مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

وباء الحج والصراع السياسي

 

اجتاحت الأوبئة القاتلة والأمراض المعدية القاتلة الحجاز في كثير من مواسم الحج، غير أنه قد اشتدت وطأتها على وجه الخصوص في القرن التاسع عشر الميلادي. وفي هذا السياق تشير الدكتورة سلوى الغالبي في بحثها (وباء الكوليرا في الحجاز.. حج عام 1300هـ/ 1883م)؛ إلى ثمة صراع ظاهره إنساني وباطنه سياسي توسعي -ظهرت مطامحه وغاياته لاحقاً- نحو بسط النفوذ والسيطرة على موسم الحج، بين أقطاب القوة في العالم -الدولة العثمانية وبريطانيا وحلفائها الغرب.
ظهرت سمات ذلك الصراع جليةً من خلال استغلال تفشي الأوبئة في الحج أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ومحاولة الغرب، بقيادة بريطانيا التي أعملت أدواتها الاستخباراتية للتشكيك في قدرة الدولة العثمانية -رجل أوروبا المريض-؛ محاولة التدخل في إدارة الملف الصحي في الحج ومعالجة تداعيات ضعف الرعاية الطبية ومقاومة الأوبئة.
يؤرخ الشيخ الغازي، نقلاً عن تاج تواريخ البشر للحضراوي؛ لوقائع الوباء الذي اجتاح الحجاز سنة 1288هـ/1872م، ومات على إثره خلق كثير من أهل مكة وزوارها، وتلاه فرض الدولة العثمانية بعض الإجراءات الصحية لاحتواء الوباء، وكان من جملتها إنشاء كرنتينة بوادي الزاهر من أرض مكة المشرفة.
وفي عهد أمير مكة، الشريف عون الرفيق؛ عم الوباء أرجاء مكة المكرمة حتى امتلأت مقبرة الشبيكة عن آخرها، وكثر دفن شهداء الوباء من المكيين والزوار، ويذكر الغازي في تأريخه أن أهل الشبيكة قد رفعوا شكواهم إلى الشريف من رائحة الجثث، فأصدر أوامره بوقف الدفن فيها من تاريخه، وكان ذلك عام 1310هـ.
ونجد في مشعل المحمل لمحمد صادق باشا إشارات عن حضور حكيمين، أحدهما برتبة ميرالاي من مدرسة الطب بمصر والآخر حكيم جدة، وهما تابعان للحكومة المصرية، ليرافقا الحجاج، ثم أشار إلى كثرة (العفونات والوخامات) في منى، وانتشار رائحة الجيف جراء إلقاء الذبائح في العراء، ويذكر أن حاكم جدة كان يتحصل على نصف ريال لكل حاج في مقابل مصروفات (السانيتا) (الصحية) وردم الحفائر وإزالة (العفونات) بمنى. وفي السياق ذاته فرضت الدولة العثمانية آنذاك على كل بعثات الحج مرافقة طبيب مختص، في خطوة للعمل على حصار الأوبئة والأمراض المعدية.
وبعد أن تفشى وباء الكوليرا في العالم سنة 1883م؛ وجهت بريطانيا اتهامها لموسم الحج بأنه مصدر رئيس لانتشار الوباء في العالم، فاقترحت حينها إرسال بعثة أوروبية لتقصي حقيقة الأمر واستجلاء الوقائع بوصفها راعية لحجاج الهند، غير أن الدولة العثمانية رفضت رفضاً قاطعاً أي تدخل بريطاني أو أوروبي في موسم الحج. ولعل الباعث الأكبر خلف هذا الاقتراح الجريء كان الضغط على العثمانيين في خضم الحرب الباردة حينها بين الرجل المريض وأوروبا المتوثبة، فما كان من بريطانيا، بدهاء ساستها، إلا إرسال أعداد من المتسولين الهنود المعدمين بين أعداد حجاج الهند الكبيرة للإمعان في انتشار الوباء بين الحجاج في مكة، ومن ثم إيجاد مسوغ جديد للتدخل في شؤون الحج. وفي إجراء ماكر آخر، أرسلت بريطانيا جاسوساً من جدة ليحمل عينات من الماء الملوث إلى لندن بزعم أنه ماء زمزم المقدس لدى المسلمين في سبيل الادعاء بأن مكة هي مصدر الداء الفتاك.
قدم الفرنسي جول جرفيه كورتيلمون إلى مكة في 1894م، وهي السنة التي تلت تلك المأساة الإنسانية التي راح ضحيتها أكثر من 30,000 مسلم في مكة المكرمة جراء الوباء القاتل؛ متخفياً في شخصية مسلم يسمى (عبدالله بن البشير) ليقدم لنا كتابه (رحلتي إلى مكة المكرمة). ما يعنينا في هذا السياق هي شهادته التي تناقض ادعاءات بريطانيا بأن مكة المكرمة هي مركز الوباء ومنشؤه، وكان بشهادته تلك يعزو تفشي الوباء بين الحجاج إلى إصابة حجاج الهند بالذات، ومن ثم نقلهم الوباء إلى مكة المكرمة. ويمضي كورتيلمون في الحديث عن الإجراءات التي اتخذتها الدولة العثمانية للسيطرة على الوباء من خلال إنشاء حمام بخار بإزاء قصر الشريف عبدالمطلب أمير مكة حينها -وهو قصر البياضية أو ما يعرف اليوم بقصر السقاف بالمعابدة- إذ تقضي الأوامر العثمانية بمرور كافة الحجاج القادمين من منى بوضع ملابسهم بداخل الحمام ليتم تطهيرها بالبخار. غير أن كورتيلمون لم يخفِ تذمره من هذا الإجراء بقوله «أي ضلال هذا الذي دفع الأطباء لبناء حمام تطهير داخل المدينة؟»، مشيراً إلى ضيق مساحة تلك المنشأة التي استشاط السكان غضباً من وجودها بمدينتهم، فقاموا بالاعتراض لدى الشريف، ثم عملوا على تدميره بأيديهم، إذ لا يُقبل لديهم وفي ثقافتهم أن تخلع النسوة ملابسهن هناك تحت أي ذريعة.
تكشف الوثائق البريطانية سعي ساسة بريطانيا لبسط نفوذهم على الحجاز في القرن التاسع عشر الميلادي، من خلال اللعب بورقة رعايا المستعمرات البريطانية من المسلمين؛ غير أن الدولة العثمانية وولاتها في الحجاز كانوا على وعي كامل بخطورة التدخلات الغربية في شؤون الحج، ومساعي تدويل إدارة تلك الشعيرة الإسلامية. وليس أدل على ذلك دور الوالي العثماني الأشهر في الحجاز (عثمان نوري باشا)، صاحب الإصلاحات الضخمة في مكة المكرمة؛ في صد محاولات بريطانيا من خلال رجالها في الشرق أو بعض رعاياها. ومن أوجه تلك السياسة ما كان من منع عثمان نوري باشا للمحسن الهندي (نواب) القادم من مدينة رامبور الهندية من التكفل بعمل إصلاحات لعين زبيدة. ويأتي هذا الإجراء من قبل الوالي تحوطاً من طلب ذلك المحسن وضع رجاله على لجنة الإشراف على تلك الإصلاحات، وهو ما يعد مسوغاً محتملاً للتدخل في إدارة المشاعر المقدسة.
 لطالما كانت بريطانيا، وبخاصة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ تتحين الفرص لفرض هيمنتها على إدارة الحج، وهدفت من خلال تلك المساعي إلى إضعاف دور الدولة العثمانية في الحجاز، ذلك الإقليم الذي كان ولا يزال يمثل أهمية كبرى في الوجدان الإسلامي وحتى العالمي من الناحية الروحية والسياسية.

 

pantoprazol 60mg oforsendelse.site pantoprazol iv
ذو صلة