يدها وتعطي العجوز درهماً أو درهمين، وتمضي.
- اشترِ اسماً، وارمِ اسمك في البحر.
يراقبها مسنٌّ، يرتدي بزة راقية، يخرج ساعة ذهبية من جيبه، يقترب منها، يتأمل وجهها والصدف والمنديل، بينما هي ترتب الصدف، تضع النجمة في منتصف الدائرة، يسألها: هل تبيعين لي اسماً يجلب الحظ؟
تدور نظراتها بين هندامه وهندامها، تبتسم كعارفة بمذهب الحظوظ والسعادة للبشر: هل تجرؤ على رمي اسمك؟
- لو ضمنتِ لي الحظ.
- سأضمن لك الحظ لو صدقتني، ليس وأنت تشكّ ببضاعتي.
- أي بضاعة، أنتِ تبيعين الوهم للمارة.
- المارة تائهون، رموا أسماءهم لأنهم متعبون، أثقلتهم وكسرت ظهورهم، تخففوا منها ليعيشوا، أما أنت فتبدو سابحاً في أبهة الغنى.
لا يروق له ما يسمعه، يبادر بالذهاب، بينما ترتب الصدف، لا تحرك ساكناً، ما هي إلا دقائق معدودة ويعود إليها..
- سوف اشتري اسمين.. وسوف أعطيك خمسة دراهم لكل اسم منهما.
- هو اسم واحد لا أكثر..
يفتح عينيه وهو يحدث نفسه (من أين لها هذه الوقاحة؟!)، تعطيه صدفة صغيرة متعرجة، خشنة الملمس، يمسك بالصدفة كمن يتعلق بقشة، يوشوش الودع كطفل بريء، يعيدها لها.
- هاك اسمك، اقترب.
توشوشه باسمه، يتهلل وجهه فرحاً، يدخل يديه في جيبه ويرمي لها بالكثير من الدراهم، وهي تتابع فرحته برضا العارف بالسعادة، تجمع ما منحها، تلف المنديل، تسجد شكراً لله، تقبل الأرض، وفي الأزقة من حيث جاءت، تتهادى، ثم تختفي.

ذو صلة