مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

الوقع الانفعالي لموسيقى ألعاب الفيديو

(العب براحتك بس من غير صوت) لطالما سمعنا هذا التوجيه بصوت حازم في لين، وربما في بعض الأحيان من غير لين، من أم أو أب أو من وقعت في جعبته مسؤوليتنا ونحن أطفال. وربما لخص هذا التوجيه إشكالية مزمنة بين حساسية أعوام التكوين الطفولي مقابل شمولية الخبرة الحياتية وبخاصة أثناء اللعب، الأمر الذي كان محل الدراسة السيكولوجية والفنية منذ إرساء أساسيات علم النفس الإدراكي وحتى كتابات ريتشارد فاجنر عن العمل الفني الشامل.
في البدايات المبكرة لألعاب الفيديو لم يكن للصوت نصيب كبير من الاهتمام وربما رجع ذلك لمحدودية التقنية والتصنيع في ذاك الوقت ولكن مع تطور الصناعة وبخاصة صناعة الرقائق متناهية الصغر بحلول نهاية السبعينات بدأ الجيل الأول من ألعاب الفيديو في استخدام الصوت والموسيقى بشكل أكثر شمولية.
وكانت هذه الشمولية تهدف لمبدأين أساسيين، هما: الاستمرارية والتفاعلية، وبشكل أو بآخر هما حجرا زاوية في التأثير السيكولوجي بالمقام الأول قبل أي مقولة فنية أو إبداعية تنطلي على تفعيلهما من الأساس. بل وربما مثل النص الموسيقي (البدائي) أحد أهم مبادئ علم النفس وهو التعزيز حيث يتمثل النص الموسيقي في أربع نغمات تتوالى بإيقاع محدد يزداد في التسارع كلما تقدم اللاعب في مراحل اللعبة مع تزايد سرعة هجمات الأعداء.
وفي هذه المرحلة يبدأ التكوين الحقيقي لنموذج مهم جداً في رؤيتنا لألعاب الفيديو كنموذج مهم وفعال للتواصل يعتمد في غرابة وبلاغة تدللان على طفولية النفس البشرية ورغبتها الجامحة في اللعب كشكل من أشكال الحلم على التمادي في قاعدة أساسية عتيقة في نظريات التواصل وهي النموذج التلغرافي في التواصل الذي يعتمد في أحد أساسياته على الإيهام بالحقيقة؛ حيث يخلق تكامل الصورة والصوت إيهاماً كاملاً بواقع موازٍ بشكل أو بآخر، وربما تمثل هذه اللحظة إرهاصاً مهماً لتسلط وتغول الهواتف الذكية على إدراكنا بالواقع الآن، فبشكل أو بآخر نحن (نلعب) في الجزء الأعظم من كل 24 ساعة يومياً.
وجدير بالذكر أنه بالرغم من الفقر الشكلاني للأصوات المبكرة في هذه المرحلة نظراً للحدود التكنولوجية لهذه الفترة، حيث كان هذا الفقر اضطرارياً وليس اختيارياً، إلا أنه كان فعالاً وأصبح الآن بشكل أو بآخر شكلاً نوستالجياً من الإبداع، وهذا يعود بنا للسؤال الأزلي عن كيفية تلقي العمل الفني أياً كان شكله أو مضمونه!
وكتابة النص الموسيقي لألعاب الفيديو عادة تنطلق من عدة مسلمات كالتالي:
- موسيقى المكان:
يخاطب النص الموسيقي هنا إدراك اللاعب بأبجديات ومفردات المكان، بل وطابع المدن والشوارع المتضمنة داخل اللعبة كذا النسق الانفعالي للاعب داخل مكان ما.
وأثناء عملية تأليف وتنسيق نص موسيقي وصوتي بهذه الكيفية يتحتم علينا الإجابة عن أسئلة أساسية، هل هذا المكان آمن أم خطر؟ هل من الممكن دخوله مباشرة أم يتحتم على اللاعب المرور بمرحلة أو اختبار ما كي يتسنى له الدخول؟ هل ندخل لهذا المكان مرة واحدة أم عدة مرات؟ ولو كان من الممكن الرجوع لهذا المكان هل سيبقى بنفس الطابع أم سيتغير؟ هل للمكان أي طابع مميز معمارياً أو تاريخياً على سبيل المثال؟
وربما كان هذا المبدأ بالتحديد أحد تجليات تفرد وتميز الذاكرة الحسية للجنس البشري وبالأخص الذاكرة الحسية السمعية حيث من اليسير على العقل البشري استقبال أكثر من مثير بل ومن الممكن بناء كيان ديناميكي من هذه الأصوات وفقاً لطبيعة الأصوات شكلاً ومضموناً.
- موسيقى الشخصية:
سيكولوجياً عادة ما نتقمص -بشكل أوتوماتيكي في الأغلب- شخصية البطل أو المحرك الأساسي للأحداث في سياق اللعب، وبالرغم من ذلك فهذه الشخصية ليست بالكيان المصمت المنتظر لنا كي نحتله، ولكن بالأحرى فهي شخصية لها مقوماتها وانفعالاتها الخاصة، وهي فقط تسمح لنا برؤية العالم من خلال أفكارها، معتقاداتها، بل وانفعالاتها التي قد تتعارض أحياناً مع أفكارنا، معتقاداتنا وانفعالاتنا، وبالتالي فالنص الموسيقي هنا يتماهى مع الشخصية ويجبرنا بشكل أو بآخر أن نكمل الدائرة ونتماهى مع الشخصية بدورنا ونعترف بأبجديات هذا العالم الجديد.
ويخاطب هذا النوع من النص الموسيقي ميكانزيم الذاكرة الماورائية والتي أحياناً تصل لدرجة من درجات التلاعب الحسي بنا وبما نعرفه عن أنفسنا في المواقف العملية ولحظات التعلم وبخاصة أثناء إدراكنا بأنفسنا كشخص ما! في سلسلة من الأماكن حيث نتبنى أنماطاً سلوكية جديدة ولكنها فعالة في سلسلة جديدة من المواقف، وبالتالي لا عجب أن ألعاب الفيديو هي أحد أهم وأخطر وسائل التدريب لقوات البحرية الأمريكية! حيث تؤدي العملية بأسرها لتحفيز لا نهائي بالقدرة على التصور العقلي لينتهي الحال باللاعب في خضم بحر متلاطم الأمواج من الترابطات السيكولوجية المبنية على إشارات ودلالات اللغة والتفسير والرموز الحسية، بالأحرى كمثال حي نابض لتطبيقات علم العلامات والسلوك البشري، وبالتالي لا عجب ثانية من هذا التأثير الجارف لألعاب الفيديو على الأعمار الصغيرة وسهولة إدمانها وتأثيرها على جذور السلوك البشري بل وتحولها لملاذ آمن للكثير وكونها ديانة ثقافية بشكل أو بآخر.
- موسيقى ممارسة اللعبة:
وهي الطريقة المستخدمة للتأكيد على تفاعلية الموقف بين اللعبة واللاعب، فبحسب الموقف أو الحدث تتخذ الموسيقى ثوباً جديداً. كما يتوجب على النص الموسيقي هنا اتخاذ شكل تلقيني حيث يساعد النص الموسيقي اللاعب على وجوب اتخاذ قرار ما، النجاح أو الفشل في إجراء ما أو الانتقال لمرحلة جديدة من اللعبة. وهنا يتحتم علينا النظر لعملية الانتباه على أنها عملية شعورية بالمقام الأول قبل كونها عملية تنفيذية أو على الأقل محفزاً للتنفيذ.

ذو صلة