مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

تشكيل ثقافات شبابية جديدة

صباح يوم 19 أكتوبر من عام 1972، وفي مختبر صغير بجامعة ستانفورد، وقف ستيوارت براند (Stewart Brand)، الناشط الشاب في مجال التكنولوجيا والثقافة أمام مجموعة من الطلبة المتحمسين للمشاركة في أول بطولة رسمية للعبة الفيديو (حرب الفضاء) (Spacewar). ولم يكن أحد من الحاضرين ومنهم ستيوارت يتخيل أن هذه التظاهرة البسيطة، التي سيفوز المنتصر فيها باشتراك سنوي في مجلة (Rolling Stone)، ستكون الشرارة الأولى لعالم كامل من الرياضات الإلكترونية (ESports). والآن يمكننا أن ننظر إلى تلك البطولة على أنها لم تكن مجرد منافسة بين مهارات مجموعة من الطلبة في لعبة رقمية بدائية، بل كانت بمثابة غزو نحو مستقبل جديد، حيث تحولت الألعاب الإلكترونية من مجرد ترفيه فردي مؤقت إلى صناعة كاملة متكاملة الأركان، وما بدأ فكرة في ذهن براند تبيّن أنها قد حملت في جوفها ملامح تحولات تقنية ورياضية ضخمة ستكون لها انعكاسات اقتصادية ونفسية وثقافية غير مسبوقة.
إنها ليست مجرد رياضات إلكترونية
بعد مرور خمسة عقود من بطولة (حرب الفضاء)؛ تم ما بين يوليو وأغسطس الماضيين، تنظيم أضخم مسابقة للألعاب الإلكترونية في التاريخ، متمثلة في بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية في بوليفارد رياض سيتي بالسعودية. ويُعد هذا الحدث مفصلياً ومنعطفاً محورياً في هذا المجال، إذ وصل مجموع جوائزها إلى 60 مليون دولار، وهو ما يعكس بوضوح الحجم الهائل الذي بلغته هذه الرياضات على الساحة العالمية. هذا الرقم الضخم لم يكن مجرد قيمة مالية فحسب؛ بل إنه عكس مدى الجاذبية المتزايدة لهذه الرياضات الإلكترونية بين الجماهير والمؤسسات الكبرى، حيث باتت تُنافس الرياضات التقليدية، من حيث حجم الجماهير والتغطية الإعلامية والإقبال التجاري. إن تحويل الرياضات الإلكترونية إلى مجالات ذات استثمارات كبيرة تحت رعاية شركات ضخمة يؤكد أن هذه الصناعة لم تعد مجرد نشاط ترفيهي؛ بل إنها تحيل إلى أننا نسير بخطى حثيثة نحو تشكُّل ثقافة جديدة بدأت ملامحها تظهر للعيان.
تتجلى ملامح هذه الثقافة الجديدة التي تدمج بين عناصر التقنية الحديثة والمنافسة الرياضية التقليدية. من خلال كيفية تفاعل الأفراد مع/وداخل الألعاب الرقمية، حيث يتمكن اللاعبون والمشجعون من الانخراط في تجارب تفاعلية تتيح لهم التواصل والتعاون في بيئات افتراضية. هذا المزيج بين التكنولوجيا والتنافس الرياضي يعكس تحولاً جذرياً في كيفية فهم الرياضة، حيث لم يعد اللعب مقتصراً على الملعب المادي الفيزيقي بل انتقل إلى فضاءات رقمية تتجاوز الحدود الجغرافية. علاوة على ذلك، تسهم هذه الثقافة الجديدة في إعادة تعريف مفهوم الهوية والانتماء، حيث يبدأ اللاعبون في تطوير هويات جديدة تتعلق بالمنصات الرقمية والألعاب التي يمارسونها، ليعترف بهم جزءاً من مجتمع أكبر يتجاوز الممارسات الرياضية التقليدية. وإذ نجد أن الروح التنافسية السائدة في الرياضات التقليدية مستمرة في الإمساك بالعمود الفقري للرياضات الإلكترونية، فإنها من خلال هذه الأخيرة ستتعزز بشكل مكثف أكثر، مما سيشجع على استكشاف وتطوير مفاهيم مثل المهارات الرقمية، الإستراتيجية، والتفكير النقدي، والتي تعتبر أساسية في العالم الرقمي المتسارع اليوم. وهو ما سيوفر في مرحلة ثانية فضاءات تسمح للأفراد بالتعبير عن أنفسهم بطرق متعددة وغير تقليدية.
في هذا السياق، يتاح للاعبين فرصة استكشاف جوانب متنوعة من شخصياتهم، مما يعزز من قدرتهم على تشكيل هويات جديدة تتناسب مع اهتماماتهم وألعابهم المفضلة، وبدلاً من أن تكون الهوية مرتبطة بمكان جغرافي أو تقليدي، تصبح الهوية الرقمية قائمة على المهارات، والتفاعلات، والانتماء إلى مجتمعات معينة داخل العالم الافتراضي. هذه الديناميكية تؤدي إلى ظهور هويات جماعية تتشكل حول الألعاب والفرق، مما يؤدي إلى تطور رموز وقيم جديدة تعزز من مشاعر الانتماء إلى تلك العوالم. هذه الممارسات تمتد إلى بناء علاقات افتراضية قوية بين اللاعبين، حيث يتواصلون ويتعاونون لتحقيق أهداف مشتركة، أو حتى يتنافسون بشراسة، مما يعزز من الروابط الافتراضية التي قد تكون أحياناً أقوى من العلاقات الاجتماعية التقليدية. وفي النهاية، نجد أن الرياضات الإلكترونية تسهم في خلق مساحة جديدة يتفاعل فيها اللاعبون مع مفاهيم مثل القوة والسيطرة، وفي الوقت ذاته يعيدون تعريف القيم الاجتماعية التقليدية في ضوء ثقافة افتراضية معقدة.
ثقافات تتشكل خارج الألعاب
إن الدلالات الرئيسة للانعكاسات الثقافية للرياضات الإلكترونية قد توسعت بشكل متزايد لتلامس مجالات أبعد مما يحدث داخل الألعاب أو حتى تلك التي ترتبط بالفاعلين الفعليين الذين تقوم عليهم هذه الرياضة. فقد وصلت لتتمظهر في أحدث الاتجاهات التكنولوجية والموسيقية وفي الأزياء والترفيه، وكيف تتفاعل الرياضات الإلكترونية مع الثقافة الشعبية بشكل عام.
فقد أدى صعود الرياضات الإلكترونية إلى إحداث تحولات جوهرية مثلاً في الصناعة السينمائية والدرامية، سواء من خلال الموضوعات التي تطرحها أو التقنيات التي تعتمدها، إذ أصبحت الألعاب نفسها مصدر إلهام قوي لقصص الأفلام والمسلسلات. مثل أفلام (Assassin's Creed) و(Warcraft)، وكذلك مسلسل (The Witcher)، وقد وصل المسلسل التلفزيوني المتحرك Arcane (المستند إلى لعبة League of Legends من RIOT Games) إلى المركز الأول على (Netflix) في 50 دولة. بل قد امتد التأثير حتى إلى أسلوب السرد المعتمد في الأفلام الحديثة والمستلهم من الألعاب الإلكترونية مثلما هو شأن أسلوب تعدد المسارات أو النتائج بناء على قرارات الشخصيات.
ومن دلالات هذا التوسع الثقافي أيضاً الاندماج الذي حدث بين مجالين كان يُعتقد إلى وقت قريب أنهما منفصلان تماماً: الموضة والرياضات الإلكترونية، ومثال ذلك، الشراكة التي أعلنت عنها شركة الأزياء الشهيرة (ASOS) مع علامة الرياضات الإلكترونية (Fnatic). ولا تُعتبر هذه الشراكة مجرد تعاون تسويقي، بل إنها تعكس تحولات أعمق في فهم كيفية تشكل الهويات الثقافية في العصر الرقمي، حيث أصبحت الألعاب الإلكترونية والأزياء تعبران عن هوية شبابية جديدة تتفاعل مع التكنولوجيا والاتجاهات الحديثة بشكل متزايد.

ذو صلة