في بدايات التاريخ البشري التي أوصلت الإنسان الحديث إلى أوج الحضارة، وأصبح هو في قلبها؛ تأتي الكتابة الكائن الأسطوري الذي سبق الكلام المرتبط بالسحر والشعر، لدى إنسان ما قبل التاريخ. وبالطبع كان هذا الإنسان ما قبل التاريخي يدون تأملاته الكونية والميثولوجية بما تحويه مخيلته من أفكار أسطورية بسيطة، حاول أن يفتش بها هذا الإنسان الذي تتحدر منه الآدمية عما وراء الظواهر.
تأتي الكتابة كطريقة من ابتكارات الإنسان للغة العالم من حوله، ابتداء من الحضارة السومرية، وليس انتهاء عند الحضارة الحديثة التي أصبحت تتعاطى مع الكتابة اللوحية من جديد، ولكن بشكل تكنولوجي هائل في التطور. لينتقل الإنسان من الكتابة على الألواح والجدران في الكهوف، إلى الإنسان الحديث بالكتابة من جديد على الألواح والجدران الإلكترونية الافتراضية، بمعنى أن ما بعد الحداثة هو عودة إلى أوج البدايات، ولكن بكامل التقنية البشرية الحديثة.
كانت الكتابة كما أسلفنا منذ ما قبل التاريخ ارتباطاً بالعالم الغيبي والسحر، كانت الكتابة الأدبية أرفع أشكالها، أو بوابة المعرفة إلى العلوم الأخرى، كما في الملاحم التاريخية العظمى، والتي هي بالضرورة تأملات ميثولوجية وسحرية للعالم.
التراث العربي يقول: «قيدوا العلم بالكتابة»، هذه الكتابة التي استطاع بها الإسكندر الكبير أن يغزو العالم القديم، لتصل الحضارة اليونانية إلى أوجها التاريخي، حيث طفولة الفلسفة، ولدت بين أحضانها، وما زالت كذلك، ليتلقفها العرب المسلمون بترجماتهم وتدويناتهم في أوج حضورهم التاريخي الذي لولاه لما استطاعت الحضارة الغربية أن تقوم على قدميها بعدما غرقت في العصور المظلمة. كل ذلك من خلال العالم الكتابي، ابتداء من الأدب الذي يمثل أرفع قيمة تقدمها الحضارة، بل هو معيار حقيقي لمقدار صعود أي حضارة من الحضارات أو انقراضها التاريخي من خلال آدابها الكتابية الحية بالفنون والعلوم والفلسفة.
لا شك أن الغرب أدرك أهمية الكتابة لاحقاً، بعدما غرق العرب في سباتهم الأيديولوجي العميق، إلى أجل غير مسمى.
كما يشير فوكو في «الكلمات والأشياء» عن علاقة المعرفة بالسلطة، والتي من وجهة نظره، باعتباره مؤرخاً للفكر الإنساني؛ لها دور كبير في إنتاج الأفكار وإبداعها.
أليست الكتابة هي التي جعلت الغرب يقتحم العالم، ابتداء من التنوير الأوروبي والثورة الفرنسية واكتشاف الآلة الكاتبة، في بدايات القرن الثامن عشر 1714م، مع هنري ميل، أثناء سبات العالم الأيديولوجي، ومع محاكم التفتيش القروسطية وضحايا الاضطهاد وحروب الكاثوليك والبروتستانت. هل يحق لنا أن نقول إن الغرب تطور مع بداية اكتشافه لهذه الآلة السحرية المسماة الآلة الكاتبة، ليقتحم العالم، ويستثمر وينهب خيراته، كما حدث مع نابليون بونابارت ومع بريطانيا العظمى وكل الإمبراطوريات العالمية الحديثة الرأسمالية والشيوعية، وقد أنتجت آداباً وفلسفات اخترقت كل اللغات الإنسانية عدا لغتها الأصل لغة الفن والإبداع.
أدونيس في أطروحته الأدبية الفكرية المهمة؛ تتبع مفهوم الثابت والمتحول لدى العرب، وقد استل هذين المفهومين من جذور التراث الإسلامي، فرصد من خلالهما نمو الفكر الإسلامي وأدبه من خلال القطيعة والتجاوز، حيث رأى ذروة الحداثة العربية متمثلة في تجديدات الشاعر أبي نواس في الأساليب واللغة الشعرية والمضمون الذي يختلف جذرياً عن الشعر والأدب في بداية الإسلام، حيث يرى أن بلاغة النص القرآني وقوة حضوره قد أثرت أو التهمت كل شكل بلاغي آخر بما فيها النص الشعري في بداية الإسلام، بل تم توظيفه لخدمة الأيديولوجيا، وتأتي الدولة الأموية ومحاولات تجديدية من قبل بشار بن برد والجاحظ، وبعد ذلك الدولة العباسية مع الانفتاح الواسع على الترجمات اليونانية والهندية، وتنجب الحضارة الإسلامية فلاسفة من أمثال ابن سينا والكندي والفارابي وأبي حيان التوحيدي وابن المقفع والمتنبي والمعري وابن رشد.. إلخ.
ويأتي خريف الحضارة الإسلامية مع هولاكو لتعود الحضارة الإسلامية إلى سباتها من جديد.
على إثر ذلك يأتي دور الغربي الذي من خلال فتوحاته المعرفية الفلسفية واللغوية والأنثربولوجية، ومن خلال تحقيبات المستشرقين، وإعادة قراءاتهم للتراث الإسلامي، ومن خلال أحدث المنهجيات الغربية؛ بدأت بالتنوير والحداثة، وما بعد الحداثة، ولم ينتهِ هذا الغربي عندها.