لا يتذكر آخر مرة تصفح فيها ألبوم الصور، حتى أنه نسي أين وضعه، بعد أن حالت الظروف دون استمرار متابعة هوايته، كان يمارسها، كإحدى الرغبات التي داعبت خياله المرهف في صباه، فكان يلتقط أدق التفاصيل ويحفظها، حتى أصبح لديه تاريخ مصور، يحثه على الكتابة، لكنه ظل أميناً لحلمه.
تردد، قبل أن تمسك أصابعه مقبض الباب، وبملامستها له، شعر بقشعريرة اجتاحت كيانه. انتظر برهة ليهدأ جسده، ثم فتح الخزانة، لفحته رائحة (اسفنيك) يكرهها، مد يده في أكثر من مكان ولما عثر عليه، جلس على سرير قريب من دولاب الملابس، واضعاً زمنه المنصرم وأحداثه في حضنه. كانت كفه اليمنى مستقرة على الغلاف، يدق إبهامه على حافته الحادة، بنقرات خفيفة.
في أول صفحة، استقرت صورة الكاميرا، بحجمها المربع وواجهتها ذات العيون الثلاث، اثنتان في الأعلى، تجلسان على نهايتي مربع أسود، والثالثة في المنتصف أكبر من الأخريين، أما السطح العلوي فتضمن شاشة لمعاينة الشيء المصور، بقربها زر الالتقاط. كانت ملازمة له، تحتفظ بمكانها في حقيبته. صور فيها كل ما مر به. رصد الموت في أوضاع مختلفة، ولاحق ما يخلفه على الأشياء والبشر، لكنها الآن ليست سوى صورة يغطيها غلاف شفاف من النايلون.
أهم ما ضبطته عدستها، في صباح شتوي، كان قد أنهى نوبته في الحراسة ودخل الموضع ليحظى بقسط من الراحة، وعلى الرغم من تعبه وانحلال جسده، إلا أنه لم ينم، فقد سرقت الجرذان لذة النوم من عينيه، ولعجزه عن إيجاد حل لها، وضع قطناً في أذنيه لعل ذلك يساعده في الحصول على إغفاءة ما، انقطعت بأصوات صراخ، حملته على النهوض مسرعاً، كان أحد زملائه يسحب جسداً من الممر، طرحه أرضاً، ثم وضعه على ظهره، لحق بهما رافعاً الرجل المهشمة إلى الأعلى، بعد أن ربطها من منتصف الفخذ.
عند مقر السرية وضعاه على نقالة، وانطلقا به في رحلة شاقة بين حدين: حافة الممر الغارقة للسطح بالماء، وسياج حقل الموت المسور، مسافة لا تتعدى نصف المتر، أرضها رطبة زلقة، بفضل الأمطار التي هطلت ثلاثة أيام متتالية، ملأت الممرات والمواضع بالمياه والألغام، وجه آخر يتربص بالجسد البشري، أما باتراً أو مطفئاً. فلا مفر من الأمر، أقدامهما تخمش وجه الأرض المائع، وتثبت بصعوبة، يقع أحدهما كل متر أو مترين، يتبرم، لكن الصوت الناز ألماً ينهضه، فهو خارج من نقطة معتمة في أعماق الروح، يستحث ما بداخلهما من عاطفة.
أصبحا قطعة من طين. في منتصف المسافة، أوقفتهما لجنة الإعدامات، فتشوهما ثم أجروا مكالمة هاتفية، ممتزجة بالأنين وغضب الدم المتدفق، ولأنهم عاجزون عن الإصغاء لاستغاثات الوجع البشري، فقد اجتازاهما عنوة غير مبالين بالنتائج، وأصواتهم المتعالية خلفهما تردد نشيداً خاوياً. كنا أشبه بمجنونين، يسقطان وينهضان والأنين يعلو ويخفت، راسماً في ضوء الفجر: ثلاثة أشباح تطفو هياكلهم فوق مياه الممرات وحقول الألغام.
وضعاه في سيارة الإسعاف، وانطلقت مسرعة.
غادرتْ عيناه الصورة إلى صور أُخرى، فهو في استحضار ماضيه لا يود سوى مراجعة هذا القسم منه، مقلباً صفحات الطفولة والشباب وما تبعها في الحاضر، شعوراً منه، بأن حياته هُدرت هناك، وتمكن بآلته من رصدها، مدناً وصحاري ووجوهاً خائفة، لائذة، كوجه المعلم الذي بُترَت ساقاه. كان فرحاً لعقد قرانه. تشتعل عيناه بسعادة غامرة، لا تسعها الصحراء، كآس مترعة بالحب راحَ ينثرُ حبيباتها البنفسجية في الفضاء، مصابيح بهجة وجيشان، أضاءت ليلنا، وعلاقتنا بالمكان، قطعة معزولة تشع فرحاً، كل شيء فيها: البطانيات العتيقة التي نجلس عليها، إبريق الشاي وأقداحه، عيوننا وهي تعزف أغنية مؤثرة للحياة، حباتُ الرمل التي تهمي على وجوهنا إثر نسمة عنيفة.
لفرحنا كل الموجودات مبتهجة، لها طعم آخر، نكاتنا، قصصنا، أغانينا، ضحكاتنا، ملابسنا وكأنها بدتْ مختلفة، كنا نوهم أنفسنا ونحاول إطالة الفرح، حتى نبعد مجيء الفجر، لكنه داهمنا، وبدأنا نشعر بمغادرة لحظات الليل المتوهجة بالحب والأمنيات، وافتضحت هيئاتنا بالضوء الماسي، وكأن شيئاً لم يحدث، حمل سلاحه بيده، ومعه كل ما حلم به أو تمناه، وشق طريقه موغلاً في متاهة الحقل بأسلاكه الشائكة.
كان يروم الوصول إلى مكان ما، عندما اقترب منه، هبط ببطء، ثم توقف ناظراً أسفل قدميه، تطلع إلى جهات عدة، وصوب نظرة طويلة نحو السماء، وتخيل أنه بعد لحظات سيكون وجوداً معلقاً بين أرض وسماء، فعزم على قطع الخيط الفاصل بينهما، رافعاً قدمه اليسرى، ليحرر الكائن المخبوء تحتها، بظهوره اختل توازنه، سقط على عجيزته صارخاً. كانت عيوننا تحرسه. ردد الهواء صوته الملفوف بثياب الصحراء:
لو كنت ميتاً وسكت، لكنه سقى بدمه صورة الحلم، لتتغذى عبر خيطها حياة أخرى.
استمرت يده تحاور تأريخاً حدد مصائر أفراده، مرت في ذهنه ابتسامة البدوي جازع، رافعاً إصبعه في لحظة يأس أو تحد، استجابة غير معقولة، اغتنمها الآخرون تنفيذاً لأوامر عليا، لم يسأله أحد عن جريمته، وماذا فعل، هو الذي احتفظ بسجله العسكري نظيفاً، دون أن يترصع بسواد أفقه الخالي من اخضرار يحفز روحه على المضي، إثر إيقاف تدفق صور الموت والانفجارات والدخان المتصاعد والأسلاك الشائكة وسيطرات الإعدام وخطوط المواصلات الملأى بالمياه والألغام أثناء المطر والقصف ورصاصات الفجر الأولى وسيارة القصعة والحيوانات المعلبة في المواضع والمراصد وخلف المدافع والدبابات والرشاشات، معلناً عدم إعادة وقوعها أو تخيلها، فارتضى الوقوف قبالة بنادقهم، رافضاً تغطية عينيه أو ربط يديه، كانت نظراته تتحدى الفوهات، كتم صرخة حين دوت، وببطء شديد أغلقهما على حياة لا يجب أن تتكرر.
ألقى الألبوم بعيداً، وفكر في حرق حياة وحكايات وقصص القسم الثالث منه، لكن هل يتمكن من إمحاء ذلك التاريخ من ذاكرته؟