مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

طقوس تراثية رمضانية في دمشق انقرض بعضها ويعاد إحياؤها من جديد في شهر رمضان المبارك

يستقبل المسلمون في دمشق شهر رمضان المبارك شهر الصيام كل عام بمجموعة من المظاهر الاحتفالية والعادات والتقاليد المتوارثة منذ قرون، وعلى الرغم من غياب العديد من هذه المظاهر الاحتفالية والفعاليات التراثية الرمضانية إلا أن هناك العديد من المهتمين بالتراث والعاملين به يحاولون إعادة إحيائها وتنشيطها وبخاصة في أمسيات الشهر الفضيل، ومن هذه المظاهر (مسرح خيال الظل وكراكوز وعيواظ والحكواتي في المقاهي: فالحكواتي وخيال الظل مسرحان تراثيان في الأول يظهر الممثل مباشرة أمام الجمهور ليقص عليهم حكايا تراث عبلة وعنترة وقصص صلاح الدين وغيرها، وفي الثاني فن إيمائي يستخدم الممثل الإيماء والألعاب التراثية بصوته ويحركها بيده من خلف الستار الشفاف أمام الجمهور) وهناك فرق العراضة الشامية، وبعض المهن التي لا تظهر إلا في شهر رمضان.
خيال الظل والعراضة الشامية
تبدأ فرق (العراضة الشامية) التراثية بالتحضير لاستقبال شهر الصيام حيث يزداد الطلب عليها في الأماسي والخيم الرمضانية، فتقوم بتجهيز العديد من الفقرات الاستعراضية وألعاب السيف والترس والأهازيج الخاصة بشهر رمضان ومنها أهزوجة (هل هلالك رمضان) التي يرددون بها:
رمضان زمان البركات
رمضان زمان الحسنات
رمضان مجال صلواتي
ومن المظاهر الاحتفائية والفعاليات التي كان الدمشقيون حريصين على تواجدها في أيام شهر رمضان هناك (مسرح خيال الظل) الذي كانت عروضه تقام في المقاهي وتوجه بشكل خاص للأطفال، وقد كان هذا المسرح التراثي مهدداً بالانقراض في العقود الماضية حيث تمّ إحياؤه من جديد من قبل بعض الشباب المهتمين بالتراث، كما قامت المنظمة الدولية للثقافة والعلوم (اليونيسكو) قبل سبع سنوات بتسجيله ضمن قائمة التراث الشفوي اللامادي الواجب حمايته، ومن الشباب الذين أعادوا إحياءه هناك (شادي الحلاق) الذي تحدّث عن مفردات وتقنيات هذا المسرح التراثي قائلاً: إن أسلوب تقديم هذا الفن يعتمد على قماش خام وبخلفه مصباح كاز وحالياً نستخدم مصباحاً كهربائياً لإظهار الألوان ويسمى (مسرح خيال الظل) حيث يكون الخيال ملوناً والظل هنا هو الأثر الذي يتركه عند الإنسان وبالتالي استخدام الدمى بشكل رمزي لتقديم النصائح للناس أو تقديم الفكاهة للمشاهدين الذين يخرجون من العرض سعيدين، وشخصية كراكوز، وهي باللغة التركية (صاحب العين السوداء الكبيرة) عبارة عن إنسان شعبي بسيط غير متعلم وأحياناً يتلعثم بالكلام بينما عيواظ يقوم بوعظه ولكن هو أول من يقع في الخطأ في مفارقة ساخرة وناقدة ومعبرة، وكانا في نهاية كل عرض لهما يخرجان متخاصمين، ويعتمد مسرح خيال الظل على خامات من الجلد الشفاف تتلون وتُقدَّم من خلالها العروض الفنية. يتابع شادي: إن فناني خيال الظل الذين يسمون (المخايلين) كانوا يكتبون بلغة مرمزة خاصة بهم حيث تتضمن إضافات لا يعرفها سواهم (وهناك فرق ما بين الكراكوزي الذي يتميز بخياله الواسع وما بين المخايلاتي الذي يبدأ من الصفر حيث يقوم بنفسه بتصنيع الجلد وتصنيع الشخصيات ويلونها ويحدد الأسلوب الذي يتكلم بها من خلال الدمية التي يحركها فلكل دمية أسلوب ولغة خاصة بها، ولذلك يؤدي الكراكوزي الفقرة كما يقدمها له المخايل فهو مساعد له). وعن أدوات هذا الفن التراثي قال شادي: (جميع الأدوات هنا تُحَضَّرْ بشكل يدوي حيث نستخدم أدوات بدائية لقص الجلد ومخرز لتثقيب الجلد بشكل يدوي، وخلال عملي منذ عام 1993 في إعادة إحياء هذا الفن أستطيع تحريك 12 شخصية بنفس الوقت، ست شخصيات بكل يد من دمى كراكوز وعيواظ، وكل شخصية أحركها من خلال عودين قصب، واحدة تمسك الجسم والثانية تمسك حركات اليد والأدوات المرافقة).
من ذكريات الأدباء والكتّاب عن مسرح خيال الظل يروي الأديب والكاتب الراحل فخري البارودي في مذكراته: (إنّ خيمة خيال الظل كانت منتشرة في دمشق أوائل القرن العشرين إلى جانب المقاهي، وتعرف باسم قهوة الكراكوز وهي طليعة فن السينما في بلادنا حيث كان مدير خيمة الكراكوز يضع في صدر المقهى ستارة من قماش في وسطها قطعة مدورة من الخام الأبيض في أسفلها رف من خشب يُنَارْ بزيت الزيتون حيث يقف الرجل المخايل خلف الستارة ممسكاً عصاً رفيعةً يحرك بها دمى من الجلد إذا ظهرت على الشاشة ظهر خيالها مجسماً من عكس النور عليها من الخلف).
الحكواتي والمولوية وليالي شهر رمضان
من التقاليد الرمضانية التي ما زالت قائمة ولو بشكلها التراثي في عدد من المقاهي الدمشقية هناك (الحكواتي) حيث يؤم الصائمين وبعد انتهاء فترة الإفطار وحتى ما قبل السحور المقاهي الدمشقية وبخاصة تلك الموجودة في الحارات الدمشقية القديمة كالعمارة والميدان والقيمرية ليحضروا فقرة (الحكواتي) كشكل من أشكال التسلية التراثية في أماسي رمضان، وما زال العديد من الحكواتية يمارسونها حيث يتم طلبهم من قبل بعض المقاهي لتقديم فقراتهم وعادة هؤلاء يكون لديهم أعمال أخرى فينتظرون شهر رمضان لتتم دعوتهم من أصحاب المقاهي وكذلك كان الطلب عليهم في أشهر الصيف لتقديم فقرات الحكواتي أمام سيّاح دمشق الغربيين الذين تستهويهم هذه المظاهر التراثية. وتستغرق عادة فقرة الحكواتي ساعتين وهو يجلس في صدر المقهى على كرسي عالٍ تراثي وبيده سيف تراثي وأمامه مخطوط قديم يقرأ منه القصص الحماسية حيث يقص على الحاضرين حكايات الظاهر بيبرس وبطولات عنترة وأبو زيد الهلالي فيشعل الحماس لدى الحاضرين من خلال تقمصه لأبطال قصصه بحركات يديه ورجليه وبواسطة السيف الذي يرافقه.
هناك أيضاً فرق الإنشاد الديني وفرق (المولوية) التي يكون أعضاء هذه الفرق غالباً من الهواة الذين ينتسبون لهذه الفرق لممارسة هذا الطقس التراثي الصوفي القديم حيث يزداد الطلب على هذه الفرق في ليالي شهر رمضان لتقديم فقراتهم في المطاعم والمقاهي والمراكز الثقافية. إحدى الباحثات في الموسيقى الصوفية والإنشاد الديني ورقصة المولوية وهي زينب الحليم شحادة، تحدثت في أكثر من مناسبة عن المولوية في سوريا قائلة: تسمى المولوية في سوريا (فتلة الدراويش) وهي مزيج من الشعر والحركة والفلسفة، وهي ذات معان ودلالات حيث يبدؤون حفلتهم بغناء وتواشيح تقليدية ثم ينفخ بالناي لوناً من التقاسيم يقف عندها الراقصون ويبدؤون السير خطوة خطوة في دورة ثلاثية حول الباحة، ثم يتوقفون على شكل دائري وينحنون في تحية وتسليم لشيخهم ثم يعودون على نغمات الموسيقى إلى حلقتهم الدائرية وقد رفعوا أذرعتهم وضموها إلى صدرهم بينما الأكف تستند على الأكتاف والرؤوس منحنية إلى الأمام ثم يدورون حول أنفسهم ببطء وتهبط أكفهم على الأكتاف ثم تمتد أذرعهم أفقياً بالتدريج وحسب نغمات الموسيقى وخلال الحركة الدائرية ترتفع اليد اليمنى مع تحريك الجذع الأعلى بينما تنخفض اليد اليسرى إلى الجانب الآخر مع حركة الكتف، وهذه الحركات تعني أن كل شيء في الكون في حركة دائمة. ويدور كل من الدراويش حول نفسه دورة ذاتية خلال دورانه مع الحلقة وهو يستند على أصابع إحدى قدميه وهي ثابتة على الأرض بينما القدم الأخرى تدور مع دوران الجسم ويخفض الدراويش أبصارهم خلال الأداء بينما ينحني الرأس ناحية الكتف وعند الإسراع في الحركة الدائرية تدور أرديتهم وتنفتح من تحت الخصر على شكل مظلّة مفتوحة إلى أسفل وعندما يعطي قائدهم إشارة النهاية أثناء العزف تخف الحركة تدريجياً ويتوقف الراقصون في وقت واحد. وهذه الدورات تقول الباحثة الحكيم تمثل في عددها تعاقب الفصول الأربعة بينما الرقصات تمثل الحركة الكونية الفلكية لدوران الأرض حول محورها ودوران الشمس وهم يترنمون بحمد لله تعالى.
مهن دمشقية لا تظهر إلا في رمضان
من مفردات شهر الصيام في رمضان هو انتشار بعض المهن التي لا تظهر إلا به من خلال عدد من أشخاص يعملون على إحيائها في رمضان لطلب الصائمين عليها ولكونها تدرّ عليهم دخلاً مادياً مقبولاً، ومن هذه المهن: إعداد الزينة الرمضانية من لمبات إضاءة وكتابات ورسومات على البسط التراثية لتعليقها في المقاهي والمطاعم احتفاء بقدوم شهر الصيام، وكذلك هناك بعض المشروبات والأطعمة الخاصة بشهر الصيام ويحضّرها مختصون وبائعون لا يظهرون إلا في شهر رمضان حيث يعرضونها في محلاتهم أو على بسطات في شوارع دمشق ليشتريها الصائمون يومياً وهم في طريقهم إلى منازلهم قبل اقتراب موعد الإفطار ومن هذه المواد الغذائية الرمضانية: (الناعم) وهو نوع من المعجنات (خبز رقيق جداً) بشكل منتفخ وبسيط حيث ينتظر هؤلاء الباعة مجيء شهر رمضان ليصنعوه ويبيعوه مغلفاً بأكياس وينادون عليه عبارتهم الشهيرة: (يللي رماك الهوى يا ناعم) وهو من خفّته يشبهونه بنسمات الهواء. والناعم عبارة عن خبز مقلي بالزيت يرش عليه بعض من دبس العنب أو التمر المُذاب ليأخذ شكلاً ملوناً مع لون الدقيق الأساسي. ومن الحلويات أيضاً التي تظهر بكثافة في رمضان هناك (قمر الدين) المجفف والمصنّع من (المشمش الدمشقي). وعلى الرغم من وجوده مغلفاً ومعبأ في الأسواق حيث تنتجه بعض المعامل المتخصصة إلا أن العديد من العائلات الفقيرة تصنعه في المنازل وتبيعه بواسطة أبنائها على البسطات والعربات الجوالة وكذلك الحال بالنسبة للخشافات وبخاصة خشاف المشمش فهو شراب لذيذ يقبل عليه الدمشقيون في الشهر الفضيل ويباع بعبوات أو أكياس خاصة. كذلك هناك محضّرو (شراب العرقسوس) ينتظرون شهر رمضان ليبيعوه حيث هو شراب الصائمين الأول في رمضان إذ يخفف عن عطشهم في فترة الصيام ولذلك يتم تناوله مباشرة بعد إطلاق مدفع الإفطار، ويقوم العديد من الشباب الدمشقيين بتحضير هذا الشراب في منازلهم ومن ثم يبيعونه بأكياس نايلون بيضاء على العربات الجوالة، فهم يأتون بأعشاب وجذور العرقسوس مجففة ويطحنونها ويجهزونها حتى تختمر وينقّوها من الشوائب من خلال شاش أبيض ومن ثم تباع باردة.

ذو صلة